الذين يُمسكون بالكتاب
| afala-yatadabron# مقدمة
يعرض لنا القرآن الكريم أحوال الأمم السابقة حتى ندرك ما آلت إليه تلك الأمم من ابتعاد عن الهدى، فنأخذ منها العظة والعبرة وحتى لا نقع فيما وقعوا فيه، وقد تحدث القرآن الكريم أكثر ما تحدث عن أحوال بني إسرائيل وعن تعاملهم مع الكتاب، وقد وجدنا في الحلقة السابقة كيف أن الله سبحانه وتعالى خاطب النبي بقوله: (سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة) آمرًا المؤمنين أن لا يتفرقوا عن كتابهم المنزل حتى لا يسيروا كما سار بنو إسرائيل حين بدّلوا نعمة الله كفرًا.
نعرض في هذه الحلقة آيات شريفة من سورة الأعراف تذكر أحوال بني إسرائيل مع الكتاب في حقبة من الزمان، ونريد من خلالها أن نفهم كيف تحدث القرآن الكريم عن فئة في بني إسرائيل كانت تحث الناس على التمسك بالتوراة وعدم الابتعاد عنها، في قبال فئات أخرى ابتعدت عنه واتبعت غير ما أنزل الله، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الأعراف:
# الذين يمسكون بالكتاب
يقول الله عز وجل:
﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمْ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾ الأعراف (168) - (170)
الآيات المباركة تتحدث عن تعاقب الأجيال، وتأثر الجيل اللاحق من بني إسرائيل بالجيل الذي سبقه، فالجيل اللاحق أخذ ممن سبقه وتأثر بهم، لكنه حين أخذ، أخذ بمن هم دون الصلاح، دون أن يضع معايير فيما يأخذه ممن سبقه حسب ما بينه الله لهم في التوراة.
1-﴿وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمْ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾
تبين الآية الشريفة أن الله سبحانه وتعالى مزق بني إسرائيل في أنحاء الأرض إلى أمم، وصنفهم إلى صنفين الأول :الصالحون، الثاني من هو دون ذلك أي أقل من الصلاح، والذي يكون أقل من الصلاح ليس بصالح حسب الكتاب. ثم إن الآية تبيّن أن الله سبحانه وتعالى ابتلاهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون عن عدم الصلاح وعن الفساد.
2- ﴿ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ ﴾
جاء من بعد ذلك جيل آخر من نفس بني إسرائيل، خلف الرعيل الأول منهم، ورثوا الكتاب، وعلى الرغم من أن التوراة بين أيديهم، وفيها أوامر الله وأحكامه إلا أنهم لم يأخذوا بها وبدلًا منها أخذوا بالعرض الأدنى.
3- ﴿ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا ﴾
الآية تقول أن الجيل الجديد يأخذ عرض الأدنى، التوراة موجوة ، وبدلًا من أن يأخذوا بها، يأخذون بما هو دون التوراة، وماذا يكون ما دون التوراة؟ كل كتاب غير التوراة هو دونه، كل كلام غير كلام الله هو الأدنى، فكلام الله يعلوا ولا يعلى عليه، وكل كلام غير كلام الله هو أدنى بلا شك.
وهنا إشارة إلى تأثرهم بدين آباءهم دون تمحيص أو تدقيق، فقد عرض عليهم دين ممن هم دون الصلاح ممن سبقهم، فقبلوه، وهو عَرَض أي معروض متوفر يعرضه أهل الهوى للناس من أجل أن تنجذب إليه الأبصار فيأخذوا به بدلًا من أن يكون الأخذ من كلام الله. ويقولون سيُغفر لنا، سيغفر لنا إن أخذنا بشيء لم يسمح لنا الله أن نأخذ به، أو قد تفهم أيضًا بأننا سيغفر لنا ذنوبنا يوم القيامة لأننا أحباب الله.
