وصية الله
| Writing-the-Quran# مقدمة
تحدثنا في الحلقة السابقة عن قاعدة تتعلق بالأحداث الجارية في الحياة وهي قاعدة اللطف الإلهي، وقد بيّنت الآيات التي درسناها أن الله عز وجل غالبٌ على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، ولأننا بصدد فهم قصة التنزيل من بعد استلامه من عند الرسول، فلا شك أن هذه السُنّة الربانية ماضية في هذا الأمر، وأن جمع القرآن وحفظه كان كما أراد الله، وأن قدرته غالبة منذ ذلك الزمان وحتى يومنا هذا.
نستكمل موضوع حفظ القرآن وفي هذه الحلقة نتحدث عن أحد مسميات القرآن ، فللقرآن الكريم مسميات كثيرة، منها النور والفرقان والبرهان والسلطان وغيرها، ولكننا في هذا الموضوع نبحث عن المسمى الذي يقربنا من حقيقته ومكانته الإجتماعية، لذا فإننا نقف في هذه الحلقة أمام مسمى الكتاب السماوي " وصية الله ". حيث استخدم القرآن هذا التعبير في أكثر من آية في إشارة إلى ماورد في الكتب السماوية السابقة، نستعرض بعض الآيات التي وردت فيها هذه الكلمة، ثم نحاول أن نفهم دلالات هذه الكلمة، وأبعادها في موضوع حفظ القرآن، بعدها ننتقل لدارسة كلمة مشابهة لها في الدلالة والمضمون وهي " بقية الله ". في هذه الحلقة نحن لا نثبت بهذه الدراسة طريقة حفظ القرآن، ولكن نعطيه مكانته الإجتماعية فقط، والتي تؤكد أن يكون محفوظًا بين المؤمنين.
# وصية الله
يقول الله عز وجل في مسألة حكم محرمات الطعام:
﴿ وَمِنْ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمْ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾ الأنعام [144]
في هذا الحكم الهام الذي تستعرضه سورة الأنعام، يبين الله عز وجل كذِبَ ما ذهب إليه بعض المشركين من قريش ومن أهل الكتاب في حرمة بعض الأنعام، والقرآن الكريم يولي هذا التحريم الجائر أهمية كبرى بالرد عليه ويربطه بالشرك، ويدحض كل الأباطيل التي استخدمت كأدلة لبقاء هذا التحريم، وهنا تعترض الآية بسؤال استنكاري على ما ذهبوا إليه من الأحكام ولإثبات بطلان تلك الحرمة ﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمْ اللَّهُ بِهَذَا ﴾؟ وهذه العبارة تعني هل استلمتم وصية من عند الله بهذا الخصوص؟ هل كنتم حضورًا حين التنزيل تشهدون عليه؟ وهذا التساؤل الذي جاء بصيغة "الوصية" يطالب بالإجابة من خلال الكتاب السماوي المرسل، إذ لو كان لديهم ما يُثبت هذه الحرمة في أي كتاب سماوي، لما استنكر عليهم القرآن بهذه الصيغة! فلو كانت إجابتهم بنعم لقالوا لقد أوصانا الله بذلك في كتابه! لكنهم لا يحملون هذه الإجابة، ومن هذا نفهم أن القرآن استعمل كلمة "الوصية" للدلالة على الكتاب السماوي، فهو الذي يحوي وصايا الله في العقائد والأحكام والمفاهيم.
يتأكد استعمال نفس اللفظ وفي نفس الموضوع في آيات أخرى، يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ الأنعام [151].
في نفس السورة وليس بعيدًا عن الآية السابقة، تأتي هذه الآية الكريمة لسرد الوصايا العشر في ملة إبراهيم، وبعد أن ذكر خمس منها، ختم بقوله: ﴿ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾، لنفهم مرة أخرى أن هذه البنود التي ذكرت هي من وصايا الله، لمن اتبع ملة إبراهيم، فحديث الله هو وصيته عز وجل للناس، وباستخدام هذا التعبير نفهم أن هذه البنود يجب أن تنفذ، ولا يجوز التخلف عن أي منها.
الآية التالية تستكمل الوصايا العشر وتختم بنفس العبارة:
﴿ وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾َ الأنعام [152]-[153]
هنا وفي نهاية الوصية التاسعة أي نهاية الآية [152] يختم باستخدام لفظة الوصية ﴿ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ وجعل هذه الوصايا الموثقة سبيل لنا للتذكر، ثم ختم بالوصية العاشرة التي تحذّر من اتباع السبل الأخرى التي تؤدي إلى التفرق عن سبيل الله وجعل هذه الوصية سبيل للتقوى،
# نتيجة
يتأكد مما سبق من الآيات أن ما ينزّله الله من أحكام وعقائد هي وصاياه الربانية، سواء في الأحكام والعقائد، وكل تلك جاءت في كتبه السماوية، وهذا يعني أن الكتب السماوية هي وصية الله، والألفاظ القرآنية دقيقة، كونها تحمل دلالات فيما تعنيه، ويزداد الالتفات إلى اللفظ حين نراه يتكرر في ذات السياق، ولكلمة الوصية دلالتها في الموضوع الديني، إذ نرى ارتباطها بموضوع الخلافة، أي خلافة الإنسان على الأرض، فمن خلال الكلمة نفهم غياب المستخلِف - وهو الله عز وجل وإن كان ذلك الغياب ليس حقيقيًا – عن الخليفة المستخلَف -وهو الإنسان- فيما خلفه عليه، فالمستخلف الذي سيغيب عن المشهد يوصي هذا الخليفة بأوامره التي يريد لها أن تنفذ خلال فترة الاستخلاف، وعلى الخليفة أن يكون أمينًا على هذه الوصية بأن لا يبدل مضمونها، لا في النص ولا في الجانب العملي.
