أحكام مشتركة
| The-Quran-and-the-People-of-the-Book# مقدمة
لازلنا نتحدث حول عنوان القرآن وأهل الكتاب، بدأنا في هذه السلسلة تحت عنوان : " لا تكونوا أول كافر به" وهو الخطاب الموجه لبني إسرائيل في القرآن، ثم "البشارة" وهي البشارة المتعلقة بالنبي محمد في الكتب السماوية السابقة، ثم "التحكيم" والذي يعني أن نفرًا من أهل الكتاب كانوا يتحاكمون عند النبي محمد (ص)، ثم أخيرًا كانت الحلقة الرابعة تحت عنوان " الجدال " ونقصد به الجدالات التي دارت بين النبي محمد وأهل الكتاب. نود الإشارة إلى أننا هنا لا نحصي كل الآيات التي تحدثت حول هذه العلاقة ولكن نشير إلى بعضها بما يساعد لفهم بقية آيات القرآن.
عنوان "الجدال" يعد ركيزة أخرى لفهم هذه العلاقة، وقلنا بأن تلك الجدالات لم تكن لو لم يكن أساس دعوة النبي أنها مصدقة للتوراة على أساس العقيدة والأحكام، فعلى هذا الأساس انبنى القياس المشترك الذي اجتمع عليه المتجادلون، ومن خلاله امتازت الاختلافات و المخالفات في الأحكام والعقائد وعلى أساس تلك المخالفات ظهر الجدال.
كان اختلاف أهل الكتاب عن الدعوة يؤدي إلى تكذيب رسالة النبي محمد (ص) من خلال إثبات أنه مخالف للتوراة، ولكن مطالبة النبي بإحضار التوراة للاستشهاد بها أثبت أنه سائر على نهجها، وكشف أنهم خارجون عنها وعن أحكامها، وأكمل حجة الله عليهم بصدق رسالته.
لقد فهمنا من خلال الجدال الدائر بين الرسالتين وجود مقياس واحد يتم الرجوع له والاحتكام إليه، وقد فهمنا من خلال ذلك الجدال بعض الأحكام المتطابقة، في هذه الحلقة نكمل المسير ونشير إلى حكمين من الأحكام التي أكد القرآن أنها موجودة أصلًا لدى أهل الكتاب وأنهم يعرفونها حق المعرفة، الأول هو حكم أساسي في الملة وهو اتجاه القبلة المتمثل في المسجد الحرام الذي تم التطرق له في الحلقة السابقة بصورة مقتضبة حين استعرضنا آيات من سورة آل عمران، والثاني في أحكام النكاح.
# أحكام مشتركة
# الحكم الأول: القبلة
يقول الله عز وجل في موضوع تبديل القبلة:
﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ البقرة [145]-[146]
تقول الآية المباركة للنبي محمد (ص) متحدثة حول حكم تبديل القبلة بأن أهل الكتاب لن يتبعوا قبلتك ولو أتيتهم بكل الآيات التي تحدثت عن حقيقة هذا الحكم ﴿وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ﴾، وهذه الآيات هي التي سيثبت من خلالها النبي أن القبلة الحق هي المسجد الحرام، فإذا كانوا لا يستجيبون للنبي في هذا الحكم الذي أنزله الله عز وجل في القرآن، فالنبي سيثبت لهم مما لديهم أنه الحق، ولذا فإن الآيات ستكون من التوراة لأنه كتابهم الذي يحاجون به، ذلك لأنهم مخالفون للقرآن في هذا الحكم، ويعتبرون أن حكمه مخالف للدينهم، والآية تتحدث على هذا الأساس، فلو أتى النبي بآيات لهم فستكون من التوراة، لكنها لا تجدي نفعًا في ثنيهم عن غيهم وإرجاعهم عن ماهم عليه الآن.
