سورة المؤمنون من آية 105 إلى آية 111
| ayat | almuminun﴿ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ﴾ (105)
﴿ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ ﴾ الله عز وجل يحتج على الذين كذبوا بآياته بأن الآيات كانت تُتلى عليهم، وهذا يُشير إلى أن المُكذبين كانوا يعيشون أجواء قريبة من القرآن الكريم وفي أوساط تتلى فيها الآيات، ولكن تلك التلاوة لم تكن لتغيّر فيهم شيئا، أما الآية التالية فهي توضح طبيعة ذلك التكذيب
﴿ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ ﴾ (106)
هذه الآية تكشف سبب تكذيبهم للآيات وما الذي أدى بهم إلى عدم الإيمان ﴿ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ﴾ الشقوة من الشقاء وهو العناء والشدة، والشقوة ملازمة لصاحبها في حياته الدنيا، ولاقتران كلمة "الغلبة" بهذه الشقوة دلالة على أن المعنى راجع إلى غلبة الطبائع الذميمة المتأصلة في النفس والتي تمنع من قبول الحق وتدفع للاستهزاء به والتكبر عليه. الأمر الذي يقودنا لفهم أن معنى التكذيب في الآية السابقة هو عدم تفعيل أوامر القرآن، وعدم تغيير الطبائع المانعة من الإيمان والأخذ بالآيات والتي تحول بين المؤمن وتفعيل ما يريده الله. فالشقوة التي يشتكي منها هذا الفريق يوم القيامة هي ما بقي من طباع سيئة فيهم صَعُب عليهم التخلص منها ونتيجة لذلك ضلوا عن طريق الهدى والفلاح.
﴿ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ﴾ (107)
لقد احترقوا بنار عاداتهم السيئة وطبائعهم الذميمة، وفي ذلك اليوم لا ينفع الصراخ ولا المطالبات بالعودة إلى الدنيا مرة أخرى، هذا نداء إلى الله بأن أعدنا مرة أخرى للابتلاء الدنيا الذي وضعتنا فيه سابقًا، أعدنا حتى نتغير ونتغلب على تلك الشقوة التي منعتنا من التغيير، أرجعنا حتى نقاومها، نستبدل طباعنا السيئة لنكون من الصالحين ومن المحسنين، إلا أن الرد الرباني هو:
﴿ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ﴾ (108)
﴿ اخْسَئُوا ﴾ كلمة هو قائلها سبحانه وتعالى، اخسأ أي ابتعد عني ولا تكلمني، كما في الآية الكريمة ﴿ ثُمَّ ارْجِعْ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ ﴾ الملك(4)، يخسأ البصر أي يتراجع في أن يرى في السماوات أي فطور، وهنا يقول الله سبحانه وتعالى اخسؤوا فيها أي في النار، أي ارجعوا فيها ذليلين ولا تكلمون، لا سماح بالكلام ولا بالاعتذار. والمخاطبون هم أولئك الذين كانت الآيات تتلى عليهم، و ترشدهم إلى عيوبهم، وتبيّن خطورة التكبر والتعالي في نفوسهم، وخطورة الاستهزاء بالناس وبالمؤمنين، لكنهم لم يعيروها اهتماماً، وكانت لذة الاستهزاء غالبة مسيطرة على أفعالهم، وشهوة الاستكبار تغمرهم فلا يرون حقيقة أنفسهم من خلال الآيات.
﴿ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾ (109)
كان في ذات الوقت فريق من المؤمنين نسبهم الله عز وجل إليه بقوله ﴿ عِبَادِي ﴾ يدعون الله بالعفو والمغفرة يقولون ربنا آمنا فاغفر لنا وارحمنا وأنت خير الراحمين، كانوا يقرون بذنوبهم، يعترفون بتقصيرهم، ويطلبون من الله العفو والمغفرة ﴿ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ﴾ والله يقول للذين غلبت عليهم شقوتهم أنه بدلًا من أن تكونوا معهم في مشروع تغيير الطباع السيئة وإصلاح النفس، اتخذتموهم سخريًا.
﴿ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾ (110)
رحتم تسخرون منهم، هم ليسوا موضع سخرية ولكنكم اتخذتموهم كذلك ﴿ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً ﴾ لأنكم كنتم تعيشون غمرة الكبر والتعالي فعميت أبصاركم عن أن تروا حقيقة أنفسكم، واستضعفتم الإيمان وأهله، وكانت النتيجة أن ﴿ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي ﴾ وهذا ما يؤكد أن هذه الفئة كانت تؤمن بالذكر، ولكنها نسته، وبدلًا من أن تنشغل بنفسها انشغلت بغيرها، وانشغالهم بغيرهم أدى بهم إلى نسيان الذكر، وبالتالي إلى التهلكة، ﴿ وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ﴾ اصبح الإيمان مثار للضحك والتندر بدلًا من أن يكون منهاجًا وبدلاً من اتخاذ أهله قدوة.
