مدونة حلمي العلق

التأويل الثاني

 | astudy-in-the-verse-of-Sharia

الاتجاه الثاني

أن الله سبحانه وتعالى لم ينزّل كتبًا مختلفة في أحكامها ولكنه سبحانه وتعالى جعل هذه الشرائع، ليكون تأويل الجعل هنا هو وضعها باعتبار أنها شرائع في واقع الناس، وهذا تم بإذن منه سبحانه لا بحكم منه، فأذن أن تخالف اليهودية دينها المكتوب في التوراة ويكون ما وضعوه من دين شرعة للناس، وبإذن منه أيضاً أن تخالف المسيحية كتابها المنزل ويكون ما ابتدعته من دين شرعة ومنهاجًا لمن أراد أن يأخذ به، مخالفين بذلك الأصل وهو كتاب الله المنزل عليهم.

تأويل ( الجعل ) من لدن الله

الجعل في هذه العبارة الشريفة ليس حكمًا من عند الله بل هو مشيئة بالإذن منه أن تكون الديانتين اليهودية والنصرانية اللتان هما مبتدعتان أصلاً، أن تكونا بمثابة الشرعة والمنهاج للناس، وما يؤكد أنها مشيئة إذن منه هو تممة العبارة.
العبارة الأولى هي ( لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً) والعبارة الثانية هي ( وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً)، فالذي يقابل الجعل الرباني في العبارة الأولى هو المشيئة في العبارة الثانية، فنفهم العبارتين بالشكل التالي: أن الله (جعل ) كذا (ولو شاء) لفعل خلاف ذلك. وهذا ما يمكن أن نراه في الآية التالية :

﴿ وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ﴾ الأنعام (112)

فالجعل في هذه الآية هو جعل مشيئة ، وليس جعل حكم، فهو سبحانه من أذن بمشيئته أن يكون هناك أعداء للنبوة، لكنه لم يحكم بذلك، وتتمة الآية تؤكد هذه المشيئة بقوله تعالى ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ ﴾ ، أي أذن لهم أن يفعلوه بمشيئته وعلمه وحكمته سبحانه وتعالى.

الحكمة من جعل الاختلاف

بينت الآية الحكمة في إذن الله بوقوع هذا الاختلاف

﴿ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ المائدة(48)

هو اختبار المؤمن في اختياره، فسبيل الهدى الذي في كتابه المنزل القرآن الكريم، هو شامل لكل الهدى الموجود في بقية الكتب (مهيمن عليها)، وعلى المؤمن أن يختار من متعدد، إما أن يحكم بكتب الله السماوية، أو أن يحكم بما حكم به اليهود أو النصارى الذي هو خارج عن حكم الله،وقد إذن الله أن يعمل المنحرفون بكامل حريتهم وليختار الإنسان بعدها طريق الصواب، ولهذا يخاطب الله المؤمنين بقوله ( فاستبقوا الخيرات) سابقوا في تطبيق كتاب ربكم، أما حساب المنحرفين عن كتبه السماوية فهو في الآخرة، هناك ينبيء الله كل أمة بما فعلت وما ارتكبته من جريمة في حق كلام الله.

فهم الآية حسب التأويل

﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنْ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنْ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ المائدة(48)

أنزل الله سبحانه وتعالى إليك يامحمد (ص) القرآن الكريم وهو كتاب مصدقٌ للكتب السماوية السابقة، ومتطابق معها في الأحكام والشرائع لأنها كلها من رب واحد وعلى ملة واحدة هي ملة إبراهيم، وهذا الكتاب مهيمنًا على تلك الكتب، أي شامل لكل أحكامها وعقائدها ومبيّن لما وقع فيها من خلاف واختلاف، ومبينًا للقصص التي خلفت بعد تلك الكتب، وعن حقيقة عيسى من بعد رفعه.
فاحكم بين أهل الكتاب الذين ادعوا أنهم مؤمنون بك وبما أنزل الله من كتب، والذي هو أصلًا موجود في التوراة والإنجيل والقرآن، فاحكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق، لأنهم يدعون أنهم مؤمنون بك لكنهم لا يذعنون لأحكام الكتب السماوية بل يردون أن يحرفوك عنها، فيحاجوك بما ورثوه عن آباءهم، حفاظًا على كياناتهم ومكتسباتهم.

هم يجادلونك على أن هذا الموروث شيء قائم منذ تأسيس ملة إبراهيم ومنذ نزول النبي موسى، أو النبي عيسى، فاحذر من فتنهم، لأن هذه الكيانات التي وجدت في السابق بمشيئتي وستبقى للحاضر بمشيئتي، فتنة للناس حتى يختاروا بين الحق والباطل، فلكل جعلنا شرعة ومنهاجا، أي للحق الذي أنزله الله شرعته في الكتب السماوية، وللباطل الذي ابتدعته هذه الأمم شرعته في كتب أخرى غير الكتاب السماوية، ولو شاء الله لجعلكم تتفقون على الحق جميعًا، لكن مشيئتي أذنت أن تبقى هذه الكيانات، وأن يبقى هذا الاختلاف حتى يختبر الناس فيما آتاهم من كتب سماوية، هل يميلون إليها أو يميلون عنها؟ بسبب تلك الفتن، وبسبب تلك الكيانات، فاستبقوا الخيرات، يامن آمنتم بما أنزل الله، بالتحاكم إليه، وتجنبوا الخلاف الذي لا طائل منه مع هؤلاء، لأنهم لا يرتجون منه إلا فتنة المؤمن بالكتاب، فالمرجع لله هو الذي سيحكم في هذه الاختلافات يوم القيامة.

يمكن أن نرى نفس المعنى لهذه الآية الشريفة في الآية التالية :

﴿ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلا يُنَازِعُنَّكَ فِي الأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ ۝ وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ ۝ اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ﴾ الحج (67)-(69)


دراسة لبعض الكلمات

1- الشرع

2- المنهاج

3- كل

4- الجعل