وعلى أساس اتباع النبي محمد (ص) للقرآن والتوراة معًا فإن الآية تقول : ﴿ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ ﴾ فانت – يامحمد - سائر على الحق الذي تعلمه عن ملة إبراهيم من خلال القرآن، وفي هذا إشارة إلى قوة محاججتهم للرسول ورفضهم لما أنزل عليه في أن تكون القبلة هي المسجد الحرام. أما حين تقول الآية:﴿ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ ﴾ فهي تبيّن أن أهل الكتاب أنفسهم تفرقوا إلى اتجاهات مختلفة، وتسمي سبب تلك الاختلافات "أهواء" ﴿ وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ ﴾، إذًا ما تدعيه كل طائفة منهم في حقيقة اتجاه القبلة هو أهواءٌ غير مستندة للحقيقة، وهذا يعني أن الحقيقة في هذا الشان واحدة وثابتة من نبي الله إبراهيم، أما النبي فهو يتحدث بالعلم الثابت في التوراة والنازل له من عند الله في القرآن. وفي استخدام الآية الكريمة للفظة " اتبعت " في مخاطبتها للنبي إشارة بيّنة إلى محاولاتهم الملحة معه (ص) في سبيل تغيير عقيدته في هذا الحكم.
﴿الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ البقرة [146]
هناك فريق من أهل الكتاب لا يعلم حقيقة الحكم في التوراة، ويجادل بجهل في هذا الأمر وأولئك هم السفاء الذين تقدم الحديث عنهم بداية المقطع الذي تناول موضوع تبديل القبلة بقوله تعالى " سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها"؟ ، في مقابل تلك الفئة هناك فئة أخرى لديها حقيقة العلم المذكورة في التوراة والمتعلق بهذا الخصوص، ويعبّر عنهم القرآن بقوله "الذين آتيناهم الكتاب" : ﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾ فهؤلاء يعرفون آيات الكتاب المقدس معرفة تامة كما يعرفون أبناءهم، وهذه المعرفة تؤهلهم لمعرفة حقيقة ما يطرحه القرآن الكريم في هذا الصدد، ولكن فريقًا منهم يكتم الحق ولا يعلنه ﴿ وَإِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾.
وهذا يؤكد أيضًا أن فتنة القبلة إنما كانت بتبديلين وليس بتبديل واحد، فقد كانت القبلة أولًا هي المسجد الحرام، ثم تبدّلت إلى المسجد الأقصى في مدة قصيرة هي مدة الفتنة، ثم جاء التبديل الثاني بالعودة إلى الاتجاه الحق وهو المسجد الحرام ليتوافق ذلك مع ما هو موجود أصلًا في التوراة، وهو ما تعنيه الآية التالية حين تتحدث عن حجة الناس على النبي والمؤمنين التابعين له.
﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ البقرة [150]
هذه الآية المباركة تأمر النبي والذين آمنوا معه بالتوجه للمسجد الحرام كقبلةٍ ثم تعلّق على ذلك الحكم بقولها : ﴿ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ﴾، الآية تقول للنبي (ص) كانت للناس عليكم حجة عندما توجهتم للمسجد الأقصى، أما الآن وقد توجهتم للمسجد الحرام، فلا حجة للناس عليكم، فما هي هذه الحجة التي تكون على المؤمنين حين لا يتوجهون إلى المسجد الحرام؟
الحجة تكون على المؤمن بما ألزم نفسه به أمام الناس، وبما ادعى أنه سائر عليه، فإذا خالف ذلك الالتزام لزمته الحجة، وتلك الحجة لن تكون آية من القرآن لأنه حادث جديد النزول، ولكنها قديمة قبل النبي محمد (ص) ويمكن للناس القياس من خلالها على سلوك الرسالة الجديدة، لذا يمكن أن نقول أن الحجة أقدم من الحاج والمحجوج، أي أن الحجة التي يحتج بها في هذا الموقف أقدم من المحجوج الذي يحتج عليه، وبمعنى آخر أن الناس مخصصة لحملة التوراة تحتج بالتوراة على أتباع القرآن في هذ التبديل.
