مدونة حلمي العلق

كيف حفظ القرآن الكريم؟

 | Writing-the-Quran

مقدمة

بوابتنا التي من خلالها ننفذ إلى عالم الدين هي النص الديني، ولهذا النص أهمية في بناء العقيدة وتحديد الأحكام، ومن المفترض على المؤمن وقبل أن يتعامل مع النصوص الكثيرة والمختلفة أن يتعرف على مكانة النص القرآني من بين بقية النصوص، وما يتمتع به هذا النص من مصداقية توثيقية تجعله في مكانة أعلى بكثير من بقية النصوص بل لا يقارن بها ولا تصل إلى مقامه، وكذلك فإننا نتعرف من خلال دراسة هذا الموضوع على الأسلوب الرباني في التعامل مع النصوص السماوية والأحكام الشرعية، كيف يتم حفظها؟ وكيف يريد من المؤمن أن يتعامل معها؟!

درسنا ومن خلال ست حلقات سابقة، عناوين يمكن أن تعتبر أساس ننطلق منه للإجابة على سؤال: كيف حفظ الله القرآن الكريم، نستعرض تلك العناوين، ثم نوضح ما يمكن أن نعتبره إجابة لذلك السؤال.

1- قاعدة اللطف

تحدثنا في الحلقة الأولى عن قاعدة استنتجناها من القرآن الكريم، وهي قاعدة اللطف، وتبين لنا من خلالها أن الله عز وجل لطيف لما يشاء، وأن مشيئته غالبة على رغبات البشر مهما عملوا، وأنه سبحانه وتعالى يحقق تلك المشيئة من خلال الألطاف الخفية التي لا يدركها ولا يشعر بها إلا المؤمن. فكانت هذه هي المقدمة التي من خلالها ننطلق في معرفة الإجابة على سؤال حفظ القرآن، فنقول بما أن الله عز وجل أراد أن يحفظ كتابه - كما جاء في القرآن الكريم - لذا فإن مجريات الأمور ستجري لتحقيق هذه المشيئة، وأنه عز وجل جعل الأحداث تجري على طبيعتها ولكن مشيئته ماضية على كل حال. هذا من الجانب الإيماني والاعتقادي لمسألة حفظ القرآن.

2- وصية الله

ثم بحثنا عن تعريف للكتاب السماوي من الجانب الاجتماعي، فوجدنا أنه وصية الله، وأن الله سبحانه وتعالى أبقى هذه الوصية بيننا حتى يحاسبنا عليها لذا فهو بقية الله فينا، ولأنه وصية فللوصية حملة، سماهم القرآن الكريم شهداء، وقلنا بأن الشهيد هو المؤتمن على أمانة ليوصلها إلى طرف آخر، فالرسول شهيد لأنه مؤتمن على هذه الوصية من أجل إيصالها إلى الموصى إليهم، والموصى إليهم مؤتمنون ليوصلوها للناس.

وقد علمنا مدى حرص القرآن على حفظ الوصية البشرية من أجل أن لا يتبدل منها شيء، حيث يقول الله عز وجل في هذا الشأن : (فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) البقرة [181] ، ولكي يضمن نقل الوصية إلى أهلها سليمة من التبديل فقد أكد على ضرورة أن يحضرها شهداء، وهؤلاء الشهداء يشهدون على بعضهم البعض في حال التبديل (فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنْ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمْ الأَوْلَيَانِ ) المائدة [107] كما في الآية الكريمة، وعلى الرغم من أن الوصية البشرية التي يوصي بها الإنسان قبل رحيله من هذه الدنيا لها أهميتها لعدد محدود من الناس هم أبناءه وأهل بيته، إلا أن القرآن أولاها هذه الأهمية، فكيف هو الأمر بالنسبة لوصية ربانية؟ تبديل شيء منها يؤثر على أمة بأسرها؟!

