خطوات نحو الشرك
يقول الله عز وجل :
﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون ﴾ الروم [10]
لا يكفي الادعاء بالإيمان بالآيات، ولكن الإيمان الحقيقي يكمن في التطبيق وفي السير وراء الحقيقة ومحاربة النفس، الذين يدعون الإيمان بالآيات ولا يؤمنون بها ولا يطبقونها، ساعين لتصدير صورة إيمانية عن أنفسهم رغبة في اكتساب أتباع، هم بطبيعة الحال يحوّلون المجتمع الديني إلى شيع وأحزاب، لأنهم يريدون أن يتمسكوا بمصدر قوة، وهنا تكمن قوتهم، ليس لديهم قوة في مجال البحث عن الحقيقة، ولا يملكون القوة في التنازل للحقيقة والسير خلفها، لأنهم يخسرون بذلك مكانتهم وقيمتهم الدينية التي من خلالها يحصلون على أتباع، لذا يقفزون عن هذه الجزيرة، ويذهبون إلى جزيرة أخرى، يضعون لهم فيها منبرًا عاليًا، ويسمون ذلك المنبر منبر الحق والهدى، ثم ومن خلال صعودهم على ذلك المنبر واستحواذهم عليه، يبدأون في تصنيف الناس إلى أتباع هدى وحق، وأخرين أتباع باطل. وهم في الحقيقة يجعلون من أنفسهم نقطة مرجعية بحيث يبدأ الناس يقيسون إيمانهم وبشكل تلقائي من خلال اقترابهم أو ابتعادهم عنهم، وتلك خدعة عقلية تجعل من الناس أنصارًا لهم دون وعي.
ما يفترض من المؤمن هو أن يجعل من القرآن والحقيقة والعدل والحق مصدرًا مستقلًا عن الأشخاص، ليتمكن بعد وضع هذا المقياس من قياس الناس أيهم أقرب لذلك الحق، ولأن هذه القاعدة تجعل الناس كلهم تحت طائلة المحاسبة، ولأن الهوى غالب على عقل الإنسان، ترى القلة الذين يستطيعون السير على أساس هذه القاعدة التي تميّز الرجال، والتي يفهم من خلالها الواقع.
هي قاعدة بسيطة، أبسط من أن يقع المؤمن في حيلة تبعده عنها، إلا أن التجارب تقول أن كثيرًا من المؤمنين جرتهم حبائل وحيل للوقوع في ذلك المطب، وبالتدريج تحولوا من أتباع حق وهدى، إلى أتباع أشخاص، وبالتدريج يتمزق المجتمع المتدين مرة أخرى، بسبب غلبة الهوى، وتراجع العقل عن الحركة.
وهنا يأتي الحديث عن هذه الآية المباركة : ﴿ ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوءَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُون ﴾ الروم [10] ، لتعبر عن الخطوات الأولى التي يخطوها المؤمن في مسيرته نحو الله، ونحو الهدى والحق، فحين يخالف الآية يسئ باستهتار منه، ويكون بذلك قد استهزأ بالقيم التي ادعى أنه قد آمن بها، لتكون النتيجة هي مزيدًا من الاستهتار، ويكون العقاب الرباني من جنس العمل، فيتحول هذا المسيء إلى مكذب بآيات الله عمليًا، فيبقى الشكل العام وهو الإيمان بالآيات، والتمسك بالقرآن، ولكن المضمون خال من كل تلك القيم، والوقوع في الشرك يكون نتيجة حتمية لذلك التكذيب.
ذلك لأن الشرك يأتي كنتيجة لتنازل المؤمن عن قيمه وعقله وقلبه وهما أدوات رؤية الحق والهدى، والانزياح بالتدريج إلى الاتباع على أساس الثقة، وعلى مبدأ وجود الشخص الأمثل في الدين، فلا تكون نتيجة لذلك كلمة الله هي العليا، فقد حجبت وانحجبت بفتنة ذلك الشخص، والذي لا يلبث أن يتجسد كصنم في النفس ثم في الواقع.
هذا التدرج الخفي هو الشرك الخفي، الذي يتسلل كل مرة إلى جسد المجتمع المؤمن، لأن الانتقال من تصديق الحق مطلقًا، إلى تصديق الشخص مطلقًا، يتم بلطف وخفاء، ومع الوقت دون إدراك من المؤمن المتكاسل عن التمسك في الحق بكامل عقله، ومن خلال تغلب مشاعر العاطفة على المشهد يتطرف المؤمن لنصرة الشخص (الأمثل) عن نصرة الحق البين والواضح.
هي الفتنة المتكررة عبر أجيال الرسالات، ومدعي أتباع الكتب السماوية، لذا تعقب سورة الروم وبعد عدة آيات بعد تلك الآية الكريمة بالقول : ﴿ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ ﴾ الروم [31]-[32]، لتحذر المؤمنين من الدخول في الشرك من بوابة المشايعة، فالمشايعة هي اتباع لشخص تضع فيه كل ثقتك، يعزز فيك الانتماء، لتفرح بهذا الانتماء، ليقودك بعدها ذلك الفرح للتفرق عن الأصل المشترك، وتبدأ في الفرح بنفسك، أكثر من فرحك للحق البيّن الذي لا انتماء ولا لون ولا صبغة ولا طائفة له، ومن بعد ذلك التفرق تتحول كل تلك الفرق والاتباع إلى فرق مشركة بعد أن كانت يومًا من الأيام أمة واحدة تحت ظلال التوحيد.
لذا فالذي لا يؤمن بالآيات ولا يتمسك بها ويسيء، يتحول إلى مشرك، والذي لا يُفعّل العقل والتفكر في الآيات وفي الواقع، ينساق وراء الشرك دون أن يشعر، لأن وسيلة رؤية الحق من خلال المقياس الثابت (وهو القرآن) هو ذلك العقل الذي يفكر فيه ويتأمل من خلاله في الواقع، ومالم يتفعل ذلك العقل، سيجد المؤمن نفسه أسير الاتباع الأعمى والعزة الواهمة.
اللهم اجعلنا من أهل الحق وأتباعه، ونجنا من الوقوع في الشرك يا أرحم الراحمين.