مدونة حلمي العلق

أشد حبًا لله

 | afala-yatadabron

مقدمة

الآية البينة الواضحة هي حجة على الإنسان يوم القيامة، يقول الله عز وجل ﴿ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105)﴾ سؤال؟ فمن منا معفي من هذا السؤال؟ من منا لن يسأل بهذا السؤال إن هو أولى كتاب الله ظهره؟ وهل سعيفي الإنسان من هذا السؤال لأنه كان متبعًا لرأي غيره بدون النظر لكتاب الله؟؟

هناك الكثير من الآيات البيّنة التي لا تحتاج سوى قليلٍ من التأمل، حتى تتضح حقيقتها لأنها بيّنة واضحة جلية، وما يتبقى على المؤمن هو أن يواجه نفسه بها حتى يأخذ ما ينفعه وما ينجيه يوم القيامة. الآيات الشريفة لا تواجه الإنسان في معتقداته وأفعاله فقط، بل وحتى في مشاعره التي يوجهها لغير الله، نعم ، وسيحاسب الإنسان على تلك المشاعر أيما حساب، سيحاسب على مشاعر الحب كما سيحاسب على مشاعر الكراهية، وسيحاسب على الحب في الدين على أساس الدرجة التي يحملها من ذلك الحب، فإن كانت أشد من حبه لله كان ذلك سببًا في توقيفه ومحاسبته.

عنوان حلقتنا لهذا اليوم هو ( أشد حبًا لله ) وهي صفة المؤمن، وهو ما تحدثت به الآية الشريفة (165) من سورة البقرة والتي ناقشت مشكلة توجيه الحب لغير الله بدرجة مساوية لحب الله، وتعاملت مع ذلك الاعتبار على أنه ظلم وأنذرت من يحمل في قلبه ذلك الحب بأشد العذاب يوم القيامة.

نستعرض في هذه الحلقة هذه الآيات، ونقف عليها أربع وقفات، ونختم بأربع ملاحظات إن شاء الله

أشد حبًا لله

يقول الله سبحانه وتعالى:

﴿وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ ﴾ البقرة (165)

1- اتخاذ الأنداد

﴿ وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ﴾

من الممكن أن يصرّح الإنسان بشيء ولكن حقيقة اعتباره لذلك الشيء تختلف عما يصرّح به، فقد تكون بدرجة أعلى أو أقل مما يدعيه، فهناك فرق بين التصريح والاعتبار، التصريح هو ما يطلقه اللسان من عبارة حول قضية ما، ويظل ذلك التصريح في مدار الادعاء مالم يصدقه العمل، أما الاعتبارات فهي مضمورة في صدر الإنسان وقد لا يتم التصريح بها ولكن يكشفها التفاعل والتعامل. الآية الشريفة استخدمت لفظة الاتخاذ مشيرة إلى ذلك المضمور في القلوب من اعتبارات قد لا يتم التصريح بها ولكن جاء القرآن يكشفها ويفضحها ويتحدث عنها بصراحة.

هؤلاء الناس الذين تعرضهم الآية الشريفة لا ينكرون وجود الله، هم يعرفونه حق المعرفة، ولكن لديهم جهة أخرى معتبرة بدرجة الند في قلوبهم حتى وإن لم يصرحوا بلفظ الندية، والند هو النظير والمثيل والمساوي في الدرجة والمقدار، والآية تقول أنهم يتخذون من دون الله أندادًا، والاتخاذ كلمة تتحرك في مدار الاعتبارات والحقائق الخفية التي قد لا يعترف بها الإنسان ولا يصرح بها ، والآية تتحدث عن حقيقة ما يعتقدون به لا عن ادعاءاتهم اللسانية. وما أوقعهم في هذا المصيبة هو الحب الذي ساووه بحب الله عز وجل. في مقابل ذلك الحب المبالغ فيه والمصروف لغير الله تكمل الآية واصفة قلوب الذين آمنوا بقولها :

2- أشد حبًا لله

﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ ﴾

لتبين بأي درجة يجب أن يكون الحب لله، يجب أن يكون هو الأشد، فالآية لا تنفي أن يكون في قلب المؤمن حب لغير الله، ولكنها تبيّن أن حبه لله هو الأشد، هو الأكبر ، وإذا كان هو الأشد فهو المسيطر والمهيمن على القلب، وإذا سيطر أوجد رغبة لله ودافعية في اتجاهه سبحانه.