وقد علمنا من ناحية أخرى حرص القرآن على إثبات حقوق الدائن أمام المدين في عملية المداينة من خلال فرض التوثيق والكتابة، بل وإحضار شهداء يشهدون على تلك المداينة (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنْ الشُّهَدَاءِ ) البقرة [282] ، بل ويؤكد على اختيار أولئك الشهداء ليكونوا ممن نرتضيهم لمثل هذه المواقف، هذا في شأن شخصين في موضوع المداينة؟ فكيف يكون الحرص على التوثيق والتدوين في موضوع الكتاب المنزل من عند الله الذي يمثل الدين؟ من المتوقع أن يكون أكبر من ذلك بكثير. فموضوع حفظ الكتاب لن يكون أقل حرصًا كونه وصية ربانية، ويجب أن تبقى هذه الوصية خالدة بلا تبديل كونها حجة الله على خلقه.

ومن ارتباط موضوع الوصية بالشهداء الناقلين لها، وكذلك ارتباط التدوين بالشهداء المؤكدين على ما تم تدوينه، تساءلنا هل للرسالة السماوية شهداء بالمثل؟ وهذا ما سنجد الإجابة عليه لاحقًا تحت عنوان شهداء الكتاب. ثم انتقلنا بعد ذلك إلى تعريف القرآن من الناحية التاريخية، تحت عنوان الحدث المشهود.

3- الحدث المشهود

كان تنزيل القرآن على فترة من الزمان، عبّر عنه القرآن الكريم بقوله "على مكث"، وهذه الفترة تجاوزت العشرين عامًا، مرت خلالها الرسالة بأحداث جمة، وكان نزول القرآن حدثًا مشهودًا لا معزولًا، وقلنا بأن الحدث المشهود هو الذي يشهده عدد كبير من الناس، وقد رأينا كيف كان المجتمع الإيماني بجميع طوائفه يعيش ذلك الحدث، ولم يقتصر الأمر عليه بل شمل المجتمع الكافر والمعاند والمحارب للدعوة، ثم وجدنا أن بعض آياته بلغت كافة العرب في شبه الجزيرة العربية. كل هذا يثبت لنا بأن هذا الكتاب لم يظهر للناس مجموعًا بكل سوره بشكل مفاجئ، لكنه وقبل أن يجمع كان معلومًا وكانت الناس تتداول آياته وتعرفها وتتدارسها.

أول ما وصل القرآن للناس وصل مسموعًا، وكان ذلك السماع بمثابة البلاغ أو الإعلان ﴿ هَذَا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾ إبراهيم [52]، ويمكننا أن ندرك من خلال فهمنا لهذا التعريف صعوبة أن يتم اختزال أو تبديل أي جزئية منه، فشهادة الناس عليه شهادة بينيّة، أي أن الشهادة تتم فيما بينهم فالبعض يشهد على البعض الآخر عليه، لأن إعلانه يعني إشهاره وهذا الإشهار يعصمه من العبث ولا يتمكن أحد في تغيير شيء منه، فالكل شاهد عليه، فعبثًا يحاول العابث فالتغيير مكشوف أمام الجميع فالكل شاهد، وعلى أساس هذا الوضع اكتسب القرآن حصانته الأولية.

ولكن القرآن الكريم لم يكتف بتلك الحصانة المتمثلة بالشهادة العامة بل انتقل إلى تخصيص شهداء لكتبه السماوية، أسميناهم شهداء الكتاب، وقبل أن نتعرف عليهم كان لابد من التعرف على الفارق بين الشاهد والشهيد.

4- الشاهد والشهيد

قلنا أن القرآن الكريم هو حدث مشهود، يشهده عدد كبير من الناس، فالناس شهود عليه، ومنهم من هو شاهد ومنهم من هو شهيد، أما الشاهد فهو قادر على الإدلاء بشهادته على ما شاهده أو سمعه، ولكن الشهيد هو من يُطلب منه الحضور في قضية محددة ليشهد بما يعلم، فإذا نقل علمًا من الكتاب السماوي، فكأنه يشهد أن الله قال ذلك، أو حكم بذلك الحكم، فالشهيد إذًا يحمل علمه كأمانه ينقله إلى آخرين ولا يكتم منه شيئًا.