وتكون الحجة على المؤمنين حين لا يتوجهون للمسجد الحرام، والحجة عليهم من التوراة، ولا يكون ذلك إلا إذا كان الحكم في التوراة هو المسجد الحرام، هذا أولًا، ثانيًا: أن النبي والذين معه يدعون أنهم يتبعون التوراة، وأن القرآن جاء مصدق لها ولأحكامها، فإذا خالف المؤمنون هذا المبدأ كانت الحجة عليهم، فيقال لهم: هاأنتم هؤلاء تخالفون ما تدعون أنكم عليه، فهاأنتم تخالفون اتجاه القبلة بالتوجه لغير المسجد الحرام، وهذا مخالف للتوراة. أما توجه المؤمنون للمسجد الحرام فهذا يجعل من ادعاءهم مطابق لفعلهم، فتلغى الحجة عليهم ويكونوا هم دعاة التمسك بكتب الله المنزلة بحق. وهذا ما يؤكد أن حكم تبديل القبلة مر بتبديلين، الأول إلى المسجد الأقصى كفتنة، والثاني هو العودة للحكم كما كان سابقًا.
ثم تستثني الآية من فئة الذي يحتجون على النبي والذين معه بقولها ﴿ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ﴾ أي باستثناء الذين ظلموا فلن يكون لهم حجة عليكم، وهذه الفئة ظلمت لأنها خرجت عن كتب الله ولا تحاجج بالتوراة، وإنما تحاجج بغيره، وأسمت الآية ذلك بالظلم لعلاقته بالشرك المنهي عنه، فالشرك ظلم عظيم. وهذه الفئة تحاجج من أجل كسر إرادة النبي والذين معه في التمسك بكتب الله المنزلة، ثم تختم الآية بقولها : ﴿ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ﴾ والخشية تكون في الأغلب من الخوف من الاعتداء الجسدي واللفظي، والله يطمئن المؤمنين من هذه الفئة الظالمة المعتدية، ويؤكد للمؤمنين أن السير على هذا الحكم هو الهدى وأن الله قد أتم عليهم النعمة به ﴿ وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾.
نورد الآن آيات أخرى تشير إلى أن ما نتعلمه من أحكام بخصوص موضوع النكاح من القرآن إنما هو نقل لتلك الأحكام لسنن الأولين الذين سبقونا بتعلم الهدى من كتبهم السماوية.
# الحكم الثاني : أحكام النكاح
يقو الله عز وجل
﴿ وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنْ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ النساء [25]-[26]
﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ النساء [25]-[26]
الحديث في الآيات السابقة حول حكم النكاح، وبغض النظر عن تفاصيل الحكم، فإن الآية التالية تبين أن الأحكام الواردة في هذا الشأن إنما هي سنن الذين من قبلنا، والله عز وجل يبين هذه السنن من خلال القرآن الكريم: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ ، والتساؤل المهم في هذا الشأن: من هم الذين من قبلنا؟ ولماذا يريد الله أن يبين سننهم؟
لقد وجدنا أن الله عز وجل أورد هذه الأحكام في سورة النساء وتوعد المخالف لها، فلا يمكن أن تكون هي سنن أقوام لم ينزل عليها كتاب، لأن الله عز وجل سيحاسبنا عليها ويريد منا أن نطبقها من أجل صلاح الحياة، ولم يأت هذا التبيين كاستعراض تاريخي لما كان عليه الأوائل من قوانين في الزواج والنكاح، ولا ينقل لنا هذه الأحكام من الأولين ومن سننهم، إلا إذا كان المقصود بتلك السنن هي سنن أهل الكتاب، والله عز وجل يريد أن يبيّن هذه السنن لأنها سننه التي أنزلها في كتبه السابقة، فالقرآن لا يريد منا أن نلتزم بقوانين ابتدعها الإنسان، ولكنه يلزمنا دائمًا بأحكام نازلة من عند الله عز وجل. فأراد أن تكون هذه الآيات وثيقة يلتزم من خلالها المؤمنون. وعليه فأتباع القرآن في حكم النكاح إنما يتبعون أحكامًا كانت نازلة في الأصل على الذين من قبلهم في الكتب السماوية السابقة.