4- ﴿ وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ﴾
تشير إلى ضعف المناعة الإيمانية، والمناعة الإيمانية هي أن لا يقبلوا بأي رأي وبأي فكره في الدين إلا بعرضها على الكتاب، الآية تقول "يأخذون عرض هذا الأدنى" أي لا مانع لديهم من أن يأخذوا بالعرض الذي وصلهم ، ثم تقول " وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه" في تأكيد على قبولهم بالأخذ من أي مصدر كان حتى وإن كان من غير الذين سبقهم فالمهم أن يكون مثله في المضمون، ويعزز ما يهوون، حتى وإن كان ذلك على حساب نقض الميثاق:
5- ﴿ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ ﴾
وهنا تعترض الآية على سلوكهم المخالف للإيمان، وتقول: كيف يدينون لله بأي عرض يعرض عليهم؟ يصدقونه ويتحدثون به ويدعون إليه على أنه دين الله، ألم يقل لهم كتاب التوراة أن يتجنبوا نشر ما لم ينص عليه الكتاب؟! فلم يبدلون نعمة الله. ثم تؤكد الآية أنهم درسوا ما فيه، ورأوا أوامره سبحانه ولكنهم تغافلوا عنها ومشوا وراء أهواءهم.
الآية الشريفة تتحدث عن حكم رباني هام أسمته ميثاق الكتاب، هذا الحكم هو حرمة التحدث عن الله بغير الحق الذي أنزله الله في كتابه، الآية تقول ألم يُؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا مافيه، بناءًا على دراسته اتضح لهم وجود هذا الحكم، فكيف خالفوه بعد العلم به؟!
6- ﴿وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾
في إشارة واضحة إلى أن اتباعهم لذلك العرض الأدنى إنما كان بسبب حبهم للدنيا، وأن إيمانهم بالآخرة انسحب من قلوبهم فلا يرون إلا الدنيا ومتاعها ومكانتها والعلو فيها، فراحوا يبيعون دينهم بدنياهم، ووقعوا في إغماءة الهوى وغاب عقلهم عن الوعي، فمن يأتيه كتاب ويقرأ عن الآخرة فيها فلا يشتري دنياه بآخرته إن كان من العاقلين.
7- ﴿ وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ﴾
الآية الشريفة تستدرك بذكر فئة أخرى في قبال تلك الفئة المفسدة التي ذكرتها الآية السابقة، الآية السابقة تحدثت عمّن بدّل نعمة الله واستهان بها فاستبدلها بعروض هي دون الصلاح، بما هو أقل من كلام الله. وهذه الآية تقول هناك فئة أخرى من هذا الجيل واصل على المبدأ الصحيح الذي أمر الله به وهو التمسك بالكتاب.
الآية الشريفة تؤكد أن أساس الصلاح يكمن في تمسك الناس بكتابهم، الآية الشريفة تقول: الذين يُمسّكون بالكتاب، والتي تعني أنهم يحثون على التمسك بالكتاب، والله سبحانه وتعالى يقول بأن هذا هو الإصلاح في المجتمع، أن تجعله يتمسك بالكتاب.
ثم تختم الآية بقولها: إنا لا نضيع أجر المصلحين، إذًا هؤلاء الذين يحملون رسالة الله على عاتقهم كرسالة يؤدونها في الحياة ويأمرون الناس بالتمسك بها؛ أجرهم على الله، في هذا إشارة إلى عظم العمل الذي يقومون به، وإلى ما يمكن أن يواجهه من يسير في هذا السبيل من صعاب ومشاق من أجل أن تكون كلمة الله هي العليا.
# خلاصة
لا ينبغي للأمة التي أورثها الله الكتاب أن تعيش انفصامًا بين المبدأ والواقع، فواقعها يجب أن يجسد تعاليم ومبادئ الكتاب الذي تؤمن به، وحملت أمانته، فمن ورث الكتاب مسؤول عن دراسته، ومن درسه مسؤول عن تطبيقه والدعوة إليه.
لقد صنفت الآيات الشريفة مجتمع بني إسرائيل في تلك الحقبة إلى فئة مبتعدة عن الكتاب تأمر وتعمل بخلافه، وفئة أخرى تعمل على أساسه وتأمر بالتمسك به، والآية الأخيرة تؤكد أن الصلاح في حث الناس على التمسك بكتابهم والعمل بعهوده ومواثيقه.