ومن هذا الفهم انطلقنا إلى مسمى شهداء الكتاب، وقلنا أن هذه الفئة تعلم ما في الكتاب السماوي ويدلون بما يعلمون فيه للناس، لذا أسماهم القرآن بهذا المسمى.

5- شهداء الكتاب

الكتاب السماوي وصية إلهية يجب أن تكون باقية للأجيال اللاحقة وليس للجيل الذي عاصر أحداثه وحسب، فكيف يمكن لهذه الوصية أن تبقى فلا تندثر أو تتبدل؟ لابد من وجود من يحفظها ويحافظ عليها ويشهد بما فيها من أحكام وعقائد، وقد فهمنا ومن خلال الآيات المباركة وجود شهداء للكتب السماوية السابقة، وفهمنا كذلك أنهم طبقات، وأهم تلك الطبقات هي الطبقة الأولى التي عاصرت الرسول لما تحمله من مهمة كبرى أكبر من مهام أي طبقة أخرى، وأسمينا هذه الطبقة، بشهداء الجيل الأول.

6- شهداء الجيل الأول

قد يطرأ على الكتاب البشري وعن طريق النسخ ما يعتريه من النقص أو الزيادة أو النسيان، من قبل النسّاخ من خلال الخطأ أو بسبب أهواء تتملكهم. ولكن شيئًا من ذلك لن يحدث مع الكتاب السماوي، فقد قيّض الله عز وجل لكتبه السماوية رجالًا فيهم من الإيمان والحرص والأمانة الربانية ما يحفظونه بها وخصوصًا في بداية التنزيل، فإذا كانت الشهادة الجماعية للناس مثلت للقرآن حصانته الاجتماعية الأولى والأولية بكونه حدثًا مشهودًا، فإن هؤلاء الرجال يمثلون الحصن المنيع الثاني والأقوى والذي يضمن عدم تبديل أي حرف من مكانه، وهؤلاء الرجال هم شهداء الجيل الأول.

هذا الجيل من الشهداء هم فئة منتخبة من المؤمنين، تم انتخابهم بواسطة الوحي بعد تجاوزهم للابتلاءات والفتن، وقد رأينا في الحلقة السابقة أن الله عز وجل ذكرهم بأبوة نبي الله إبراهيم، ووصاهم بالجهاد في الله حق جهاده حتى يصلوا إلى هذه المرتبة، ثم إن الله أعد الأمر لاختيارهم في فتنة تبديل القبلة، أما في الآيات التي تحدثت عن معركة سورة آل عمران – أي في معركة أحد – فقد بينت أنه سبحانه وتعالى أراد من تمحيص تلك المعركة أن يتخذ من المؤمنين شهداء، وهذا الفرز تم على أعين بقية المؤمنين، وليس بخاف عنهم، فكلهم بات يعلم من هو الذي ثبت في ذلك اليوم، وقد تبيّن لنا في نهاية السورة أن الله عز وجل سمّى تلك الفئة التي صفاها بالرسل، وقلنا بأن هذا المسمى لا يعني أنهم يحملون نفس مرتبة الأنبياء والرسل الذي يجتبيهم الله لخصوص الرسالات، ولكنهم في مقام رسل الرسول لأنهم سيقومون بمهمة وظيفية محددة في إتمام الرسالة، وهذا ما عبّرت عنه الآيات بقولها " لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيدًا ".

وهؤلاء الرجال لهم أهمية كبرى كونهم ليسوا أي شهداء، فهم منتخبون لأداء مهمة إيصال النسخة المكتوبة الموثوقة من القرآن الكريم، ولهذه النسخة أهمية كبرى كونها ستتخذ موقع الإمام بالنسبة للنسخ المتتالية، ونسخ القرآن الأولى حين توزع إلى اتجاهات مختلفة أول ما توزع، يجب أن تكون متطابقة، ولهذا التطابق أهمية أيضًا، وسيمثل توزيعها ذلك شهادة بينيّة، كما كانت هي شهادة الناس، اي أن كل نسخة تشهد بتطابقها مع النسخة الأخرى على صحتها، فإذا انتشرت النسخ الأولى كانت مصدرًا لبقية المسلمين في جميع الأمصار للرجوع إليه، ومن انتشار النسخ، ستشهد كل تلك النسخ على بعضها البعض لأن مصدرها واحد ولا اختلاف بينها. وهذا يفرض استحالة تغيير ألفاظ القرآن من قبل أي عابث، لوجود النسخ الأئمة من جهة، ولانتشار النسخ الفرعية من النسخ الأئمة من جهة أخرى.

