مدونة حلمي العلق

سلوكيات قرآنية .. فلنبدأ بالحقوق

على المهتم والمتدبر في كتاب الله العزيز أن يبدأ في تحقيق السلوكيات التي يتطلبها منه القرآن الكريم بموازاة أخذه للعلوم القرآنية المختلفة، إذ لا ينفع أن تكون عقولنا معبأةً بالكثير من المصطلحات والتعابير والمفاهيم القرآنية، ولكننا في الجانب العملي والتعاملاتي نخطئ ولا نعير أي أهمية لما يأمر به القرآن ويدعو إليه.

واحدة من تلك السلوكيات الهامة، اهتمام القرآن الكريم بحقوق الآخرين، وهذه جنبة يمكن من خلالها اكتشاف حقيقة التعلق بالقرآن ومدى الإيمان به، وعلى المؤمن أن يجعل منها مقياسًا لمدى تعلقه بكتابه، والجوانب الحقوقية كثيرة تشتمل على الحقوق الأدبية والمادية، والتي في نهايتها تعطي صورة ناصعة لهذا المؤمن، وتجعل منه إنسانًا ليس مقبولًا وحسب بل وموثوقًا فيه.

واحد من أهم تلك العناوين التي اهتم بها القرآن الكريم على أن تكون سلوكًا يتصف به المؤمن هو احترام حقوق الآخرين في المداينات المادية، وذلك من خلال توثيقها وتدوينها بالطريقة التي نص عليها القرآن الكريم. ونرى ذلك جليًا في أطول آية وهي آية [282] من سورة البقرة، والتي أكدت وشددت على هذا الجانب الحقوقي :

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلْ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى وَلا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلاَّ تَرْتَابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمْ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ البقرة [282]

الآية المباركة واضحة بيّنه، ولا يختلف على مضامينها أحد، وتطبيقها العملي يلغي الكثير من المشاكل البينية والفتن بين الأشخاص، وقد نشاهد ونرى ما يسببه عدم تدوين الديون من فساد العلاقات بين الأطراف، ، ولو وثقت لما كان للشيطان مدخلًا لإفسادها والإيقاع بين الأشخاص.

فإذا كان الأمر واضحًا في أطول آية في القرآن، ومؤداه هذا الفساد، نتساءل حين نرى تهاونًا في تطبيق هذا الأمر، ما الذي يمنعنا من اتخاذ هذا الأمر ووضعه في موضع الجد والاهتمام؟ وخصوصًا إذا كنا ندعي تعلقًا بكتاب الله؟ سنرى الإجابة واضحة، ذلك لأننا لم نولي الحقوق أهمية في حياتنا الإيمانية العملية، ولم ندرجها في سلوكياتنا لتكون جانبًا أصيلًا في شخصياتنا! وقد نكون أولينا بعض العلوم البعيدة عن التطبيق أهمية أكبر من الجانب التطبيقي والعملي، أو أننا توجهنا من خلال تدبرنا انطلاقًا من تزكية النفس والنظر إلى معايب الواقع أكثر من النظر في نواقصنا ومعايب أنفسنا.

ويمكننا أن نضيف إلى ذلك حب الإنسان للمال حبًا جمًا كما قال الله عز وجل في كتابه ﴿ وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبّاً جَمّاً ﴾ الفجر[20]، فقد تضعف النفس أمام ذلك الحب وتنشغل عن الالتفات إلى هذه الأوامر الهامة، وقد تنهار القيم والمبادئ القرآنية حين يقع المرء فريسة هذا الحب فلا يهمه بعد ذلك حقوق الآخرين.

لقد أولى القرآن الكريم موضوع التعامل المادي مع الآخر أهمية كبرى، فمن خلال هذا التعامل يمكن كشف حقيقته مدى تعلق الإنسان بقيمه الإيمانية المنصوصة في الكتاب، يقول الله عز وجل عن بعض من أهل الكتاب:

﴿ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِماً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ۝ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ۝ إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ وَلا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ آل عمران [75]-[77]

لماذا اختارت هذه الآيات أن تصف أهل الكتاب في هذا الجانب بالتحديد؟ لأن اهتمامهم بأداء الحقوق للآخرين يكشف حقيقة تعلقهم بقيم الكتاب، وخصوصًا في الحقوق المادية.

الآية المباركة تتحدث عن طائفة من أهل الكتاب يدّعون أن الله لا يؤاخذهم إن هم لم يؤدوا حقوق الأميين، أي إن هم أخلوا بالأمانة مع من هو من غير أهل الكتاب، فهم يعتقدون أن الكتابي لو تداين من غير الكتابي ولم يؤد له دينه فلن يحاسبه الله على ذلك، ولكن الله عز وجل رد بقوله ﴿ بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ فالله عز وجل يريد شخصية إيمانية تفي بالعهود مع الآخر أيًا كان انتماؤه أو عقيدته وديانته، وخصوصًا في المال والمداينات.

عودة لآية المداينة في سورة البقرة - آية [282] - وبتأمل سريع فيها نجد الحرص الكبير على حقوق الآخرين في هذا الشأن، والتشديد على ضرورة توثيق الدين من خلال الكتابة وإحضار شاهدين، وإن لم يكونا رجلين فرجل وأمرأتان، ثم إن الآية تشدد بأن لا يمنعكم السأم من كتابة ذلك الدين حتى وإن كان صغيرًا.

هذا الأمر يتأكد أكثر على المدين، فالدائن قد يقع في حرج مطالبة المدين بتطبيق هذا الأمر، ولكن على المدين المؤمن الحريص على حقوق الآخرين والحريص على تطبيق ما أمر الله به، هو من يبادر في إقامة هذا الأمر وتطبيقه ابتغاء مرضاة الله، وتزكية لنفسه وتهذيبًا عن التلاعب في حقوق الآخرين.

على المتدبر والمتعلق بكتاب الله، ومن أجل أن يكون قرآنيًا حقيقيًا، عليه أن يبدأ بمجاهدة نفسه في تحقيق منظومة الحقوق بينه وبين الآخر، وأن يتعرف على مواطن الخيانة في نفسه، قبل أن يحددها في الواقع والمجتمع، وأن يسعى لتحقيق مطالب القرآن الواضحة والبينة والتي تشير إليه وتستحثه لتطبيقها، قبل المطالب التي تشير إلى غيره، فهذا هو هدف التدبر الحقيقي، وهو السبيل للنجاة من الملاحقة القانونية الربانية التي لا مفر منها يوم القيامة، بأن نسلك السلوك القرآني في حياتنا وتعاملاتنا قبل أن نحول القرآن إلى حالة ثقافية جدلية غائبة عن التطبيق في الواقع.