ليحكم بينهم
| afala-yatadabron# مقدمة
القرآن الكريم حاكم ، وعدم الأخذ بآياته البيّنة وعدم تفعيلها بحجة أنه لا أحد يفهم القرآن حق فهمه، هو هروب من مسؤولية تطبيق ما أمر الله به، ورضًا بما استقرت عليه النفوس، ﴿ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ الأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)﴾ . هناك فرق بين أن نسعى لفهم شيء من كتاب الله فلا نتمكن من فهمه، وبين أن تكون الآية بيّنة أمامنا لكننا لا نريد أن نقر بفهم ما نراه، ونعرض عن كتاب الله رغبة عنه لا رغبة فيه.
القرآن الكريم ليس شعار ، القرآن حقيقة يجب أن تطبق وحاكم يجب أن يأخذ موقعه في الحكم، كتاب الله حاكم، لأنه نازل من عند المالك إلى العبيد المملوكين، فما الذي يحجبهم عن قول خالقهم وسيدهم وربهم الأعلى، أهي اللغة؟ أم تركيبات الألفاظ؟ أم النفس وأهواؤها؟ والقلب وأمراضه؟ أكثر ما يتهم به القرآن المعرضين عنه ليس نقصان المهارات التي تؤهلهم لفهمه، ولكنه يشير في أغلب الأحيان إلى هوى النفوس ومرض القلوب، هي المعضلة الكبرى التي تحول بين المرء وبين هذه الكلمات وهذه الحقيقة.
قد نتولى عن القرآن ونبرر ذلك بمبررات كثيرة، ولكن هل هذه المبررات مقبولة عند الله سبحانه وتعالى، هذا هو الأهم، خصوصًا وإننا نرى أن الآيات تذكرنا بالأقوام التي تولت عن كتابها وابتعدت عنه، وكيف أن الله سيحاسبهم أشد الحساب على هذا التولي، يقول الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران في الآية (23):
# ليحكم بينهم
﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنْ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)﴾
الآية المباركة تخاطب النبي محمد (ص) وتحدثه عن فئة من أهل الكتاب أوتوا نصيبًا من الكتاب، أي أوتوا مقدارًا من علمه وفهم ما فيه، يدعون إلى التحاكم إلى كتاب الله، ونعلم بالخصوص أن فريقاً من أهل الكتاب وقفوا في وجه دعوة النبي رافضين ما يتحدث به من أحكام وعقائد، فدار الجدال والسجال طويلًا، خصوصًا وأن النبي محمد (ص) جاء مصدقًا لما بين يديه من التوراة والإنجيل، إلا أن فريقًا منهم رفض هذه الدعوة فأعرضوا عن التحاكم إلى كتاب الله، وتخلفوا عن تلك الدعوة ولم يستجيبوا لها.
وقد دعاهم إلى ذلك التحاكم من اختلف معهم في جزئية من جزئيات الدين، فدعا إلى رفع ذلك الخلاف بالعودة إلى كتاب الله لأنه الحاكم، وهي دعوة للعودة للأصل الذي منه نشأت الأحكام والعقائد والحقائق، وهو إلزام بما يدعي المؤمن بأنه ملتزم به، فكان مضمون الدعوة هو: إن كنتم تؤمنون بما أنزل الله إليكم من كتاب فتعالوا نتحاكم عنده لنرى أيّنا على حق في هذه القضية العقائدية أو الشرعية؟
الآية المباركة تأتي في سياق تبيين خطر هذا الإعراض، لأنها دعوة يجب أن لا تُرفض! ويجب أن لا يتعالى عليها بالإعراض أحد ، ولماذا؟ لأنها بمثابة التحاكم عند الله سبحانه وتعالى، لأنها كلماته. المدعي في هذه القضية ملتزم بالكتاب وواثق من أن الله سينصره في القضية المختلف فيها، ولكن الذي تولى يعلم في قرارة نفسه أن الكتاب لا يناصره وأن لديه أقوال ما أنزل الله بها من سلطان ولهذا يرفض تولي الكتاب والتحاكم عنده، وبهذا تُلقى عليه الحجة ويقر على نفسه أنه يخالف كتاب الله بمحض إرادته، على الرغم من أنه يعلم نصيبًا منه.
لكن السؤال كيف امتلك هذا الفريق هذه القدرة على الإعراض عن كتاب الله؟كيف اطمئن من جهة الله ألا يخاف مخالفة الكتاب؟ الآية التالية تجيب ..
﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)﴾
﴿وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾
السبب هو الغرور بالله، وما هو الغرور بالله، هو الظن بأن الله سيعامل هذه الفئة أو هذه الطائفة تعاملًا خاصًا على خلاف بقيّة البشر، فقد يعاقب كل الناس حسب القانون، ولكن لهذا القانون استثناء معهم، وما الذي أحدث هذا الاستثناء؟ هو الغرور ؟ وما الذي أوقعهم في هذا الغرور؟هو الافتراءات والأباطيل، هم كمن كذّب كذبة على نفسه فصدقها وازداد في تصديقها إلى أن دخلت في منطقة العقيدة الصلبة التي لا يمكن التنازل عنها، والنقطة العمياء التي لا يمكن أن ترى لا بالعقل ولا بالدليل ولا بالمنطق.
