الشهادة والنصرة
| The-Quran-and-the-People-of-the-Book# مقدمة
تحدثنا في الحلقة السابقة عن العبارة القرآنية " مصدقًا لما بين يديه " والتي يصف بها القرآن الكريم نفسه، وفهمنا من خلال الآيات المختلفة أن العبارة تعني انطباق العقائد والأحكام في آن معًا، نكمل الحديث عن هذا الموضوع وتحت عنوان " الشهادة والنصرة " ونعني بهذا العنوان ما كان متوجبًا على أهل الكتاب الذين علموا أن القرآن حق وأن رسالة النبي محمد حق من خلال ما وجدوه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل ومن خلال ما وجدوه من تصديق القرآن لكتابهم السماوي.
لقد وصف الله عز وجل حملة الكتب السماوية بأنهم شهداء، وهذا التعبير القرآني يعبر عن حملهم للتوراة، فمن كان يحمل التوراة أو الإنجيل ويعلم ما فيها، هو شاهد، فإذا طلبت منه الشهادة على حكم أو قضية من التوراة وأداها فهو شهيد، يشهد بما جاء في التوراة من أحكام وعقائد، ولأن القرآن الكريم مصدق لما بين يديه، وأهل الكتاب يعلمون بذلك، لذا كانت شهادتهم بهذا العلم أمام الناس هو نصرة للرسالة، وقد طلبت منهم النصرة فمنهم من آمن وشهد ونصر، ومنهم من كتم الحق وكفر وخذل نفسه بعدم النصرة.
ندرس هذا المصطلح القرآني من زاوية واحدة فقط وهي ما يتعلق بكون القرآن الكريم مطابق لما هو موجود في التوراة والإنجيل في الأحكام والعقائد.
# الشهادة والنصرة
يقول الله عز وجل
﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ آل عمران [98]-[99]
تأتي هتان الآيتان بعد الحديث عن حكم الطعام وعن أول مسجد وضع للناس، وقد احتجّت الآيات السابقة بالتوراة على حكم الطعام الذي يدعونه، وطلبت منهم إحضارها وتلاوتها من أجل إحقاق الحق، ثم تحدثت عن أول بيت وضع للناس هو البيت الحرام في مكة المكرمة، ذلك لأنهم غيروا وبدّلوا في أحكام الطعام، وكذلك بدلوا في حكم له أهمية بالغة وهو اتجاه القبلة، وهو ليس بالأمر البسيط الذي يمكن تبديله، ومع ذلك تبدل بل وأصبحوا يجادلوا لإثبات الحكم المبتدع.
ثم بعد هذا التبديل وبعد تبيين الحقيقة في القرآن الكريم، ذهبوا إلى أبعد من ذلك، فراحوا يصدون عن الحقيقة من يؤمن بها، وبعد الجدال المبني على أساس استجلاب الحجة والسلطان من الكتاب، جاءت هتين الآيتين لتوبخا أهل الكتاب على صدهم للدعوة من آمن بها، الآية تحدثهم عن كفرهم على أساس أنهم يعلمون أنها آيات الله، وتحذرهم من شهادة الله عز وجل على عملهم هذا، فهو العالم بما يعملون ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ ﴾.
في الآية المباركة التالية يصفهم الله عز وجل بالشهداء، ويقول موبخًا قومًا يعلمون حقيقة الدين وحقيقة القرآن مقارنة بكتابهم المنزل: كيف يصدر منكم يا أهل الكتاب أنكم تصدون عن سبيل الله المتمثل في الرسالة والقرآن العظيم، ولا تسلكون مسلك الكتب السماوية وتبغون العقيدة والأحكام عوجًا لتثبيت الهوى والموروث الذي وجدتم عليه آباءكم، ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً ﴾، على الرغم مما تمثلوه في الدين ﴿ وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ ﴾ وهذه الصفة تعبر عن مكانة القرب من كتاب التوراة أو الإنجيل والذي يحمل حقائق تثبت ما يقوله الرسول، ولكنهم كتموا هذه الشهادة واستغلوا موقعهم الديني من أجل إبطال رسالة القرآن، ولذا خاطبهم الله عز وجل على أساس أنهم يرتكبون جريمة فهم يكفرون ويصدون الناس عن الحق عن علم وليس عن جهل ﴿ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾.
