مدخل سورة النساء
يفرض علينا تدبر القرآن أن نقرأ السورة من خلال معرفتنا المسبقة لها، والقراءة تعني أن نفهم، وليس أن نتتبع الكلمات بنطقها فقط، والفهم بالتدبر يعني أن نتتبع فهم السورة من البداية من خلال معرفتنا لآياتها وترابطها حتى النهاية، وعلى هذا الأساس يمكننا أن نقرأ سورة النساء تدبراً من بدايتها من خلال الآية (127):
﴿ وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنْ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيماً ﴾ النساء(127)
أهل الكتاب الذين تعلّموا من كتابهم أحكام النساء يستفتون النبي في أحكام تفصيلية، ولقد بيّنت الآيات في أحكام أهل الكتاب جواز التعدد أي الزواج من أكثر من امرأة بشرط العدل بين النساء، فكان شرط العدل لازم التوفر وأساس في التعدد، ولكن ماذا لو كان العدل متوافراً في بداية التعدد، ولكنه فُقد بعد الزواج فهل يلزم ذلك الطلاق لافتقاد هذا الشرط ؟ هذا هو أساس الاستفتاء؟ ومن هنا كان السؤال للنبي محمد حول هذا الموضوع. وحين سؤل النبي عن ذلك، كون هذا الحكم غير متواجد في الكتب السماوية السابقة، نزلت سورة النساء المباركة لتبين سنن الذين من قبل وتجيب على الاستفتاءات لتضيف على النور نورا.
الآية (127) تقول للنبي محمد (ص): "يستفتونك في النساء" : أي أنهم يطالبونك بالإجابة على أسئلتهم في أحكام النساء، وبالخصوص في حكم فقدان العدل بعد تعدد الزواج، نزلت سورة النساء وأجابت وفي بدايتها تتحدث عن الأيتام وعن الحاجة للتعدد في حال الخوف من عدم القسط مع الأيتام. بدأت السورة بالأمر بالتقوى :
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1))
مبينة أن أساس الرجل والمرأة هو نفس واحدة، فلا فرق بين النفسين في المكانة عند الله فكلاهما مخلوق وعلى الرجل الذي يسيطر على زمام الأمور أن يتقي الله ولايبخس من حقوق الضعفاء. ثم تحدثت عن إيتاء الأيتام أموالهم، والإيتاء غير الدفع، الإيتاء هو تخصيص الأموال وإدارتها والحفاظ عليها، إذ لايمكن إيتاء اليتيم ماله بمعنى الدفع إلا إذا كبر، والآية تتحدث على أساس أن المرأة ذات الأيتام غير قادرة على إدارة أموال أيتامها، وبحاجة إلى من يديرها، والآية تخاطب الرجال لأنهم مسؤولون عن ما بين أيديهم من الضعفاء ومن ضمنهم الأيتام والنساء. فبدأت بخطاب الرجل:
﴿ وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً ﴾ النساء(2)
وهنا تأمر الآية الرجل المدير لأموال اليتامى أن يؤتى اليتامى الذين هم في رعايته أموالهم التي خصصت لهم من التركة، وأن لا يستغل هذه الحالة في تبديل ما لديه من أموال بأموال اليتامى فيأخذ الطيب ويخصص الخبيث لليتيم، وتحذره من أن يجمع أموالهم إلى أمواله، في غفلة من الأيتام عن مايجري لصغر سنهم.
الآية الثالثة لتتحدث للرجل الذي يخاف من عدم التقوى في إدارته لأموال الأيتام بأن يقع في عدم القسط، أي أن لا يعطي في إدارته حقهم الذي يستحقونه، فتقول :
﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلاَّ تَعُولُوا ﴾ النساء(3)
بالتدبر مع الآية (127) فهذه الآية تتحدث عن يتامى النساء، أي النساء اللاتي لديهن أيتام، والآية (127) تقول : " وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللاتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن"، الآية لا تستنكر على الرجال الذين لا يؤتون يتامى النساء ماكتب الله لهن من تركة ورثوها من أزواجهن، لأن الموضوع هو في إدارة هذه الأموال وهذا أمر يسير في الخير، ولقد كانت الإجابة عن هذه الفتوى في آية (3) التي أباحت النكاح منهن، فكانت الإجابة على الاستفتاء قبل ذكر الاستفتاء في نفس السورة.
الآية (3) تجيب عن إجابتين في نفس الوقت، الإجابة الأولى هي إباحة النكاح من يتامى النساء، وتجيب عن إباحة التعدد في النساء أيضاً، ذلك أن الذي يرغب في نكاح يتامى النساء من أجل أن يقسط في اليتامى قد يكون متزوجاً في الأصل، فجاء الحديث عن التعدد هاهنا كقاعدة عامة بأنه يجوز التعدد في الزوجات بشرط العدل بينهن. وعن هذا المعنى تتحدث الآية (127) بقولها أنكم استفتيتم في النساء، فالله سبحانه وتعالى هو الذي يفتيكم، ويفتيكم فيما تعلمونه عن يتامى النساء في الكتاب المنزل عليكم، بجواز النكاح منهن إن كنتم ترغبون من ذلك رغبة في القسط في الأيتام، وهنا يقدم الأهم وهو الحديث عن التعدد في الزوجات في موضوع الأيتام لأن الأمر فيه إصلاح وتوجيه خاص من رب العالمين لليتيم، قبل أن يتحدث عن الفتوى الأصلية التي هم بصددها، وهنا يأتي دور الحديث عن الفتوى الأصلية التي استفتوا فيها ، فما هي ؟
الفتوى تتبين من خلال الآية (128): " وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضا " فالفتوى حول نشوز الرجل الناتج بعد الزواج، فإذا كان الرجل قد تزوج من امرأة ثانية بنية العدل ولكنه وقع في النشوز بعد ذلك، فما الواجب عليه؟ لأنه فقد شرط التعدد وهو "العدل" ، فكانت الإجابة هي " الإصلاح" وإقامة الصلح بين الإثنين بالاتفاق خارج إطار العدل الذي كان أساس التعدد لوجود حالة نشوز وتجنباً للطلاق ما أمكن، والإتفاق يجب أن يجري بما يرضي الطرفين وبيقي الحياة الزوجية قائمة. وعقبت على ذلك بقولها في الآية ( 129) : " ولن تستطيعوا أن تعدلوا بين النساء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة" .
مسار الحديث في مجمل السورة من بدايتها عن النساء، على أساس وجوب الحفاظ على حقوق الضعيف، ويجب أن تراعى من قبل القوي وهو الرجل، فهو المسؤول عن ذلك، وجاء الحديث عن أحكام النساء في هذه السورة وعن حقوقهن ورعايتهن وحفظ تركتهن في ظروف القتال التي كان يعيشها المسلمون في فترة إنزال الرسالة كما تبين ذلك السورة نفسها، ذلك أن القتال يخلف كثير من الأرامل والأيتام، وعلى المسؤولين من المقربين أن يقوموا بواجبهم تجاه هذه الفئات المستضعفة بعد رحيل الرجال والأزواج.