يهدي إلى الحق
| afala-yatadabron# مقدمة
ينقل لنا القرآن الكريم صورًا للذين آمنوا به، وهذه الصور مهمة كونها تبين حقيقة وطبيعة هؤلاء الأشخاص، فإذا تأملنا في طبيعتهم وطريقة تلقيهم للقرآن تمكنّا من أن نضع لأنفسنا مبادئ تؤهلنا لأن ننهل من هذا الكتاب العزيز كما هم نهلوا ونقترب منه كما هم اقتربوا، فمن خلال محاولة الاقتراب إلى صفات أولئك المؤمنين أو الاعتبار بطبيعة إيمانهم يكون مدخلنا للقرآن العزيز.
عنوان حلقتنا هو "يهدي إلى الحق" ، والعنوان مستوحى من الآيات الشريفة من سورة الأحقاف والتي وصفت إيمان نفر من الجن بالقرآن الكريم، هذا الوصف ينقله القرآن على لسان الجن الذين صرفهم الله سبحانه وتعالى لاستماع الآيات عند النبي محمد (ص)، ولنا هنا وفي هذه الآية الشريفة عدة وقفات نستلهم منها ما ينفعنا في علاقتنا مع هذا الكتاب العزيز، لنتعلم منهم كيف استعموا لهذا الكتاب؟ وما هي طبيعة علاقتهم واعتقادهم بالله؟ وماذا فعل بهم كتاب الله العزيز ؟
﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَراً مِنْ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29)﴾
صرف الله سبحانه وتعالى نفرًا من الجن، والنفر عدد قليل قد لا يجاوز العشرة، جاءوا يستمعون القرآن، فمن هو الذي كان يتلو القرآن؟ الذي كان يتلوه هو النبي محمد (ص)، فلما حضروه، أي حضروا هذه التلاوة، قالوا : "أنصتوا" ، "فلما قُضي" عندما انتهت التلاوة "ولو إلى قومهم منذرين" ، بلغهم إنذار الله وحولهم من متلقين مستمعين إلى منذرين، وولوا بعد ذلك " إلى قوهمهم منذرين" ، وهذا يعني أنهم آمنوا حق الإيمان من مجلس واحد، فلم يترددوا بعدها ، ولم يشكوا ، ولم يشككوا ، حسموا الأمر أن هذا هو قول الله وهذا هو إنذاره لبني البشر، فانطلقوا إلى ميدان العمل، وتحولوا إلى منذرين، فماذا قالوا إلى قومهم عن القرآن الكريم ؟
# يهدي إلى الحق
﴿وقَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ الأحقاف (30)
لنقف أمام هذه الآية الشريفة ونفهم عباراتها الشريفة :
1- " وقالوا ياقومنا إنا سمعنا "
يقولون لقومهم إنا سمعنا، فكيف كان استماعهم؟ هل كان مجرد استماع سطحي أم أنه استماع بتأمل وتفكر؟ وإلا كيف يتحول المرء إلى منذر وهو لا يعي ما يستمعه، ينذر بماذا؟ انذروا قومهم لأنهم سمعوا، ولكن أي نوع من أنواع السمع هو ؟ الآية السابقة تبين أنه كان انصاتًا، فما هو الإنصات؟
المنصت هو المستمع الراغب في الاستماع والراغب في المعرفة، والمستعد للاستجابة، هو لا يُصغي فقط، هو لا يلقي السمع فقط، هو يستمع بكل جوارحه بالرغبة، بالتأمل ، بتصديق حقيقة الغيب، بتصديق أن الله يرسل رسلًا يبلغوا عنه،
رغبوا في الفهم والمعرفة والتعلم، هذه هي درجة استماعهم التي جعلت القرآن يسري في دمائهم وعروقهم.
ولماذا انصتوا لهذا القول وأعطوه هذا الاهتمام؟ لأنه يُنسب لله عز وجل، ولأن معرفتهم بالله قوية وتعلقهم به قوي جدًا، لذا اهتموا وأقبلوا وأنصتوا.
2- " كتابًا "
ما الذي يعنيه أنهم سمعوا كتابًا؟ ألم تك التلاوة من قبل الرسول (ص)؟ فلم لم يقولوا سمعنا رسولًا ؟ قولهم كتابًا تعني أنهم مهتمون في التأمل في القول، ولم ينشغلوا بالقائل، لقد أشاروا إلى الكتاب نفسه؟! وما يحتويه الكتاب؟! ولم يسندوا القول إلى شخص النبي الكريم (ص) على الرغم من أنه هو الصادق الأمين في قومه، ذلك لأن الكلام في متنه ما يكفي للتصديق؟ استخدامهم لكلمة "كتاب" في موضوع السمع تبين أن تركيزهم في متن القول لا في سنده. ثم أن الآية تقول " أنزل من بعد موسى" وفي هذا إشارة إلى وعلمهم بالتوراة.
