مدونة حلمي العلق

شهداء الكتاب

 | Writing-the-Quran

مقدمة

درسنا في الحلقة السابقة علاقة الشهادة بالعلم، فلا يشهد أحد في الدين إلا بعلم من الكتاب المنزل، ثم فرقنا بين الشاهد والشهيد، فوجدنا أن الشهيد هو حامل للأمانة، وليس مجرد شاهد عابر، وتأكد ضرورة حصول حامل الوصية على صفة العدالة لأنها أمانة، وقلنا بأن أمانة حمل الوصية الربانية أعلى وأكبر من أي وصية أخرى. و ختمنا الحديث عن علاقة الكتاب السماوي الذي هو مصدر العلم في الدين بوجود شهداء يحملون هذه الأمانة، ندرس في هذه الحلقة مصطلح " شهداء الكتاب " من خلال أربع آيات كريمة، لنؤكد على ارتباط هذا الكتاب بالشهادة والشهداء، ونثبت من خلال ذلك وصف من يحمل الكتاب كرسالة يؤديها إلى الناس بالشهيد.

شهداء الكتاب

يقول الله عز وجل :

﴿قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجاً وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ آل عمران [99]

يخاطب الله عز وجل في هذه الآية أهل الكتاب عن خيانتهم لكتابهم التوراة، إذ لم يكتفوا بإهمالة وحسب، بل راحوا يصدون عن سبيل الله من آمن بالقرآن على الرغم مما يعلمون منه من حقائق تؤيد رسالة النبي محمد (ص)، وتستنكر عليهم هذا الفعل وهم في موقع الشهادة، وقد استخدمت الآية كلمة الشهداء في وصفهم، وتعجبت كيف يفعلون ذلك وهم في مقام الشهداء؟ واستخدام هذه الكلمة في هذا السياق يشير إلى موقعهم الديني الذي يتطلب منهم أداء الأمانة، فهم في موقع يطلب منهم فيه الإدلاء بما يعلمون من التوراة والذي يصدقه القرآن، ولكنهم فعلوا عكس ذلك، وبدلًا من أن ينصروا دعوة النبي محمد (ص) سعوا في إفشالها.

نلحظ في الآية المباركة استخدامها للفظة الشهداء للدلالة على شهداء الكتاب الذين هم مسؤولون عن الإدلاء بعلومه وما أنزل الله فيه من حقائق. في آية أخرى يقول الله عز وجل :

﴿ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ الأنعام [150]

هذه الآية المباركة في سورة الأنعام، وهذه السورة ناقشت حكم الطعام مع أهل الكتاب، وفندت ما يدعونه من حرمة بعض الأطعمة، والآية تأمر النبي باستدعاء من يعلم من التوراة حتى يقارن بين حكم القرآن وحكم التوراة في هذا الشأن، وحتى يتحقق مبدأ التصديق، وتقول : ﴿ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمْ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا ﴾ أي ااتوا بعلماء التوراة، ليشهدوا بعلمهم أن الله حرّم ما تدعون! ونلحظ في الآية أنها وصفت أولئك العلماء بالشهداء، على أنه وصف اعتباري لما يتطلبه الموقف، لأنهم يدلون بحقيقة ما في الكتاب السماوي، وهي شهادة عن الله عز وجل. وهذا ما يؤيد ارتباط الكتاب المنزل بكلمة الشهداء على أنهم حملته والمسؤولون عن توصيل علمه للناس. نتأكد من هذا المعنى من خلال آية أخرى.