للشهادة دور مهم في تصديق الناس بالرسالة، وهم لم يكتموا الشهادة وحسب بل وصدوا عن سبيل الله من آمن، يتضح لنا من الآية التالية دور الشهادة في الإيمان بالرسالة:
يقول الله عز وجل :
﴿ أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنْ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنْ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعاً مِنْ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ الأحقاف [8]-[10]
يعالج القرآن الكريم شبهة الافتراء بحوار عقلي إيماني هادئ، ففي هذا المقطع من الآيات يقول الله عز وجل ﴿ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ ﴾ واضعة احتمالية أن يكون القرآن من عند الله عز وجل وليس فرية من النبي محمد (ص) ، ليتساءلوا بعد هذا الاحتمال عن مصيرهم إن هم كذبوا به؟ ثم تدعم ذلك الاحتمال بشهادة من آمن من بني إسرائيل، وتواجههم بهذه الشهادة بقولها : ﴿ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ ﴾ أي أقر بأن ما سمعه من القرآن قد ورد مثله في التوراة، وهذه المثلية تؤكد صدق دعوى الرسول وأنه لم يأت بفرية ولا كذب، وقد كان ذلك سببًا في إيمانه، فما الذي يمنعهم من تصديقه والإيمان به ؟ هو الاستكبار ﴿ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ ﴾، وما نتج ذلك الاستكبار إلا بسبب شركهم الذي هو ظلم عظيم، ذلك الشرك الذي أنقصوا من خلاله حق كتابهم، فكفروا نتيجة لذلك بالقرآن ﴿ إِنّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾.
نلحظ في الآيات أيضًا أهمية بني إسرائيل في الشهادة، وهو أمر استنتجنا أهميته سابقًا حين درسنا ضرورة أن يكونوا أول مؤمن به بدلًا من أن يكونوا أول كافر به، و لقد تبدلت أحكام أهل الكتاب وشرائعهم، وعندما واجههم النبي محمد بالحقيقة استكبروا، وبدلًا من أن يؤمنوا ويشهدوا بالحق شهدوا شهادة الزور، ولقد اتضح ذلك في آيات أخرى في موقع الاحتجاج في الأحكام، كما هو الأمر في سورة الأنعام التي تحدثت عن محرمات لدى أهل الكتاب ما أنزل الله بها من سلطان.
يقول الله عز وجل:
﴿ قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ الأنعام [149]-[150]
جاءت هذه الآية المباركة بعد استعراض لآيات تحدثت عن انحرافات أهل الكتاب في بعض أحكام الطعام التي ما أنزل الله بها من سلطان، فحرموا ما لم يأذن به الله، ولقد وقفوا موقف محاججة مع الرسول على تلك المحرمات لرفضه إضافة تلك المحرمات على ماقاله الله عز وجل.
هتان الآيتان المباركتان تتحدثان عن طرح الحجة البالغة من قبل الله على لسان رسوله ﴿ قلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا ﴾ أي ائتوا بمن يقرأون التوراة ولديهم علم بها ليقروا بوجود هذه التحريمات فيها؟ والتي تحاولون تثبيتها! ويسمي ذلك الإقرار بالشهادة، فهم إن قالوا أمام الناس أن الله ذكر ذلك التحريم في التوراة، كان ذلك بمثابة شهادة منهم على ذلك، ﴿ َفإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ ﴾، فإن أقروا بذلك، فلا تقر معهم، ولقد سمى إقرارهم ذلك بالشهادة، وسمى إقرار النبي محمد بالشهادة أيضًا وأمره أن لا يشهد معهم بهذا الحكم.
ثم بين أنهم إن شهدوا بذلك الحكم فإن شهادتهم باطلة وما هي إلا اتباع لأهوائهم وتكذيبًا لآيات الله ﴿ ولا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا والَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾، مبينًا أن القوم بفعلهم هذا إنما عدلوا بربهم، أي جعلوا من يعادل الله في الحكم، وبالتالي من يعادله في القدر، فاصبح كلام غير الله مساوٍ لكلام الله.
وبهذا يتبين لنا أهمية الشهادة والتي مصدرها الكتاب، وأن مسألة شهادة أهل الكتاب جاءت في قضية تتعلق بحكم من أحكام الطعام، ويتضح أيضًا أهمية شهادة أهل الكتاب الذين سبقوا رسالة النبي محمد، كونها تؤكد أن القرآن الكريم كان مصدقًا لما قبله من الكتب السماوية، وهذه الشهادة هي جزء من النصرة التي أمرهم الله بها في كتبهم السماوية، وهو ما فهمناه في الدرس السابع تحت عنوان "الذين أوتوا العلم"، والذين علموا من كتابهم أن رسول قادم برسالة وعليهم أن يؤمنوا به وينصروه، ولكن كثير منهم لم يصدقوا، بل إن كثير منهم استبدل النصرة بالمحاربة.
ونختم هذا البحث بهذه الآية المباركة التي تتحدث عن نصرة رسالة القرآن الكريم، ونصرة النبي محمد (ص)
يقول الله عز وجل
﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنْ الشَّاهِدِينَ فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ ﴾ آل عمران [81]-[82]
في الآية الكريمة مخاطبين ومشار إليهم، المشار إليهم هم النبيون، والآية تشير إلى ميثاقهم مع الله، المخاطبون هم أهل الكتاب بدلالة السياق في الآيات السابقة التي تحدثت عنهم ﴿ وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ﴾، الآية تقول لأهل الكتاب أن الله عز وجل أنزل عليكم الكتاب، ولهذا الكتاب ميثاق، يسمى ميثاق الكتاب والذي ينص على أن لا يقول المؤمن بالكتاب على الله ما لا يعلم ﴿ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ الأعراف [169].
