الطبقية في الدين والتأسيس للفساد
# الطبقية في الدين وتأسيس الفساد
إن المظهر الحقيقي والنتيجة الطبيعية لشريعة الله الحقة هي الصلاح في الأرض، وهذا الصلاح هو ما تتوق له النفوس وتنجذب له القلوب، فكيف يكون نتاج الدين فساداً تشمئز منه النفوس وتنفر منه القلوب؟ إن الفساد الديني هو أحد مخرجات مرضى القلوب أصحاب الإيمان المزيف الذين مزجوا بين الحق والباطل، فأدخلوا في الدين ما ليس فيه فتكدر صفاؤه بشوائب الأهواء.
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ سورة البقرة (11)
حاسة استشعار جمال الحقيقة فاعلة في القلوب السليمة المؤمنة بالكتاب كله، لكنها مفقودة مغطاة ومحجوبة في القلوب المريضة، وأحد الأسباب التي أفقدت هذه القلوب هذه الحاسة الهامة هي الندية التي جُعلت في الدين ﴿فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ سورة البقرة (22)، والندية تنشأ في أجواء من الطبقية الدينية والتي تصنف المجتمع إلى فئات، وهذه الطبقية ما نتجت إلا من اختلال في فهم الإنسان لقدره.
يقول الله سبحانه وتعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ﴾ سورة البقرة (26)، المثل يعيه المؤمن ويفهمه، ولكن الكافر يستنكر قائلاً ﴿ماذا أراد الله بهذا مثلا﴾؟ هذا المثل يختزل فهم الإنسان لحقيقة نفسه، فالمؤمن يدرك قدره الحقيقي أمام الله سبحانه وتعالى، ويعي أن مقدار البعوضة الذي هو مقدار هين بالنسبة لبقية المخلوقات، هو ذاته مقدار أي مخلوق آخر مهما علا شأنه أمام الخالق، أما الإنسان الذي يعيش الطبقية بشتى أشكالها لا يستوعب هذا المثل لأنه قد جعل لنفسه قدراً مختلفاً عن بقية المخلوقات اغتراراً بنفسه واغتراراً بالله، واختلال القدر في الذات يؤثر على اختلال مقادير بعض البشر الذين أوصلهم الإنسان إلى مرتبة تخرجهم عن الطبيعة البشرية. فإذا كان الحياء يخالج النفس في أن تقول أن قدر الإنسان هو نفسه قدر أصغر وأحقر مخلوق كالبعوضة فذاك لأنه قد جعل لبعض البشر مكانة أعلى من حقيقتهم البشرية بالغلو والأوهام والعقائد الفاسدة.
طاعة الكلمة هي أساس العبودية في الدين، وإذا أخل المؤمن بالقدر الحقيقي للإنسان وأخرج من يعتقد في علوهم عن طبيعتهم البشرية فأعلى مكاناتهم وجعل لهم الكلمة العليا في الطاعة والانصياع في قبال كلمة الله البينة في كتابه، تكون لهم العبودية من دون الله، وهنا تبرز الندية التي هي مربط فرس الفساد في الأرض والذي أشارت إليه آية ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ سورة البقرة (11)، وتتجلى الطبقية التي تحوّل المجتمع إلى طبقتين في الدين، تابع ومتبوع، أما المتبوع فيرى أحقيته في التشريع في الدين والأمر بما لم يأمر الله، وأما التابع فيرى وجوب الإتباع دون تمحيص، بل ويرى الرشد في اتباع ذوي الأسماء القوية وأن السفاهة هي في اتباع الضعفاء الذين لا مكانة ولا حظوة لهم، ولكن الله سبحانه وتعالى يقول ﴿ألا إنهم هم السفهاء﴾ لأن السفاهة الحقيقية هي تخلي الإنسان عن إدارة شؤون نفسه لغيره، والرشد الحقيقي هو تحمل الإنسان لمسؤولية نفسه واتباعه للحقيقة دون افتتان بالأسماء الدنيوية والألقاب التي تغطي العقول وتسيطر عليها.
تتضح السفاهة حين يفقد مريض القلب حاسة استشعار الصلاح، وتموت لديه كراهية الفساد، بل قد يصبح بعض الفساد محبباً إليه لأنه متلبس بالدين وما هو من الدين في شيء، وذاك حين تمكن المتبَعون من تلبيس الحق بالباطل وترويجه على أنه من عند الله وما هو من عند الله، في ظل هجران تام للتابعين لآيات الله البينات في كتابه. بينما تكون تلك الحاسة قوية بفطرتها لدى عموم الناس الذين لم تقيد رقابهم أغلال الندية ولم تغطي عيونهم عن رؤية حقائق الكتاب السماوي، لذا ترى أولئك الذين هم بسطاء مغفلين في نظر المرضى هم أقرب لتشرب حقائق الكتاب أكثر من المعوقين فكرياً والمقلوبة أفكارهم رأساً على عقب بسبب الندية والأمراض المختلفة، ولهذا يقال لمرضى القلوب ﴿آمنوا كما آمن الناس﴾.
يقال لمرضى القلوب ﴿لا تفسدوا في الأرض﴾ فيكون ردهم إنما نحن مصلحون، ولأن الله زادهم في غيهم غياً وفي مرضهم مرضاً انقلبت بهم الصورة فأصبحوا يرون أنفسهم أصحاء راشدين في قبال ضعفاء هم أراذل القوم، ويظنون أنهم بترويج الأنداد والتعلق بهم إنما هم يصلحون. إن آية ﴿ما بعوضة فما فوقها﴾ تقول لهم ما هو قدر البعوضة وما هو قدر بقية المخلوقات أمام الله؟ إن قدرهم أمام الله واحد، فكيف توازون بكلام الله كلام غير الله الذي هو مخلوق مثلكم؟ ولكن الذين قدسوا بشراً مثلهم على حساب الكتاب السماوي في زمن الرسالة وفي كل زمان وقعوا في ضلال عدم معرفة قدرهم، وما يؤكد هذا المعنى هو الآية التالية والتي تقول ﴿وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ﴾ البقرة(26)-(27)، فيصف الذين ضلوا عن فهم مثال قدر المخلوقات بالبعوضة بأنهم نقضوا عهودهم مع الله ولم يأخذوا بكتابه وخرجوا عن مضامينه، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل وهو إيصال حقائق الكتاب إلى الناس.
إن أول فساد في الدين هو تأسيس تلك الطبقية التي تحبس الكتاب السماوي في جبة أو عمامة أو صندوق أسود تماماً كما حبسه أهل الكتاب من قبل ومنعوا عموم الناس من التعامل معه والاحتكام إليه بشكل مباشر.
نشر في
جهينة الإخبارية