يقول الله في آية أخرى:

﴿ إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلا تَخْشَوْا النَّاسَ وَاخْشَوْنِي وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ المائدة [44]

في هذه الآية المباركة يتحدث الله عز وجل عن مكانة التوراة كونها تحمل الهدى والنور و مصدر الأحكام لدى النبيين والربانيين والأحبار لبني إسرائيل، ثم تقول بأنهم يحكمون بها وهم مؤتمنون عليها ﴿ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ الله ﴾ أي أمروا أن يحفظوا كتاب الله ليحكموا به ويؤدوا هذا الدور والواجب عليهم ﴿ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ﴾ أي كانوا شهداء على كتاب الله، حفظ الكتاب هو الحفظ المادي، أما أن يكونوا عليه شهداء فيتطلب منهم أن يتعلموه ليعلموه، وليحكموا به، فإذا أدلوا بحقيقة ما فيه كانوا بذلك قد شهدوا بقول الله وحكمه. وهنا يتأكد ارتباط الشهادة بالعلم، وارتباط الكتاب السماوي بالشهداء. الكتاب هو مصدر العلم و هو وصية الله، والمتحدث بالوصية شهيد عليها وبها، نؤكد على هذا المعنى في الآية المباركة التالية:

يخاطب الله سبحانه وتعالى المنحرفين عن أحكامه في آية ترفض المحرمات المضافة في الطعام:

﴿وَمِنْ الإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنْ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ أَالذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمْ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمْ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الأنعام [144]

جاءت هذه الآية الكريمة في سورة الأنعام بعد سرد لأحكام ما أنزل الله بها من سلطان في الطعام، يحكم ويتحدث بها المشركون وأهل الكتاب، جاءت لكي تفند كل تلك الادعاءات الباطلة، وتعدد الأنعام التي أنعم الله بها على الإنسان والتي لم يحرم الكتاب السماوي منها من شيء، ثم بعد ذلك التعداد، تقول الآية الكريمة مخاطبة الذين نشروا تلك الأحكام بين الناس ﴿ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمْ اللَّهُ بِهَذَا ﴾ ومن هذه العبارة الكريمة نفهم أن التنزيل وصية من عند الله للناس، وتلك الوصية حدث يشهده المؤمنين، وشهادتهم تلك مقصودة ولها أهمية لأنهم سيحملون أمانة ما يعلمون إلى الناس وإلى الأجيال القادمة.

والآية تستنكر ادعاءاتهم تلك الأحكام بطريقة عكسية، أي بطريقة تثبت من خلالها فقدانهم لشرائط الأخذ السليم للحكم، مبينة في الوقت نفسه كيف يكون الأخذ بالأحكام، وذلك من خلال سؤالها الإستناكاري: هل كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا؟ هل كنتم حضور عند الرسول أثناء ما كانت الأحكام تتنزل من عند الله؟ والإجابة: لا لم يكن ذلك؟ ليكون السؤال الضمني: كيف تحكمون بذلك إذًا؟ فإما أن تكونوا قد شهدتم التنزيل أو نقلتم منه حتى يكون حكمكم ذلك صحيح! ولكنكم لم تحكموا لا بهذا ولاذاك! وهذا يعني أن نقل الأحكام يعد شهادة من قبل من يعلم الكتاب.

خاتمة الآية يؤكد هذا السياق ﴿ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ﴾

فمصدر العلم بحقيقة الأحكام هو من الكتاب السماوي، والحكم من خارجه ظلم، والإدلاء بغير ذلك هو شهادة زور وباطل، فما لديهم لا يعدو كونه افتراءات على الله.

خاتمة

أطلق القرآن الكريم مسمى الشهداء على أهل الكتاب كونهم يعلمون ما في التوراة من حقائق، ولأنهم أصحاب علم بحقائقها وإن كتم بعضهم ذلك العلم، وحين أمرت الآيات من النبي محمد (ص) استدعاء علماءهم أسماهم القرآن الكريم بشهداء الكتاب، ولقد كانت التوراة محفوظة عند النبيين والربانيين والأحبار ، ولقد أسمتهم الآية بالشهداء أيضًا كونهم يعلمون بما فيها ويحكمون بها، واحتج القرآن على الذين لا يأخذون بحكم الكتب السماوية بأنهم حكموا بما لا يعلمون من الكتاب المنزل، وذكرت ذلك بطريقة معاكسة حين بينت الصواب بالأخذ بوصية الله والشهادة بها. وهذا ما نقصده بارتباط الشهادة بالكتاب، وبوجود شهداء للكتاب.