التأويل
| contemplation-of-the-quran# مقدمة
تحدثنا في الحلقة السابقة عن القلب وتأثيرة في فهم القرآن، وعن ضرورة تطهير القلب حتى يستقبل كلام الله على مبدأ التغيير ومبدأ اتهام النفس لا على أساس التزكية، يقول الله سبحانه وتعالى:
(يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنْ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدْ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنْ اللَّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدْ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
سورة المائدة (41).
هؤلاء هم الذين لم يطهّروا قلوبهم من الأثقال، لذلك كان اتباعهم لرسالة النبي محمد (ص) اتباع مشروط، إن جاء بما يوافقهم اتبعوه، وإن لم يأت به كفروا به.
إن لهذا القلب المريض عوارض كثيرة تمنع من أخذ القرآن وتدبره بالطريقة التي يريدها الله سبحانه وتعالى، والقرآن الكريم وفي أكثر من موضع يستعرض تلك العوارض والأمراض، نستعرض في هذه الحلقة واحدة من أهم تلك العوارض وتلك المشاكل الناتجة عن مرض القلب ألا وهي التأويل. نحاول أن نفهم التأويل ونتفهم لهذه المشكلة من خلال آية (7) من سورة آل عمران.
في حلقتنا الرابعة حول التدبر نتحدث عن التأويل، ولكن قبل أن نتحدث عنه نحتاج للتعرف على المحكم والمتشابه ومعنى أم الكتاب من خلال آية (7) من سورة آل عمران.
# التأويل
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران آية (7)
﴿ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ﴾
سورة آل عمران (7)
المحكم :
الشيء المحكم هو المغلق الذي لا يمكن أن تنفذ من خلاله، وبالنسبة للآيات فالآية المحكمة هي الآية التي لا يمكن أن ننفذ منها إلا إلى الموضوع الذي تتحدث عنه الآية نفسها ولا يمكن الذهاب بها إلى فهم آخر.
المتشابه:
نقول ولدان متشابهان إذا كانا متقاربين في الشكل والهيئة والمظهر، أما المتشابهة من الآيات فهي التي تكون خلاف المحكم، ومن الممكن أن تحمل على أكثر من وجه في فهمها، فهي حمالة أوجه، وهذه الآيات يمكن حملها على موضوع غير الذي أنزلت عليه، وذلك لأن ألفاظها وصياغتها غير محكمة ويمكن أخذها إلى موضوع آخر هو غير غاية المتحدث سبحانه وتعالى.
الأم :
أم الشيء هو أصله، والأم هي التي يتشعب منها فروع وتكون متبوعة كونها الأصل.
مثال : يسمي القرآن الكريم مكة المكرمة ب "أم القرى"، وهذا التعبير يدل على أن لها توابع من قرى أخرى، القرية الأم هي التي تتبعها القرى الملحقة، ترتبط بها اقتصادياً وأمنياً وثقافياً واجتماعياً. أم القرى هي بمثابة العاصمة في مصطلحنا الحديث. والقرى الأخرى كالإخوة الذين يشتركون في أم واحدة.
لا بأس لو ضربنا مثلاً حديثاً بالحاسب الآلي، ففي الحاسب الآلي يوجد لوحة بداخله تسمى " اللوحة الأم" هذه اللوحة هي التي ترتبط بها بقية الملحلقات، فكل الملحقات ترتبط بهذه اللوحة، يمكن أن نفقد واحد أو أكثر من الملحقات، لكن لاحياة ولا وجود للحاسب الآلي ما لم تكن به لوحة أم.
أم الكتاب:
بالمثل هو الوضع بالنسبة لآيات الكتاب، فالقرآن الكريم يصنف الآيات إلى آيات يعتبرها أم الكتاب، وعليه هناك آيات هي تابعة وملحقة بتلك الأم، ترتبط بها، وتعود إليها، ولا معنى لها إن لم تكن موجودة، الأم قائمة بذاتها، ولكن الملحقة لا يمكن لها أن تستغني عن الأم ومعناها لا يكتمل إلا بربطها بالأم. والقرآن الكريم يقرر أن أم الكتاب هن الآيات المحكمات، هن الآيات التي عرّفناها بأنها الآيات التي لا تحتمل أكثر من معنى ولا تحمل أكثر من وجه في فهمها. وبهذا فإن القرآن الكريم يقرر أن الآيات التي يمكن أن تحتمل أكثر من معنى يجب أن تعود في مرجعيتها إلى تلك الآيات التي أحكمت معانهيا فلا تحتمل أكثر من معنى، فالآيات المتشابهة مفتوحة ومتفرعة من أصول مواضيع محددة، ويمكن أن نغلق معناها حين نرجعها إلى أمهاتها المحكمة الإغلاق. وهذا يقودنا إلى تعريف التأويل.
التأويل:
كلمة التأويل تشبه كلمة التأصيل، والتأصيل هو إرجاع الفرع إلى الأصل، فعندما نقول أصّل محمد الموضوع، فإننا نعني أنه جعل لهذا الموضوع أصلاً إما أن يكون أصلاً تاريخياً أو اجتماعياً أو دينياً، أي ربطه بأصل موجود يعرفه الناس مسبقاً، أي أنه يقرر أنه لم يستحدث ذلك الأمر وإنما هو موضوع له أصل قبل أن يتحدث فيه. بالمثل فإن تأويل الحديث هو إرجاعه إلى مبتدأه وأوله.