# خاتمة
تحدثنا في هذه الحلقة عن حكمين، الأول عن حكم القبلة والثاني حول حكم الزواج، ولقد لاحظنا من خلال استعراض آية تبديل القبلة، حالة من التداخل بين أهل الكتاب والنبي محمد (ص) والسؤال يتكرر – كما بيّنت الحلقة السابقة – إذا كان الحكم الوارد في التوراة مختلف عن الحكم الوارد في القرآن، فلم هذا التداخل بين الفريقين؟ ولم يقع الجدال بينهما أصلًا؟ فكل فئة تعمل بما جاء في كتابها! لكننا نرى هذا التداخل في هذا الحكم بين أهل الكتاب الذين هم – من المفترض - أتباع التوراة وبين النبي محمد (ص)، مما يدل على أنهما يتحاجون حول حقيقة واحدة قد أنزلها الله ولم يبدلها في كتبه المنزلة.
الآيات التي تحدثت عن هذه الحادثة تؤكد على حقيقة تاريخية وهي أن المؤمنين دعوا الناس للرجوع للكتب السماوية والتمسك بأحكامها وترك البدع في الدين، وأنهم تمسكوا بأحكام التوراة من خلال التمسك بالقرآن الكريم لانطباق الكتابين. وقد بدلت بعض الطوائف اتجاه قبلتها باتجاهات مختلفة، رغم ما يعتري هذا التغيير والتبديل من صعوبة، ومع ذلك نجد أن الآيات تبين أن أهل الكتاب أنفسهم تفرقوا إلى أكثر من اتجاه، كل طائفة حسب أهوائها.
وهنا يمكننا أن نميّز بين ما هو مشاع في مجتمع أهل الكتاب، وبين ما يعلمه أتباع التوراة الحقيقيون والقريبين منها ، فالسفهاء البعيدون عن كتابهم يقيسون الصواب من خلال الشياع الذي ألفوه وتعودوا عليه من آباءهم، وعلى هذا الأساس يقيسون صدق دعوى النبي من خلال تلك الألفة التي تعودوا عليها، أما الفئة القلة القليلة التي تعلم من الكتاب ما تعلم، لكنها تكتم الحقيقة رغم علمها، وما كتمانها ذاك إلا دلالة على أن القرآن جاء بالحكم كما جاءت به التوراة. والقياس الحقيقي يعود للكتاب وليس للقياس.
إذًا من خلال الآيات المباركة والواقعة في مقطع تبديل القبلة يتضح أن حكم القبلة في التوراة هو المسجد الحرام وليس سواه، وهو حكم واحد في الملة حكمت به التوراة ومن قبل التوراة حكمت به ملة إبراهيم الخليل، وهذا الحكم هو من أهم الأحكام التي تؤكد اشتراك التوراة والقرآن في أحكامهما وعدم اختلافهما في ذلك.
أما في الحكم الثاني وهو في أحكام النكاح فقد وجدنا آية بيّنة تؤكد أن القرآن يعلم من اتبعه سنن الذين من قبلهم، ولا يمكن لهؤلاء الذين من قبلهم إلا أن يكونوا أهل كتاب، حتى يكون العقاب على المخالف لتلك السنن على مخالفة أمر الله وليس على مخالفة عادات وتقاليد الذين سبقوهم.
بهذا نضيف إلى الأدلة التي سبقت في سياق البحث حول أهل الكتاب والقرآن الكريم دليل آخر وهو وجود أحكام مشتركة، ليتأكد لنا أن القرآن طابق أحكام التوراة في اتجاه القبلة، وفي أحكام النكاح، لتتثبت حقيقة وهي أن ما هو موجود في القرآن في هذين الحكمين ماهما إلا نسخة مطابقة لما جاء في الكتب السابقة، أما بخصوص بقية الأحكام فإذا ظننا أنه ألغى أو عدّل أو غير على أحكام أخرى، فهذا توَهمُ سينجلي حين ندرس الأمر الرباني المتعلق بإقامة التوارة والإنجيل، وهو ما سيكون من الحلقة القادمة إن شاء الله.