3- القوة لله جميعًا

﴿وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ﴾

بأي شيء ظلموا؟ ظلموا بمساواة الحب وبحبهم لغير الله بنفس درجة حبهم لله، ففي التعادل إنقاص من حق الله، فلا شيء يعادل الله في قدره، ويوم القيامة يتكشف بطلان هذه المساواة، ويتبيّن أن القوة لله جميعاً وليس للأنداد شيء منها، ولماذا تشير الآية لهذا؟ لأنهم كانوا يعتقدون أن القوة مقسمة بين الله وبين أولئك الأنداد، وأن لؤلئك الأنداد شيء من القوة، فاعتمدوا على ذلك الظن الواهم، فأحدث في قلوبهم ذلك الحب المبالغ فيه، فكان أن خذلتهم تلك الظنون في ساعة الحساب. ثم تختم الآية بقولها: (وأن الله شديد العذاب)، هذا هو ما ينتظر من أودع في قلبه حبًا مساويًا لحب الله، ومن ساوى بين الله وغيره فوقع في الندية وهو لا يشعر، وما يزيد ذلك العذاب هو البراءة التي تنقلها لنا الآيات التالية:

4- البراءة

﴿إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنْ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوْا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمْ الأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمْ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْ النَّارِ (167)﴾

البراءة هي قطع الصلة حتى تخلو الذمة من تبعات تلك الصلة، والبراءة هنا جاءت بسبب التبعية التي أولاها الذين وقعوا في اتخاذ الأنداد للذين اتبعوهم في هذا الأمر، ونستشعر من خلال سياق الآيات أنها كانت تبعية عمياء خالية من الرشد والتأمل في حقيقة ما يجري.

الآية تعرض متبِعون يلقون باللائمة على من اتبعوهم لأنهم هم السبب في إحداث هذا الحب المساوي لله في قلوبهم و اتخاذهم الأنداد، ولكن المتَبعون يتبرأون منهم في تلك الساعة، ويقولون لا علاقة لنا بأفعالكم وأنتم المسؤولون الآن عن معتقداتكم وأفعالكم في الدين، وهذه البراءة هي ما تحدث الغيظ في قلوب الأتباع الذين يرغبون في الرد بالمثل، فيتمنون لو أنهم يعودون للدنيا حتى يتبرأوا منهم هناك، ويقطعوا صلتهم بهم، ولكن تذهب تلك الأمنيات حسرات في قلوبهم على مافرطوا في حياتهم الدنيا ليذوقوا عذاب الحسرة والندامة قبل عذاب النار.

خلاصة

1- دار الحديث في الآيات الشريفة حول شيء معنوي يسكن في القلب وهو الحب، وقد بيّنت أن المؤمن سيحاسب على معتقدات باطنة قد يظن أنها عادية، وقد يتهاون بها ولكنها عظيمة عند الله، ولها آثار في حياته الإيمانة، وهي بهذا تحذّر المؤمن مما يضمره قلبه من مشاعر ، حتى لا يظن أنه غير محاسب على ذلك.

2- تحدثت الآيات عمّن اتخذوا من دون الله أندادًا، وامتلأت قلوبهم بحبهم بدرجة عالية تعادل حبهم لله، لم تقل الآيات أنهم لا يحبون الله، لا ، ليس هذا هو أساس الموضوع، هم يحبون الله، ولكن المشكلة التي تشير لها الآية هي أنه يوجد في قلوبهم حب لأحد غير الله يعادل في درجته حبهم لله، فالمشكلة تكمن في تساوي الحب، لا في نفيه وعدم تواجده تجاه الله سبحانه وتعالى. في المقابل عرضت الآيات الحالة الإيمانية التي يعيشها المؤمن في قلبه، وهي أنه أشد حبًا لله، وهنا أيضًا الآية لاتقول أن هذا المؤمن لا يحب غير الله، ولكن تقول أن حبه لله أكبر وأشد ولا يقارن بأي حب آخر.

3- تبين الآيات الشريفة تسلسل العقائد وتداعي المعاني واحدة تلو الأخرى، فالاتباع الأعمى الذي لا يستند إلى كتاب الله أوقع المتَبِعين في الاعتقاد بأن هناك من يشارك الله في القوة، وهذا الاعتقاد أَدخلهم في حب غير الله حبًا كبيرًا، وبتساوي حب غير الله مع الله تساوى المقام في اعتقادهم الباطني وفي اعتباراتهم، وتساوي مقام غير الله مع مقام الله أوقعهم في الندية لله، والندية ظلم، والظلم يحاسب عليه الإنسان يوم القيامة.

4- الآيات الشريفة تبين مثلث الشرك الخفي المكون من ثلاث اضلاع ، المتَبِعون المتَبَعون والأنداد، المتبَعون يدعون إلى الإنداد باعتبارات كاذبة ما أنزل الله بها من سلطان، المتبعون وقعوا في هذه الكذبة لأنهم لم يلتزموا بالسلطان المبين من عند الله سبحانه وتعالى، وأما من اتُخذوا أندادًا فهم برءاء من تلك الادعاءات ولا دخل لهم بالأكاذيب الباطلة المنسوبة لهم.

اللهم انفعنا بالقرآن واهدنا إنك أنت العزيز الحكيم.