وبمعنى آخر يمكن أن نقول أن هؤلاء الناس قد انخدعوا في أنفسهم، فلم يعد بإمكانهم الخروج من بئر الكذبة التي اصطنعوها لأنفسهم واستمرت لأجيال فأخذت موقعها في النفوس فاصبح لزامًا بالنسبة لهم أن تكون ثابتة لا تتغير، ويبدو أن الذي طلب التحاكم إلى كتاب الله يعلم أنهم في خدعة لا يمكن أن يعالجها إلا كتاب الله، ولكن المخالفين لكتابهم يعلمون في قرارة أنفسهم أن كتاب الله لا يناصرهم ولا يؤيد ما هم عليه لذا أعرضوا عنه، ورفضوا التحاكم عنده. وقد أوصلهم الغرور إلى أن تلك المعتقدات الباطلة حقيقة لا شك فيها ولو لم يذكرها الله في كتابه. فما هي هذه العقيدة الباطلة؟ وفي ماذا وقوعوا؟
**﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ ﴾ **
لقد عبث الشيطان في حقيقة الآخرة، لم يلغيها، لكنه غيّر مضمونها، هم يعتقدون اعتقادًا جازمًا أنهم لن يدخلوا النار، ولو دخل أحدهم النار فلن يخلّد فيها، وإنما سيمكث فيها أيامًا معدودات ثم يستنقذ منها، لماذا؟ لاعتقادهم بأن قانون الله في الحساب لا يطبق عليهم بالكامل، ذلك لأنهم مقربون منه، و مميزون عنده، ولن يكون أن يعذبوا وهم محببون عنده وهم بهذه المكانة وهذه الدرجة.
ولكن الحقيقة تخالف أهواءهم :
﴿ فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)﴾
ما هو حالهم في تلك الساعة؟ ما هو وضعهم في تلك اللحظات حين يأتي الحساب دقيقًا لايقبل إلا الحق، كيف بهم إذا جمعهم الله في ذلك اليوم وحاسبهم على أساس أن لكل نفس ما كسبت وليس ماتمنت؟ كل إنسان سيحاسب حسب كسبه لا على أساس من هو وما هو انتماؤه، لأن الله عدل وحق ولن يظلم أحد في ذلك اليوم.
# خاتمة
1- بينت الآيات الشريفة أن ليس كل الذين آمنوا بما أنزل الله ويعلمون مافيه يقبلون ما أنزله الله سبحانه وتعالى، وهنا سؤال مهم نطرحه أمام هذه الآيات الشريفة : ما الذي جعلهم يعرضون عن التحاكم لكتاب الله على الرغم من أنهم أهل كتاب؟ ما الذي جعلهم يعرضون عنه؟ ألا يتقون الله؟ ألا يخافون منه؟ لا ! لا يخافون! لأن الشيطان أطفأ في قلوبهم ذلك الخوف بالغرور حين بدل حقيقة الآخرة بالأكاذيب، فشروها وصدقوها وتشربتها قلوبهم واغتروا بها ، وباعوا كتاب الله، فلم يعد مجال لكتاب الله ولا لآياته.
إذًا من هذا يجب أن نتعلم كيف يُقبل الإنسان على كتاب الله؟ وكيف يعرض عنه؟ ما لم يكن الخوف حاكمًا في النفوس فلن يكون القرآن حاكمًا على أرض الواقع، ولن تتفعل التقوى، الإقبال الحقيقي على كتاب الله مرهون بالتقوى والتقوى مرهونة بالإيمان بالآخرة الحقيقية التي وصفها في كتبه، الآخرة التي لا تحابي أحد، ولا تجامل أحد، الآخرة التي يكون فيها الميزان بالقسط لا بالأهواء والأباطيل.
2- سؤال : الآية تقول غرهم في دينهم ، أليسوا أهل كتاب؟ فكيف تقول الآية دينهم؟ ( غرهم في دينهم ) أليس هو دين الكتاب؟ أليس دين الله؟ لا! هو دينهم وليس دين الله، على الرغم من أنهم أهل كتاب، لأن الانتساب إلى كتاب الله لا يكون بالشعارات وإنما بالعمل، هو دينهم وليس دين الله، لأنه مخترع بالافتراءات و الأكاذيب، ومبني على الباطل وليس على الحق.
3 - كتاب الله حاكم في كل شؤون الدين، وما لم نقبل بهذه الحاكمية المطلقة فعلينا أن نبحث عن المشكلة في قلوبنا وعن السبب الذي أضعف إقبالنا على هذا الكتاب. بينت الآيات الشريفة أنه ليست المشكلة في قبول الكتاب هو وجود الأدوات و المهارات أو عدم وجودها، هؤلاء يعلمون نصيبًا من الكتاب، وكان جدير بهم أن يسعوا لتحصيل ما تبقى منه، وأن يستجيبوا للتحاكم عنده، لكن هذه النفوس كانت تعيش الغرور بالله، لقد اتبعوا الأباطيل التي أطفأت نار الآخرة عنهم، وتمكن الشيطان من أن يبعدهم عن كتاب الله حين أضعف إيمانهم بحقيقة الآخرة.