نعمة الله
| afala-yatadabron# مقدمة
القرآن الكريم إما أن يكون حجة لنا أو حجة علينا يوم القيامة، يكون حجة لنا إذا التزمنا به وطبقنا تعاليمه وأحكامه واعتقدنا بعقائده، فإذا سُئل أحدنا يوم القيامة لماذا فعلت كذا أو اعتقدت بكذا؟ نقول لأن كتاب الله المنزل أمرنا بذلك، ويكون حجة علينا إذا أهملناه ولم نهتم بدراسته وتدبره، فيقال لنا يوم القيامة لماذا فعلت واعتقدت بخلاف الكتاب والقرآن الكريم بين يديك ﴿ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾ المؤمنون (105)، فهل تنفع المبررات ومسوغات الهروب من حقائق القرآن؟
نعمة الله هي أحد مسميات القرآن الكريم، هو نعمة بل هو من أكبر النعم، لأنه يرسم للمؤمن طريق التقوى، وخارطة الطريق نحو الجنة، إذ (لا خَيْرَ بِخَيْرٍ بَعْدَهُ النّارُ، وَلا شَرَّ بِشَرٍّ بَعْدَهُ الجَنَّةُ).
لقد درسنا في الحلقة السابقة أمر الله سبحانه وتعالى للطوائف المؤمنة بأن يدخلوا إلى الإيمان بهذا الكتاب الذي هو القرآن الكريم من باب السلم، ووجدنا أن السلم بين الطوائف هو مدعاة للسلم مع الآيات المنزلة وللأخذ به بالسلام والإسلام لبيناته وهو الذي يدعو إلى السلام ويقود إلى السلام، نكمل الحديث عن هذه الآيات الشريفة بدراسة آيتين عقب الآيتين السابقتين وهما الآيتان (210) و (211) من سورة البقرة :
# نعمة الله
﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ البقرة (210)-(211)
**1- ﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ ﴾ **
بعد أن دعت الآيتان السابقتان الطوائف التي آمنت في زمن الرسالة للدخول في السلم فيما بينها حتى لايأخذها الشيطان الرجيم وبخطواته إلى التباغض والانحراف عن الدين، جاءت هذه الآية الشريفة لتقول : هل ينظرون؟ بمعنى ما الذي يمنعهم وما الذي ينتظرونه حتى يدخلوا في السلم؟ وحتى يتمسكوا بهذه الآيات الشريفة حق التمسك من أجل أن لا يجعلوا للشيطان سبيل عليهم في استدراجهم خارج السلم وخارج الكتاب؟
هل ينتظرون أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة؟ الآية تحكي بهذا المشهد يوم القيامة، (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً (26)) سورة الفرقان، وهو مشهد مهيب تنشق فيه السماء إعلانًا عن نزول العرش الذي تحمله الملائكة لتعلن بذلك قيام محكمة العدل الإلهية، ذلك اليوم هو يوم القضاء العادل فمن أحسن فلنفسه ومن عمي فعليها.
الآية تقول ما الذي يؤخركم عن دخولكم السلم؟ وما الذي تنتظرونه ؟ هل تنتظرون أن يأتيكم ذلك اليوم بشكل مفاجيء؟ فلا تستطيعون حينها التراجع عما كنتم عليه، ولا ينفع حينها الإيمان، فذلك المشهد يقع في عالم الشهادة ولكن الله يريد منا أن نؤمن ونحن في عالم الغيب، أن نعمل لتلك اللحظة ونحن مؤمنين بها قبل أن تحصل، أما حين تحصل عيانًا فلا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرًا.
