خذوا ما آتيناكم بقوة
| afala-yatadabron# مقدمة
هذا العنوان مستوحى من آية في سورة البقرة، هو أمر مخصص لبني إسرائيل حسب السياق، ولكن لا يمكن تخصيصه في ضرورة العمل به ، فالأمر يؤخذ بعمومه على أساس القيمة التي يحملها كلام الله المنزل، والقرآن الكريم هو كلام الله وعليه يجب أن يؤخذ بقوة أيضًا. نستعرض الآية ثم نقف عند بعض التساؤلات لنأخذ من خلال الإجابة على تلك التساؤلات الفائدة المتعلقة بنا.
# خذوا ما آتيناكم بقوة
﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمْ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63)﴾
تتحدث الآية المباركة في سياق الحديث عن بني إسرائيل، وتخبرهم بخبر يعلموه من تاريخهم ومن كتبهم السماوية أن الله سبحانه وتعالى قد أخذ ميثاقهم ورفع فوقهم الطور، ويذكرهم بالعهد الذي أخذ منهم حينذاك وهو أن يأخذوا ما آتاهم الله وهو الكتاب المنزل عليهم وهو التوراة، أن يأخذوه بقوة وأن يذكروا ما فيه، أن يظلوا ذاكرين لتعاليمه متمسكين بحكمه لعل ذلك يكون سبيلًا لهم للوصول للتقوى التي يأمرهم الله بها. ولنا في هذه الآية الشريفة (3) تساؤلات نستلهم منها ما ينفعنا في علاقتنا مع القرآن الكريم.
# السؤال الأول: متى كان هذا الميثاق
رفع الطور فوق بني إسرائيل كحدث وقع في زمن رسالة نبي الله موسى (ع) حين نزلت التوراة، حيث أن الله سبحانه وتعالى أوقفهم أسفل الجبل المسمى بجبل الطور، وهو الجبل الذي أقسم الله به سبحانه وتعالى في سورة الطور " والطور وكتاب مسطور" وذكر في القرآن الكريم في مواضع عدة، رفع الله سبحانه وتعالى هذا الجبل على بني إسرائيل في آية عظيمة مبصرة، وظن بنوا إسرائيل وهم أسفل الجبل أنه سيقع عليهم وستكون نهايتهم، ولكن الله وفي تلك اللحظات المهيبة أخذ عليهم ميثاق الكتاب، وهو أن يتمسكوا بكتابهم، ولا يحيدوا عن أحكامه ولا عن عقائده أبدًا، وكأن امتداد حياتهم وبقاء بني إسرائيل من بعد تلك اللحظة كان بسبب قبولهم لهذا العهد وقبول هذا الميثاق.
﴿ وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)﴾ سورة الأعراف
# السؤال الثاني: أي جيل تخاطب هذه الآية الشريفة؟
بالرجوع للآيات في سياقها في سورة البقرة، فإن الآيات كانت تخاطب بني إسرائيل الذين هم في زمن النبي محمد(ص)، والذين ورثوا الكتاب من أسلافهم، وهو يخاطبهم في هذه الآية وكأن الحدث وميثاق الكتاب الذي أُخذ من آباءهم أخذ منهم أيضًا، الآية الشريفة تتحدث وكأن المخاطبين في زمن رسالة النبي محمد (ص) هم نفسهم الذين رفع الله سبحانه وتعالى فوقهم الطور، وهم معنيون أيضًا بما حدث لآباءهم من آيات مبصرة، وملزمين كما كان آباؤهم بميثاق الكتاب السماوي والالتزام بالتوراة المقدسة.
بل إن مجمل الآيات التي بدأت بها سورة البقرة وبالخصوص حين بدأ الحديث عن بني إسرائيل هي تخاطب الجيل المعاصر لنزول القرآن، على أنهم هم أنفسهم بنو إسرائيل الذين عايشوا موسى، وهم أنفسهم من كفر بالرسل طيلة القرون السابقة، هي تخاطب الجيل المعاصر للنبي محمد (ص) محملة إياهم أخطاء الأجيال الماضية، وتحدثهم عما ارتكبوه من مصائب في زمان رسالة نبي الله موسى، وكأن هذا الجيل بتعاطيه مع رسالة النبي محمد (ص) هو امتداد لذلك الرعيل الأول فهو لا يفرق عنه بشيء في المسؤوليات والتبعات، وهذا أساس من أساسيات خطاب القرآن للأقوام التي تستلم الكتاب السماوي.
# نتيجة
عندما ينزل الله سبحانه وتعالى الكتاب على أمة من الأمم ويحملهم مسؤولية دراسته وتطبيقه وتبليغة، فإن الذين يرثون الكتاب من بعدهم يحملون نفس المسؤولية، ويتحملون نفس التبعات، وسيحاسب الله سبحانه وتعالى الأجيال اللاحقة على تهاونها كما لو أنها هي من استلمت الكتاب مباشرة من الرسول، وكمن أخذت عليه المواثيق والعهود في عهد الرسالة.