ومن هنا تكمن أهمية شهداء الجيل الأول من متلقي القرآن الكريم، كونهم يتلقون الوحي من الرسول مباشرة ثم يحملون رسالة القرآن مكتوبة لمناطق أبعد من النقطة الجغرافية التي نزل فيها القرآن، ويمكننا القول أنه على الرسول التبليغ وعلى هذه الفئة إيصال ذلك البلاغ وإيصال الرسالة، ولهذا سيكونون محط ثقة الرسول في هذه القضية. فإذا كان شهداء الكتاب في الأجيال الأخرى اللاحقة لنزول الكتاب، هم شهداء بالمسمى فقط، وقد يخالف بعضهم ذلك المسمى فلا يؤدي ماعليه، فإن هذا الجيل يجب أن تتطابق حقيقته مع صفات الشهيد الذي يحمل الأمانة، لذا رأينا أن هذا الجيل بالتحديد تم انتخابهم بعد امتحانات وفتن، ثم عرفوا باسم الشهداء كمؤمنين ثابتين على الرسالة وحريصون على أدائها، وقد كان ذلك منهم.

7- كيف حفظ القرآن الكريم؟

بناءًا على المعرفة يمكننا أن نقول أن الله عز وجل حفظ القرآن الكريم فلا يتمكن أي منافق أو كافر من تحريفه لأن الله قادر على منع ذلك بقدرته هذا أولًا، ثانيًا من الناحية الاجتماعية هو وصية الله، أما من الناحية التاريخية فالقرآن لم يكن مجرد كتاب وحسب بل كان حدثًا مشهودًا شهده عدد كبير من الناس بجميع طوائفهم ودياناتهم ومستوياتهم، فكانت آياته معلومة عند الجميع، أما في المستوى الإيماني فقد كان المؤمنون يشهدون نزول السور ويسعون لحفظها وتدارسها، إضافة إلى هذا فقد خصص الله عز وجل فئة مؤمنة انتخبها للقيام بمهمة حفظه وتدوينه وتبلغيه.

وعليه نستنتج أنه كان على هذه الفئة حفظ القرآن في صدرها، وكتابته باليد، ثم جمعه، ولأن الله أسماهم رسلًا، فمنه نستنتج أنهم قاموا بإرسال نسخ من القرآن الكريم إلى الأمصار المختلفة، ومن البديهي أن تتحول تلك النسخ إلى نسخ أئمة ينسخ منها الناس مصاحفهم، ومن البديهي أن نستنتج أنه إذا انتشرت تلك المصاحف من مركز انطلاقها وهي المدينة المنورة في وقت واحد، سيكون ذلك الانتشار مانع من التحريف.

وبهذا نصل إلى أن مسألة حفظ القرآن الكريم جرت بعين الله، وباللطف الإلهي الذي يعصمها من الخطأ، فالقرآن ليس علمًا مدونًا إنه علم مكتوب ولم يكتب كما تكتب بقية الكتب، ولم ينقل كما نقل اي كتاب آخر، وبهذا الفهم يمكننا إعادة قراءة الآيات التي تعهد الله عز وجل فيها بحفظ كتابه، وذلك في ثلاث آيات الأولى هي آية الحفظ في سورة الحجر، الثانية آية لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه في سورة فصلت ، والثالثة آية جمع القرآن في سورة الإنسان.

أ- آية الحفظ

يقول الله عز وجل:

﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ الحجر [9]

في هذه الآية المباركة يتعهد الله عز وجل بحفظ القرآن الكريم، وهذا الحفظ يضمن سلامته من التبديل أو التغيير أو النقص والزيادة.

