مدونة حلمي العلق

ثم لم يحملوها

 | afala-yatadabron

مقدمة:

على الأمة التي أنزل الله عليها كتاب أن تدرك مسؤوليتها تجاهه، وأن تدرك خطر التراخي في حمل هذه المسؤولية، فهذه المسؤولية الملقاة على عاتقهم تكليف، ولن تكون تشريفًا لهم حتى يقوموا بأمانتها حق القيام. كلام الله أمانة، ولا يكفي في حمل هذه الأمانة نقلها عبر الأجيال بالقرطاس والورق وحسب، بل يجب دراستها وتطبيقها، حتى يستلمها الجيل اللاحق من الجيل السابق محفوظة على القرطاس ومفعلة على أرض الواقع.

لقد وبخ الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل الذين أنزل الله عليهم كتابًا ثم تناقلوه عبر الأجيال بقرطاسه دون دراسة ولا وعي ولا إدراك ، ودون أن يفعلوه في واقعهم فاستحقوا بذلك أن أبطل الله ولايتهم على دينه لأنهم لم يكونوا أهلًا لتلك الولاية، ولا لذلك التكليف، وبين زيف تحلمهم لهذه الأمانة الكبيرة أمام الناس حتى لا يتولاهم بعد نزول القرآن الكريم أحد.

يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الجمعة

ثم لم يحملوها :

**(**مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (6))

**(**مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5))

ثم لم يحملوها :

**(**مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5))

1- (مثل الذين حُمّلوا التوراة)

كلمة "الحمل" تستخدم في الأمانة والمسؤولية، فنقول فلان يحمل مسؤولية أو يحمل أمانة، والذين حُمّلوا التوراة في الآية هم الذين هادوا الذين تتحدث عنهم الآية اللاحقة، هم بنو إسرائيل الذين نجاهم الله من بطش فرعون على يد نبي الله موسى (ع)، وأراهم الآيات العظام، ثم أنزل الله عليهم التوراة، وأخذ عليهم عهدًا أن يأخذوه بقوة ولا يتخلفوا عنه، حملهم الله مسؤولية دراسة وتطبيق هذا الكتاب، وحمّلهم إياه أمانةً حتى يصل إلى الأجيال التي من بعدهم مدروسًا مطبقًا.

2- ( ثم لم يحملوها)

على الرغم من تلك العهود والمواثيق بضرورة الالتزام بتلك الأمانة والمسؤولية، إلا أنهم لم يحملوها، كانوا يقدسون التوراة شكلًا لا مضمونًا، يقبلونها يرفعونها عاليًا، يذَهّبون مقابضها التي تلتف حولها أسفار التوراة، يضعون التوراة في صناديق محترمة مزخرفة ومزينة وقد تكون مذهبة، ولكن هل تحمّل مسؤولية التوراة يقف عند هذا المستوى؟ لو كان الأمر كذلك لما حاسبهم الله في رسالته التي نزلت على نبي الله محمد (ص). جاء القرآن الكريم ليوبخهم على هذا الإهمال والابتعاد عن تطبيقه، لا على إهمال التقديس الشكلي الظاهري، ولأنهم حملوها حملًا مادياً فقط ، أعطاهم القرآن الكريم مثَل الحمار.

3- (كمثل الحمار يحمل أسفارًا)

حمل البضائع والمتاع هي وظيفة هذا المخلوق، لقد خلقه الله سبحانه وتعالى حتى يحمل المتاع التي لا يستطيع الإنسان حملها ونقلها من نقطة إلى أخرى، والحمار حين ينقل الأشياء من نقطة إلى أخرى لا يعلم ما الذي يحمل على ظهره، هو لا يقوم بفتح المتاع ومعرفة مابداخله، هو يقوم بوظيفته التي خصه الله بها على أكمل وجه، يحمل البضائع والأشياء من نقطة الانطلاق ثم يقف عن نقطة الوصول لتنزل منه وهو لا يعلم عنها شيئًا.

ولكن الإنسان حين خلقه الله وعدل خلقته، ومنحه الخواص والمميزات عن بقية المخلوقات، إنما منحه تلك الخواص حتى يكون جديرًا بخلافته وحمل الإمانة بعقله ووجدانه، وحتى ينعكس كل ذلك في واقعه، ما هي التوراة؟ هل هي قرطاس أو جلد أو ألواح فقط؟ هل هذه التوراة؟ الكتاب المقدس ليس قراطيس، إنها نور نازل من عند الله النور، التوراة فرقان وهدى للمتقين، التوراة هي كلمات الله، وكل كلمة منها هي آية من آيات الله الدالة على وجوده وعلى حقيقة إنزاله للحق. فما وظيفة هؤلاء القوم الذين استلموا من رسول الله موسى (ع) هذا الكتاب الرباني؟! هل كانت وظيفتهم محصورة في أن ينقلوها إلى الذين من بعدهم دون أن يعلموا ما بين دفتيه؟ أو دون أن يعرفوا الحق الذي أنزله الله فيه؟ فما مثلهم في هذه الحالة؟ القرآن يجيب مثلهم كمثل الحمار يحمل أسفارًا ولا يعلم مافيها.

4- (بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله)

يا بئس ما صنعوا ، ويابئس المثل الذي تمثلوا به.

(قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (6))

1- (قل يا أيها الذين هادوا)

الذين هادوا هي أحد مسميات بني إسرائيل، وهي نسبة إلى قول الرعيل الأول الذي آمنوا مع موسى عليه السلام (وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)) والخطاب في الآية موجه إلى النبي محمد (ص) وهو حامل رسالة القرآن الكريم إلى بني إسرائيل، وفي ذلك إشارة إلى إيمان آبائهم الحقيقي بالآيات.