3- " أنزل من بعد موسى"
حق لنا أن نتساءل في هذا المقطع : لماذا لم يقولوا: أنزل من بعد التوراة؟ فقد تقدموا بكلمة "كتاب" في موضوع السماع، فحسب صياغة العبارة من بدايتها يمكن أن نتوقع نهايتها، فالآية في بدايتها تقول : " سمعنا كتابًا" وعلى هذا نتوقع أن تكون التتمة هي "من بعد التوراة"، لأن التوراة كتاب، والكتاب يقابله كتاب، أو يقال: سمعنا رسولًا "من بعد موسى" ، لأن الرسول يقابله رسول، لكن الآية بدأت بكتاب وانتهت باسم رسول، وكأن اسم موسى يغني عن اسم التوراة.
أضف إلى ذلك أن النبي محمد (ص) كان حيًا في مقابل أن النبي موسى(ع) كان ميتًا، وحين سمعوا من الرسول الحي قالوا سمعنا كتابًا، أما حين قارنوه بالكتاب الذي سبقه نسبوه للرسول الميت وقالوا : "من بعد موسى" ، ففي حالة وجود الرسول وهو النبي محمد (ص) أسموا الرسول كتابًا، وفي حالة غياب الرسول بموته كما في حالة نبي الله موسى (ع) أسموا الكتاب بموسى أو نسبوه لموسى، وفي هذا معنى عقائدي مهم يمكن أن نستفيد منه في علاقتنا بالقرآن الكريم.
هذا يعني أنهم يعتقدون أن الرسول الجديد الذي هو ماثل أمامهم إنما هو كتاب رباني، وأن الكتاب الذي سبقه وهو التوراة إنما هو رسول، وهذا التقابل أو الالتزام إنما يعني شيء واحد فقط وهو اعتقادهم بأن الرجال يعرفون بالحق، ولكن الحق لا يعرف بالرجال، فالرسول يمثل الرسالة، والرسالة تمثل الرسول، فإذا حضر الرسول فهو كتاب وإذا حضر الكتاب فهو رسول، وهذا ما يمكن أن نسميه أنهم يعتقدون أن الرسول والرسالة لم يفترقا في حالة الرسول القديم موسى(ع)، ولن يفترقا مع الرسول الجديد النبي محمد (ص).
ظهر في زمان هؤلاء الجن انحراف لدى أتباع موسى عن أصل رسالة التوراة وذلك بسبب كثرة الأكاذيب التي تنسب لنبي الله موسى(ع)، أما هؤلاء النفر من الجن فهم يؤمنون بوحدة الموضوع بين نبي الله موسى وبين التوراة وأنهما لن يفترقا أبدًا في الحقيقةوالمضمون، وأن وظيفة الرسول هي أن يوصل الرسالة إلى الناس ويتلوا صحفًا مطهرة، فهم يؤمنون أن موسى (ع) لن يخالف كتاب التوراة، وأن ما نسب له من مخالفة هو كذب وافتراء.
4- " مصدقًا لما بين يديه"
وهذه العبارة تعني أنهم يوظفون علمهم الذي علموه من التوراة في تقييم الواقع، لديهم نور من التوراة لمعرفة حقيقة أي دعوى يطلقها أي داع وأي إنسان،لديهم أصل ومن خلاله هذه يقررون، وعندما أنصتوا إلى القرآن الكريم صدقوه، لأنه مصدق للتوراة ولأنه..
5- " يهدي إلى الحق وإلى طريق مستقيم "
# خلاصة
الآيات تنقل لنا مشهد إيماني تجسد في نفر من الجن، آمنوا إيماناً لا يصطدم بالأمراض القلبية ولا بالعقد النفسية، فهل يمتلك قدرات عقلية مميزة وملكات مميزة حتى يصلوا إلى هذه النتيجة وحتى يتحولوا في جلسة واحدة من مجرد مستمعين إلى رسل ينذرون أقوامهم ويدعونهم إلى القرآن؟ هل تخرجوا من مؤسسة تعليمية محددة؟ هل لهم دراسات أكاديمية؟ لا ،وإنما هم عرفوا الحق فاتبعوه
اللهم اجعلنا ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أللهم ارحمنا بالقرآن واهدنا بالقرآن واحشرنا مع أهل القران الذين هم خاصتك والمقربين لديك ، لهذا الحديث بقية إن شاء الله ، نستودعكم الله والسلام عليكم .