2- ﴿وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ﴾
في تلك اللحظة يُقضى الأمر بين الناس، ويقضى بين المختلفين والمتخالفين، وإلى الله ترجع الأمور، وترجع الاختلافات التي كانت تعيشها الطوائف والديانات، فيخبرهم الله عن حقيقة ما كاونوا فيه يختلفون. ثم تعطف الآية للحديث عن أمة قد سبقت، أنزل الله إليها الهدى ولكنها لم تستسلم له:
**3-﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ ﴾ **
ثم توجه الآية الشريفة الخطاب للنبي محمد (ص) بقولها : سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة؟ سلهم يا محمد، وعلى الذين اتبعوك أن يستوعبوا الإجابة ويدركوها ، والآية تقرر بطريقة السؤال أن الله آتى بني إسرائيل الفرقان وضياءا وذكرًا للمتقين، لقد أنزل الله عليهم التوراة، وأنزل عليهم الآيات البينات، لكنهم لم يحذروا من خطوات الشيطان، ووقعوا في العدواة فيما بينهم كطوائف، ولم يدخلوا في السلم، فكانت نتيجة ذلك أن بدّلوا النعمة التى أنزلها الله عليهم، والتبديل هو نفسه البيع الذي أشارت له بداية سورة البقرة (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16))، بدّلوا الهدى الذي هو الآيات البيّنات، وأخذوا بدلاً منها الضلال، اشتروه حبًا فيه وهوى في أنفسهم، وبسبب زللهم عن البينات التي استغلها الشيطان كخطوة ثم تبعتها خطوات حتى ابتعدوا عن أصل ما أنزل الله عليهم.
4- ﴿ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾
ومن يبدّل نعمة الله؟ وما هي نعمة الله؟ هي البينات التي أشارت إليها الآية السابقة (209)، وهي السلم الذي أمرت به الآية (208) المؤمنين أن يدخلوه، نعمة الله هي الكتاب المنزل، هي الآيات البيّنات التي أوضح الله فيها طريق التقوى لهم، وطريق النجاة يوم القيامة، ولكنهم بدلًا من أن يعتمدوا على تلك الطريقة ابتكروا طريقتهم وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هوداً أو نصارى، وبدلًا من أن يدخلوا من باب السلم إلى السلام، تاهوا في صحراء الأنا وكبرياء الذات، ووقعوا في الزلة عن ما أنزل الله لهم من بينات، فاستدرجهم الشيطان بعيدًا عن هدى الله وعن نعمة الله التي جاءتهم لكنهم لم يحافظوا على النعمة.
# خاتمة
لقد أسمت الآية الشريفة الآيات البينة بنعمة الله، والهدى المنزل في الكتاب هو النعمة الكبرى، وبتمام هذه النعمة تقع الحجة على الإنسان يوم القيامة أن لماذا ابتعدت عن الهدى بعد ما أنزله الله إليك؟ وبعد أن بينه الله لك في كتابه.
والآية الشريفة تتحدث عن قانون عام متعلق بتبديل نعمة الله وتغيير الهدى المنزل، قاعدة عامة كان بنو إسرائيل أكبر مصداق لها، وهنا الآية تخاطب هذه الطوائف على أعقاب ذلك الخطأ، وتسأل سؤال ضمني للذين آمنوا في زمن الرسالة وفي كل زمان: هل تريدون أن تقعوا فيما وقع فيه الذين آتيناهم الكتاب من قبلكم؟ فتتيهوا عن كتابكم وعن هداكم وتقعوا في العداوات بدلًا من أن تتوحدوا؟ هذا الهدى يجب أن يثبت ولا يتبدل لدواعي الحروب والانتصار للذات، ومن يبدل هذه النعمة ويغير ما أنزل الله فليعلم بأن الله محاسبه يوم القيامة ومعاقبه أشد العقاب.
وكيف نحافظ على هذه النعمة؟ ومن هو المسؤول عن الحفاظ عليها؟ نحافظ عليها بالتمسك بها وتدارسها وتدبرها وتطبيق أوامرها، أما المسؤولية، فهي مسؤولية كل مؤمن بلغه كتاب الله، ولا ينبغي لمؤمن أن يتخلى عن مسؤوليته بالمقدار الذي وهبه الله في الحفاظ على أحكام وعقائد الكتاب ونشر ثقافته وأحكامه، حتى لا ينسى ويستغل الشيطان الرجيم ذلك النسيان فينا فيستدرجنا بخطواته الماكره لتبديله أو التنازل عن آياته البينات.