﴿إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ ﴾ (111)
وحتى تزداد بأولئك المستهزئين الحسرة يخبرهم الله بمآل أولئك المؤمنين المستجيبين لأوامره، ﴿ إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ ﴾ على صبرهم ذاك وكان مآلهم أنهم هو الفائزون، لقد صبروا على أنفسهم وصبروا على الاستهزاء، وصبروا على طباع من استكبر عليهم، صبروا على من اتخذ آيات الله هزواً، ورغم كل ذلك واصلوا بإيمانهم بالآيات، واستعدوا للقاء الله على أساس ما أنزل الله، فجزاء لهم ها هم اليوم يعيشون النعيم المقيم، أما المستهزئين فنالوا ما يستحقون.
طبائع الإنسان السيئة هي عدوه اللدود، والإنسان المؤمن في معركة داخلية معها من أجل استئصالها واستبدالها بطباع أخرى يرتضيها الله عنه وذلك هو الجهاد الأكبر. والإنسان مع الآيات إما مؤمن بها أو مكذب، والله عز وجل ينذره في آياته بالعذاب في سبيل تغيير نفسه وتغيير تلك الطباع المتجذرة في نفسه و سلوكه، وهو أمام خيارين، إما غالب أو مغلوب، غالب بعزم وتوكل على الله، أو مغلوب في انجذابه للحياة وسكونه إليها واغتراره بالدنيا وفتنها. فإن غالبَ نفسه فقد فعّل تصديقه بالآيات، وإن كسل عن العمل فقد كذّب بوعد الله ووعيده. وهو في الدنيا إما مشغول بنفسه لإصلاحها، أو مشغول بغيره، ومن انشغل بغيره انشغل عن نفسه، وعن قضيته الكبرى، ومشكلته مع الله ومع الآيات، وهذا ما تسميه الآيات القرآنية نسيان للذكر.
الله عز وجل يفتن الناس بالناس، هؤلاء المكذبين انشغلوا بالاستهزاء والنيل من المؤمنين وكان ذلك مدعاة لأن ينسوا الذكر وينسوا أنفسهم ويغفلوا عن مآلهم يوم القيامة، وحري بالمؤمن أن يكون نافذ البصيرة، فيرى الحق دون أن ينشغل بالأشخاص، ففتنة الأشخاص قوية على النفس وقد تفسد على الإنسان آخرته.
يختلط على الإنسان المتكبر الأمر فلا يستطيع أن يفصل بين رفضه لشخص وبين رفضه لفكرة أو إيمان ما، والتحام هذا الأمر في نفس الإنسان يؤدي به لفرض الحق حين يرفض شخص ما، والعكس صحيح فقد يؤدي به إلى قبول الباطل بسبب انجذابه نحو شخصية تتبنى ذلك الباطل وتدافع عنه. ونعلم أن رفض المتكبر لبعض الناس هو رفض قوي جدًا، فلا يمكن أن يكون معهم على فكر واحد ولا على إيمان واحد.
لقد عبرت الآية عن الطبائع المانعة من الإيمان بالشِقوة والتي هي مشتقة من الشقاء، ومعناه العناء والتعب، وتلك الطبائع - في الحقيقة - هي مصدر عناء له في الدنيا قبل الآخرة، فالمتكبر يشاق في سبيل إثبات حالة أنه أعلى من غيره وأفضل من غيره وأميز منهم، فتكبره هو شِقوته في الدنيا لأنه كان يشاق في ذلك السبيل، وتلك الشقوة هي ذاتها سبب امتناعه من قبول الحق والإذعان له.
ذات الحال مع المشرك الذي يعبر عنه القرآن بأنه يشاق في سبيل من يشرك بهم يقول الله عز وجل في أمر المشركين :
﴿ ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِي الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ ﴾ النحل (27)
وهذا يعني أن المشرك يكابد المشقة من أجل أن يبقى ويثبت على ما هو عليه، فما الذي دفعه إلى أن يعيش ذلك العناء خصوصًا مع وجود دعوة الحق إلا أن تكون نفسه قد تعلقت بذلك الشرك وتشربته فتعلق بعزته الدنيوية التي لا يمكن أن يتنازل عنها بسهولة.