وإذا كان الأمر كذلك فعليه يجب أن تنقل هذه الوصية كوثيقة دينية رسمية من جيل لآخر. فالوصية أي وصية تحمل قيمتها من الموصي نفسه، فهو لا يقول فيها أي كلام، بل يحدد ما يريده بوضوح ودقة إلى الموصى إليه، ويعتني كذلك في أن تكون وصيته ثابتة وموثقة ومشهود عليها، وهذه الصفات لا تتوافر إلى في الكتاب السماوي المنزل، وثبات الوصية هذا يقودنا بدوره إلى مسمى آخر له علاقة بذات الموضوع وهو " البقية" وهو ما نريد أن نتمم به هذه الدراسة.
# بقية الله
يقول الله عز وجل :
﴿ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾ هود [85]-[87]
الآية المباركة تنقل بصياغة ربانية حديثًا دار بين نبي الله شعيب (ع) وبين قومه، يأمرهم فيه بأوامر تتعلق بالبيع والشراء ﴿ وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾، ثم يحثهم على التمسك بالقيم التي أمر الله بها في كتبه المنزلة بدلًا من الأخذ بغيرها بصيغة مقارنة قائلًا: ﴿ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾، وبقية الله تعني ما أبقاه الله، والله عز وجل يبقي وصية لبني البشر يرجعون إليها حتى يسيروا من خلالها على نهجه ويحققون بها مبدأ الخلافة في الأرض.
ليس المقصود من البقية هو الفاضل بعد الفرز أو الطرح، إذ ليس المقصود ما ترك بعد أخذ جزء من شيء ما، فهي لا تعني بعض من شيء، ونعلم أن البقاء المطلق هو لله عز وجل، فهو الباقي سبحانه، فالكلمة تحمل في طياتها قبسًا من الثبات وعدم تبدّل القيمة العالية أو الثمينة، وقول نبي الله شعيب (ع) لقومه: ﴿ بَقِيَّةُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ ﴾ هي دعوة للتمسك بشيء ذو قيمة ثابتة وعالية ومنسوبة إلى الله عز وجل فهي بقية الله ﴿ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ إن كنتم مؤمنين بتلك البقية ﴿ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ ﴾ لست مرسلًا عليكم لكي أجبركم على المحافظة على منهج الله، وإنما أدعوكم إليه فقط.
ثم تتمم الآية التالية ما يؤكد كون أن بقية الله لها علاقة بالكتاب المنزل: ﴿ قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾، يرد قوم شعيب على دعوته تلك: إننا نراك يا شعيب تقيم الصلاة، فهل صلاتك تأمرك أن نترك معتقداتنا ﴿ ما يعبد آباؤنا ﴾، فمعتقداتهم وأحكامهم التي وجدوها عند آباءهم هي التي سوغت لهم فعل ذلك، وهي رد له على دعوته لهم بأن يرجعوا إلى ما أبقاه لهم، وللصلاة علاقة بما يعتقده المؤمن فهي تعني إقامة القيم المتعلقة بذلك الكتاب، لذا قالوا له : أصلاتك تأمرك بذلك؟ وطبعًا الإجابة هي نعم أن صلاته تأمره بذلك، لأن كتابه يأمره بذلك. ثم يقولون: ﴿ َأوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ﴾.
إذًا دعوة شعيب تجسدت بالعودة إلى نصوص الكتاب المنزل من عند الله وعدم تبديلها بأفكار ومعتقدات أخرى تؤدي إلى تحليل بخس الناس أشياءهم والتطفيف في المكيال، ورفضهم لهذه الدعوة اتخذ جانبين الجانب الأول هو رفضهم التوقف عن هذا العمل، ونكران ما تدعو إليه صلاة شعيب، أي قيم الكتاب المنزل.
والعودة إلى قيم الله الثابتة والعليا هي دعوة نبي الله شعيب، بل هي دعوة كل الرسل، وهي دعوة للعودة إلى وصية الله للناس، إذًا في هذه الآية الكريمة استخدمت عبارة " بقية الله " للدلالة على كتاب الله، فكتاب الله ومافيه من أحكام، هو ما أبقاه الله عز وجل للإنسان، نؤكد على استخدام هذا التعبير لنفس المعنى في آية أخرى ولكن نسبته للرسول.