ب- آية جمع القرآن

يقول الله عز وجل

﴿ لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ ۝ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ۝ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ۝ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ﴾ القيامة [16]-[19]

الآية الكريمة تطمئن النبي على مستقبل القرآن، وهذا في حد ذاته يشي بأن النبي كان قلقًا حيال هذا الأمر ويبدي اهتمامًا لهذا الموضوع، يقول الله مخاطبًا رسوله ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾ يخاطبه بصيغة الجمع "علينا" ليعطي الضمان على هذا الفعل أمام الرسول وأمام كل مؤمن يثق بالله عز وجل، فهو سبحانه المتكفل بجمع القرآن ﴿ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ ﴾. وجمع القرآن مرحلة متقدمة على كتابته، فلا يجمع الشيء إلا إذا كان موجودًا في قطع متفرقة، وهذا يشير إلى أن القرآن كان مكتوبًا في زمن الرسول لكنه كان مفرقًا، أي أنه كان في زمن الرسالة مكتوبًا كسور أو بعض آيات مفرقة، والله عز وجل يتعهد بأن تكون كذلك، الأمر الذي نعتقد من خلاله أن جمع القرآن بالصورة التي وصلتنا اليوم هي كما أراد الله لها أن تكون.

وإذا كان القرآن مكتوبًا في زمن الرسالة، فهذا يعني أن القطع الموجودة عند بعض الكتبة كانت معتمدة، ولكن كان ينقصها الجمع، ولهذا الجمع وقته الذي يعلمه الله، وهي مهمة سيقوم بها رجال موثوقون، والآية توجه الرسول لأداء مهمته الآن في تبليغ هذا القرآن مقروءًا من قبله، مسموعًا من قبل غيره ﴿ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ﴾ وفي الأثناء هناك من يكتب من المؤمنين الموثوقين حين تتنزل الآيات، لذا تتحول تلك الكتابات إلى قطع متفرقة بالتدريج تبعًا للتنزيل. وإذا علمنا كل ذلك الحرص على التوثيق من قبل الرسول، وكذلك الذي علمناه من الوحي، فلن يترك حفظ الآيات للذاكرة وحسب، ولن يترك شأن كتابتها للصدفة، بل ستكتب مباشرة.

لقد جمع الله عز وجل هذا القرآن بعد انقضاء مدة التنزيل من خلال من هم مؤهلون لجمعه ونشره بين الناس وهم الشهداء، لقد تبين لنا في الحلقة السابقة أن شهداء الجيل الأول هم منتخبون من عند الله عز وجل لهذه المهمة الجليلة، ولقد تمت كلمة الله وجمع هذا القرآن وعُصم من التبديل ومن تدخل الأيدي العابثة بقدرته ولطفه وحكمته، وبقي على الأجيال اللاحقة بعد الجيل الأول أن تستلم هذا القرآن لدراسته دراسة وعي حتى تشهد بما فيه لبقية الناس. وهنا يأتي دور شهداء الأجيال اللاحقة لذلك الجيل الأول، ودورهم يكمن في دراسة هذه الرسالة وحفظها وتوصيل معانيها وأحكامها للناس.

ج- آية لا يأتيه الباطل

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ ۝ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾فصلت (41)-(42)

يسعى الباطل أن ينفذ لتغيير دين الله من خلال تبديل أي جزئية من النص الديني، وهذه الآية تعطي ضمان من عند الله أن هذا الكتاب العزيز معصوم من ذلك، وقد أغلقت الأبواب بإحكام فلا سبيل لطامع في ذلك والحمد الله رب العالمين.

خاتمة

القرآن حدث شهده الناس أثناء التنزيل، كتب بإملاء الرسول عن ملاك الوحي جبريل بواسطة شهداء الجيل الأول، ثم جمع بواسطتهم كونهم أمناء عليه وكونه وصية الله الباقية، ثم نشر إلى الأمصار دون أن يجد أحد فيه اختلاف بين حروفه من منطقة إلى أخرى. والحمد لله رب العالمين.