الآية المباركة تشير لميثاق النبيين، الذي هو ميثاق الكتاب، كتعقيب للآية السابقة التي ورد فيها نفي قاطع بأن يأمر النبيون الناس بأن يتخذوهم أربابًا من دون الله، وتقول بأن النبيين لا يفعلون ذلك لأنهم عباد لله مكرمون ولا يسبقونه بالقول وهم بأمره يفعلون، وإنما يأمرون الناس بأن يتمسكوا بأوامر الله في كتابه، ففي الإشارة إلى النبيين تأكيد على نفس مبدأ ميثاق الكتاب.
ثم بعد ذلك التأكيد ينتقل الحديث عن أهل الكتاب وهم المخاطبون في الآية و يقول ﴿ لما آتيتكم من كتاب وحكمة ﴾ أي كما أوتي النبيون الكتاب والحكمة فأخذ عليهم ميثاق الكتاب، كذلك أنتم يؤخذ عليكم نفس الميثاق لأن الله عز وجل أوصل لكم كتابه.
ثم يضيف على ذلك الميثاق، ميثاق آخر أخذ عليهم وهو منصوص عليه في الكتاب أيضًا وهو الإيمان بالرسالة القادمة ﴿ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ ﴾، فاستخدام (ثم) يدل على الفترة الزمانية بين نزول كتابهم إلى بعثة النبي محمد (ص)، أما قوله " لتؤمنن به ولتنصرنه" ففيه تأكيد على أن الميثاق قد شدد مسبقًا في الكتاب، ليصبح المعنى: لقد تم أخذ الميثاق عليكم في الكتاب أن لا تبدلوا أحكام الكتاب، وأن تؤمنوا بالرسالة القادمة وأن تنصروها، وهاقد جاء الرسول الآن كما وعد الله، وبقي الوفاء بالعهد، نلحظ كذلك أن النصرة مرهونة بالتصديق " مصدقًا لما معكم " فالتصديق للتوراة هو مفتاح الإيمان بالرسالة ومن ثم نصرتها، وهذا ما يؤكد على أن هذا التصديق إنما جاء على مبدأ التطابق في الأحكام والعقائد على حد سواء، وإلا لن يصدق ما معهم.
" قال أاقررتم " هي مطالبة بالإقرار على ما تم ذكره من حقيقة في مطلع الآية، أي إقرار بأن الله عز وجل قد أخذ على أهل الكتاب ميثاق الكتاب، وأخذ عليهم ميثاق النصرة، وهذا الذي يطالب بالإقرار هو في زمان تنزيل رسالة القرآن، حتى يكون ذلك مدخلًا لهم وسببًا في أخذ ما يطلب منهم، لذا فإن القائل هنا هو الرسول نفسه، أي أن النبي محمد (ص) التقى بطائفة منهم وذكرهم بعهودهم مع الله، ثم قال لهم هل تقرون بها؟ قالوا أقررنا، اي نقر بما جاء في الكتاب، ثم يبرم النبي معهم معاهدة تحقق الوعد ونزول القرآن فيقول " وأخذتم على ذلكم إصري" أي أخذتم بعد ذلك الإقرار، وما عرفتموه من انطباق ذلك الوعد، أخذتم عهد مرتبط بنصرتي شخصيًا لانطباق حقائق الرسالة علي، والإصر هو الحابس المانع من الانفلات والتبديل، فلا يستطيعون بعد هذا العهد أن ينقلبوا عليه (ص).
ثم يأت بعد ذلك إقرار أهل الكتاب – الذين هم في زمن الرسالة – على العهود والوعود وانطباقها على الرسول ليقولوا بكلمة الإقرار " قالوا أقررنا" ثم رد يرد عليهم النبي محمد (ص) بقوله: " قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين" اشهدوا على أنفسكم بعضكم شاهد على البعض الآخر بهذا الإقرار، كما أنا أشهد عليكم أيضًا بما أقررتموه.
ثم تأت الآية التالية لتؤكد على معنى هذا الإقرار وعلى هذه الإتفاقية ووجوب الالتزام بها لتقول : " فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ " ، فمن تولى عن هذا العهد الجديد الذي أسمته الآية إصر الرسول الذي بني على إقرارهم بصدق ما يدعيه في بداية دعوته، وهو هنا يأخذ منهم هذا العهد لمعرفته بأن تبدل الأحوال وتبدل المصالح قد يضطرهم للتغير والتبديل إلى شيء آخر، أو الانقلاب على الرسالة، والاتجاه نحو محاربته بدل نصرته.
الآية الكريمة طالبت أهل الكتاب في بداية الدعوة بالنصرة، لكون ما يدعيه النبي محمد (ص) مطابق تمامًا في الشكل والمضمون لما وجدوه عندهم في التوراة والإنجيل، فتكون نصرته بشهادة الحق من قبلهم على أساس معرفتهم بالتوراة والإنجيل، إذا تحدث النبي بحكم من الأحكام أو عقيدة من العقائد.