يقول الله عز وجل:
﴿ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ البقرة [248]
هذه آية من آيات قصة طالوت وجالوت، وقد اختار الله عز وجل ومن خلال أحد أنبياء بني إسرائيل طالوت ملكًا عليهم حتى يستعيدوا ما سلب منهم من ديارهم، وقد حدد الله عز وجل آية من الآيات التي تؤكد اختيار طالوت عليه السلام لهذه المهمة، وهي ﴿ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمْ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ﴾ التابوت هو صندوق خاص لحفظ الأشياء، ويبدو من خلال النص أهمية التابوت ومعرفتهم به، وسوف يأتي ذلك التابوت محمولًا بالملائكة، فيه سكينة من الله ﴿ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ ﴾ وهذا يعني أن هذا التابوت يحوي أهم ما أبقاه آل موسى وآل هارون، وهو شيء متعلق بالدّين، وما ذلك الشيء إلا الألواح التي نزل بها موسى (ع) بعد أربعين ليلة قضاها في جبل الطور، ولا شيء أهم من ذلك بالنسبة لبني إسرائيل، وواضح ومن خلال حمل الملائكة لهذا التابوت أهمية ما يحويه، وهو كلام الله عز وجل، رفعه الله وحماه وحفظه، وحين انتخب فئة مؤمنة للقيام بمهمة جليلة، أعاده إليهم ليكون هذا الكتاب هو قائد معركتهم، وليكنوا حملة له بعد أن ينصرهم الله على عدوهم.
نلحظ في هذه الآية استخدام لفظة "بقية" ولكن في هذه المرة ألتحقت بآل موسى وآل هارون، وهما نبيا أمة بني إسرائيل، ليكون المعنى من البقية هو ما آبقاه آل موسى وآل هارون للناس في موضوع الدين، ولا شيء أهم وأعلى قدرًا يحفظ في تابوت وتأتي به الملائكة من تلك الألواح التي نزل بها موسى من جبل الطور، ولا شيء يشكل هذه الأهمية في هذا الموقف أكبر منه. لذا فإن ما يتضح من معنى لتلك البقية في هذا الموقف هو كتاب الله التوراة، ولمزيد من التأكيد على استخدام هذه اللفظة في موضوع الدين نتأمل في الآية التالية :
يقول الله عز وجل
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ الزخرف [26]-[28]
الآيات الكريمة تتحدث عن نبي الله إبراهيم (ع)، وتستعرض براءته مما يعبد أباه وقومه، ويعلن توجهه الخالص لله عز وجل والذي عبر عنه بـ "الذي فطرني" وأنه هو سبحانه هو الذي يتولى هداية البشر، ثم تقول الآية التالية، ﴿ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً ﴾ وتقصد نبي الله إبراهيم، بأنه جعل ذلك النهج والذي يقود إلى التوحيد والإخلاص في التوجه لله، جعله باقيًا، ومن ذاك نفهم أنه جعل ملته ملة باقية، وهي التي عبر عنها بالكلمة الباقية، وهذا التعبير يعني أنه جعلها باقية في كلمات، ولكي تكون كذلك يجب أن تُحفظ وتنقل من جيل إلى آخر عبر الزمان حتى تصل إلى من يعقب إبراهيم من ولده ﴿ َجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ﴾ لكي يتحقق الغرض من بقاء هذه الملة وهو إرجاع ذريته إلى الحق في كل زمان حين تنحرف بهم الطرق ﴿ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾.
هذا الوصف لا ينطبق إلا على كتب السماء، فالله عز وجل هو الذي أبقى ملة إبراهيم من خلال حفظها في الكتب السماوية المتلاحقة، فكما تعرفنا نحن الآن وعبر القرآن الكريم على إبراهيم وعلى سعيه على حفظ الدين والملة، كذلك كان الأمر في الكتب السماوية السابقة، والتي حفظت هذا النهج وهذه الملة في تلك الكتب، نرى في هذه الآية المباركة تأكيدًا على استخدام معنى البقاء للإشارة إلى الكتب السماوية بصورة غير مباشرة.
والبقية أي ذات بقاء، وهي شيء ثابت في قيمته ولا يتبدل، ولا يزول ولا يتحول، وهذا ما يجعلها كلمة باقية في العقب، أي على مدى الأجيال.
# خلاصة وخاتمة
تحدثنا ومن خلال ثلاث آيات عن مسمى الكتب السماوية بالوصية، وقلنا بأن الكلمة تعطي دلالة على أهمية النص، لذا فإن الموصِي يثبته، والموصَى يحفظه، وكذلك درسنا ومن خلال ثلاث آيات عن مسمى الكتاب بـ "البقية"، ويمكن دمج هذين المسميين بفهم العلاقة بينهما، فالكتاب السماوي هو الوصية الباقية، أو بمعنى آخر هو الوصية التي يبقيها الله للناس و التي من خلالها نرجع إلى نهج الله القويم وصراطه المستقيم. وسنعتبر هذا التعبير هو المسمى الاجتماعي للقرآن الكريم. ومنه ننطلق إن شاء الله لمعرفة كيف حفظ القرآن الكريم في الحلقات القادمة إن شاء الله.