عندما يتحدث القرآن الكريم عن الذين تعنتوا وتكبروا أو تهاونوا في أخذهم للقرآن الكريم في زمن الرسالة، فهذا لا يعني اختصاص الخطاب لذلك الجيل وذلك الرعيل الأول في زمن رسالة النبي محمد (ص)، بل إن الأجيال اللاحقة وهذا الجيل يتحمل نفس المسؤوليات ويحمل نفس التبعات مالم يغير من سلوكه ويأخذ ما أنزله الله إليه بقوة.
الآية الشريفة تعاتب جيل لاحق من بني إسرائيل يبعدون عن آباءهم عشرات القرون، لا أقل من ألفي عام، لكنه يخاطبهم وكأنهم للتو قد نزلت عليهم التوراة، وللتو قد أخذ الله عليهم ميثاق الكتاب، وللتو قد نتق الله فوقهم الجبل، وكأن الآية تقول أنتم من ورثتم الكتاب من آبائكم يجب أن ترثوه بالاعتقاد الكامل وبالعمل به، وليس صحيح أن يكون العمل به مخصوص لزمان دون آخر، فلا تتفلتوا من مسؤولية حمله بما يليق ويجب أن تأخذوا ما أوتيتم بقوة، ولو أنهم الجيل الذي في زمن النبي محمد (ص) نفذوا الأمر وأخذوا ما أنزل إليهم بقوة فلن تشملهم لعنة الذين تهاونوا في أخذه.
# السؤال الثالث: كيف يؤخذ الكتاب بقوة؟
بنوا إسرائيل كانوا ولا زالوا يقدسون كتابهم السماوي، ولكن تقديسهم له تقديس شكلي لم يرق إلى العمل، والآية لا تتحدث عن أخذ الكتاب وحسب، بل أخذه وبقوة، فلا ينفع أن يؤخذ الكتاب بضعف، أو تهاون أو بصورة شكلية، وهذا ما يشير إلى أنهم تهاونوا في تطبيق الكتاب وليس بالضرورة تهاونوا في وضع التوراة في تابوت يليق به، أو أن يحفظ في مكان عال، أو أن يقبل ويضع بين العنين، هذه الصورة الشكلية يفعلها الإنسان بتلقائية ولا عتب أو ضرر فيها، ولكن المشكلة في أنهم لا يأخذوه بقوة.
وما يؤكد أن الأخذ بقوة كان يشير للعمل به، هو أن الآية تكمل بقولها "واذكروا ما فيه لعلكم تتقون" وذكر ما في الكتاب لا يكون إلا بفهم مافيه ومعرفة حقائقه، وإلا فكيف يكون تذاكر مافي التوراة ، هل بذكر محاسنها، وتذاكر تاريخ نزولها، وكتابة الأشعار فيها! كلا! بل ذكر ما في التوراة يكون بفهم النص والعمل به وتذاكره ومداومة الحديث فيه، والانشغال بالقصص التي وردت فيه، وتمام الآية يقول " لعلكم تتقون" والتقوى تدور مدار العمل، وتدور في مدار التطبيق لا مدار التقديس الشكلي فهذا لا يكفي.
# النتيجة الثانية
لذا كان لزامًا على المسلم الذي ورث القرآن أن يأخذه بقوة، فهل يصح أن يأمر الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل الذين أنزلت عليهم التوراة أن يأخذوها بقوة، وأن يوقف الجبل فوقهم حتى يعاهدوا الله على التمسك به، ثم ينزل الله من بعد التوراة كتاب اسمه القرآن الكريم ليكون ميهمنًا على ماقبله من الكتب ثم يأخذوه بضعف وتهاون، ويكون ذلك مقبولًا منهم، لو كان مقبلولاً لما عاتب الله الذين من قبلنا، ولما أنزل آيات بينات في حقهم ليبين لهم سوء ما فعلوه تجاه كلام الله، وإهمالهم له واتباعهم للأهواء بدلًا من اتباع البينات.
وإذا كان لزامًا أن نأخذ بالقرآن الكريم، فلا أقل من أن نأخذه بقوة، وأقل من الأخذ بقوة هو أمر غير مقبول، يجب أن نأخذه بالدرجة التي تجعله هو الشغل الشاغل لمن يريد أن ينشغل بشيء ، وهو الذكر الأكبر والأعظم، وهو مادة التذكير الذي يذكر بها الدعاة إلى الله والمنشغلين بهداية الناس حتى يتحقق ما يأمر به الله سبحانه وتعالى :
(خذوا ما آتيناكم بقوة واذكروا ما فيه لعلكم تتقون)
اللهم اجعلنا من الدعاة إلى طاعتك، والقادة إلى سبيلك وارزقنا بالتمسك بالقرآن الكريم كرامة الدنيا والآخرة إنك على ذلك قدير وبالإجابة قدير، والحمد لله رب العالمين.