تأويل حديث
عندما يكون الأمر متعلقاً بالحديث، فإن تأويله هو إرجاع الحديث الفرعي إلى أوله، فطبيعة الحديث هو التفرع، والذهاب إلى التفاصيل، وقد يشهد أحدنا حديثاً من منتصفه أو من آخره فلا يفهم غاية المتحدث أو أنه يفهم المتحدث خطأً، فيقال له أنك لم تشهد أول الحديث حتى تكتمل لديك المفاهيم التي توصل لك غاية المتحدث، وحتى تضع هذا القول المتأخر ضمن ضوابط القول المتقدم. وحين يعلم هذا المستمع أول الحديث فإنه يضع ما سمعه من قول متأخر ضمن ضوابط القول المتقدم (أول القول) ويكون بذلك قد أوّل الحديث تأويلاً صحيحاً، أي ربطه بأوله كي يفهمه فهماً صحيحاً.
تأويل حديث الله
تأويل حديث الله، كما تقر آية (7) من سورة آل عمران، يكون بربط الآيات المتشابهة بالآيات المحكمات، فهي الآيات التي لايمكن أن تحتمل أكثر من معنى، وهي التي أسماها القرآن بأم الكتاب وهي التي يكون لها مرجعية الآيات الأخر المتشابهات، ويجب أن لا تنقطع هذه الرابطة حتى لا يكون حديث الله في الآيات المتشابهة حديثاً مفتوحاً تتجاذبه الأهواء وتحركه حيث تشاء، فالأمهات هن أوائل المواضيع وأصلها ، والآية التي يشتبه معناها علينا أن نربطها بأمها المحكمة التي هي أصلها ومآلها والتي لا يمكن استيعاب معناها بدونها. ولو أخذنا الآيات المتشابهة بصورة مستقلة قد يكون فهمنا لها خاطئاً منحرفاً عن المعنى الذي أراده الله سبحانه وتعالى.
مرض القلب والتأويل
مريض القلب هو مؤمن لم يطهّر قلبه كما تحدثنا في الحلقة السابقة وكما بيّنت آية ( أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم )، فراح يبحث في آيات تثبت ما هو عليه، وحتماً فإن عقيدته الباطلة المتطرفة لا يجدها في كتاب الله خصوصاً في الآيات المحكمات، ولكنه يبحث عن شيء يشبه ماهو عليه، فلا يجده إلا في آيات تشبه عقيدته، وتشبه ما يبحث عنه ( فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله ) هذا الذي زاغ قلبه عن قصد الله ومطلبه في آياته المحكمات، راح يبحث في الآيات عن مشروعية حكم باطل، أو عقيدة ما أنزل الله بها من سلطان، فلا يجد مطلبه إلا في الآيات المتشابهات، يأولها تأويلاً خاصاً ويربطها بأصول ومواضيع أخرى وكأنه ينسبها إلى أم أخرى غير التي نسبها إليها الله في كتابه.
ابتغاء الفتنة
مرضى القلوب يبتغون فتنة من آمن بالكتاب، ويبتغون تأويل الكتاب على أهوائهم وليس على ما أنزل الله، ولكن الله سبحانه وتعالى يقول (وما يعلم تأويله إلا الله) لذا وجب الرجوع إلى الكتاب في تأويل المتشابهات وليس إلى خارج الكتاب، لأن الرجوع إلى الكتاب يمثل الرجوع إلى الله سبحانه وتعالى، ( والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ) الراسخون في العلم هم الذين لا تزيغ أبصارهم، والذين لا يتزلزل فهمهم للكتاب بسبب دسائس مرضى القلوب، وفي هذا إشارة إلى قوة افتراء المرضى وانتهازهم إلى الآيات المتشابهات، وقولهم "كل من عند ربنا" ، أي أننا نأخذ بالمحكم والمتشابه، فالحكم من عند الله أيضاً ، ولكنكم تُبَعِضون في أخذ الكتاب، أي تأخذون ببعض وتتركون البعض الآخر الذي لا يتوافق مع أهوائكم. (وما يذكر إلا أولوا الألباب) ما يتراجع عن تلك الإفتراءات وعن اتباعها إلا أولو الألباب الذين يتبعون الكتاب اتباع القلب السليم، ذلك القلب الذي لا ينحاز إلى مواضيع خارج الكتاب ولا يزيغ ببصره إلى غير ما أنزل الله، أولئك الذين ينظرون إلى لباب المواضيع فيعلمون ما يريد الله سبحانه وتعالى.
وهنا علينا أن نقف كمتدبرين لهذه المشكلة حتى لانكون ضحايا هذا المرض، فحين نأخذ بكتاب الله علينا أن نأخذ به أخذاً كاملاً شاملاً، وأن نحكم الآيات التي لا تحتمل عدة أوجه على الآيات حمالة الأوجه، وأن ندعو الله دائماً أن لا تزيغ قلوبنا عن بيّن الكتاب إلى المتشابهات، وأن ينجينا الله سبحانه وتعالى من عواصف الأهواء .
يبقى أن نختم هذه الحلقة بنفس الدعاء في الآيات التالية لآية (7) من سورة آل عمران.
نختم هذه الحلقة بهذه الآيات الشريفة، على أمل أن نلقكم في الحلقة القادمة في محاولة لأخذ مثال على المحكم والمتشابه من القرآن الكريم، وأن نطبق مفهوم إحكام الآيات إن شاء الله، إلى أن نلقاكم نستودعكم الله والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.