2- (إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس)

هم يزعمون أنهم أمناء على دين الله، بحكم أنهم يحملون التوراة وبالتالي هم يعرفون حقيقة الدين وأحكامه وعقائده، هم علماء يعرفون تاريخ الرسالات والوصايا العشر مع تفاصيلها في الوقت الذي كانت قريش تغط في ظلامات الجهل والأمية، لكنهم وعلى الرغم من علمهم هذا إلا أنهم لا يتحدثون بحقيقة الكتاب، وابتعدوا عنه وراحوا يمنون الناس بعقائد ما أنزل الله بها من سلطان.

الآية تقول للنبي محمد (ص) الذي يعتبرونه هم من قوم الأميين الذين لا يعلمون حقائق الرسالات، قل لهم يا محمد إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس، إن كنتم تمثلون هذه الواجهة للدين، وأن من أراد الدين تولاكم وأخذ باتباعكم، وأنكم مخصوصون عن بقية الناس بهذه المكانة وهذه الخصوصية الربانية، فتمنوا الموت.

3- (فتمنوا الموت إن كنتم صادقين)

وهنا تربط الآية بين العلم الرباني وبين القرب الحقيقي من الله، فمؤدى العلم الحقيقي ومعرفة الكتاب تقود إلى خروج حب الدنيا من القلب، فالرباني الحق لا يرى إلا الآخرة، ولا ضير لديه أن يفارق هذه الحياة! فهل أنتم كذلك؟! وهنا تريد أن تكشف الآية حقيقة ما في قلوبهم بعد أن كشفت أنهم لم يحملوا التوراة، راحت تسقط ولايتهم على الناس أمام أنفسهم بكشف حبهم للدنيا، فأولياء الله هم الذين يبيعون دنياهم بآخرتهم، لا الذين يبيعون آخرتهم بدنياهم.

نفس هذه العبارة (فتمنوا الموت) وجهت لهم في سورة البقرة ردا على ادعائهم أن الآخرة خالصة لهم من دون الناس، (قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمْ الدَّارُ الآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوْا الْمَوْتَ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (94)) سورة البقرة، فخلوص الآخرة لهم هو وجه آخر لمعنى أنهم أولياء الله، فالجنة حسب ادعاءهم لهم وحدهم، وهم من يقودون الناس إلى الجنة، ولكن الله في الآيتين أبطل ادعاءهم، وأبطل ولايتهم الدينية بهذا الاختبار، أن تمنوا الموت إن كنتم صادقين.

خاتمة

ظلت التوراة مرفوعة فوق رؤوس أصحابها مقدسة محترمة، يزيّنون بآياتها دور العبادة وواجهات المنازل، ولكنها مع كل أشكال الاهتمام تلك بقيت معطلةً لا يعمل بها، فجاء التوبيخ و الحساب من لدن العزيز الجبار حين إنزال القرآن الكريم على هذا الإهمال في الدينا قبل الآخرة.

كان الذين هادوا أهل توراة لكنهم لم يكونوا أهلاً لها، وقد فتنهم الشيطان بتقديسها بصورة ظاهرية حتى يغتروا بأنفسهم ويظنوا أنهم حقًا أولياء لله، لكنها ظلت غير مطبقة على أرض الواقع، يطبقون بدلًا منها ما يخالفها ويتفاخرون أمام الناس بامتلاك كلام الله.

الله سبحانه وتعالى ينزّل كلامه للناس ليفعّل لا ليعطل، حين يفعّل كلام الله تكون صور التقديس والاحترام والتبجيل لكتاب الله أمرًا محمودًا لأنه يعكس صورة الواقع الذي تعيشه الناس، فهو تقديس شكلي يتوافق مع التقديس العملي، أما حين يكون كلام الله معطلًا فلا يجدي مع ذلك التعطيل كل صور التقديس، بل إن تلك الصور تتحول إلى شكل من أشكال الإشغال عن ما يجب النظر إليه وهو حقيقة ما أنزله الله، ولذا يمكننا القول أن الله وبّخهم وحاسبهم لأن التوراة كانت حبسية الجدران والزخارف والصناديق المؤطرة بالذهب ولم تكن في حقيقتها مزينة به.

هذه الآيات الشريفة تتحدث عن عملية نقل أمانة كتاب الله المنزل عبر الأجيال، كلام الله أمانة، فكيف يجب أن نستلم هذه الأمانة من الجيل السابق؟ وكيف يجب أن نسلمها للجيل اللاحق؟ يجب أن نستلمها مفتوحة، ونسلمها مفتوحةً لا مغلقة، لا يصح أن نردد أن كلام الله هو أقدس كلام، وأعلى كلام، وأهم كلام، لكننا لا نعي ما هو كلام الله، ولا نعي مافيه من حقائق ومفاهيم وقيم وعقائد وأحكام، يجب أن لا نحبس كلام الله في الصناديق المزخرفة المغلقة، ثم نقول في هذا الصندوق أغلى كلام، يجب أن نخرجه من ظلمة الصناديق ونسكنه في صدورنا أولًا ثم تنطق به أفعالنا وجوارحنا لنراه واقعاً في تفاصيل حياتنا، ليستلمه الناس والأجيال اللاحقة مرسومًا ومفهومًا ومجسدًا على أرض الواقع، ولا نتكفي بنقل كلام الله على القرطاس.