مدونة حلمي العلق

منهجية التدبر

 | contemplation-of-the-quran

مقدمة

نستكمل الحديث عن التدبر، وفي هذه الحلقة نتحدث التدبر تحت عنوان ( منهجية التدبر في القرآن الكريم ) ونحاول من خلال 3 آيات شريفة أن نتعرف على شيء من تلك المنهجية الربانية في التدبر الذي يرتضيه سبحانه وتعالى .

أن تتدبر يعني أن ترجع القول آخره إلى أوله، أو بمعنى آخر أن ترجع القول بعضه لبعض لتفهم غاية المتحدث وتحدد الموضوع الذي يتحدث عنه لتضع الجمل في موضعها، ومن ثم تضع الكلمات في موضعها.

منهجية التدبر

الآية الأولى

﴿ أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمْ الأَوَّلِينَ ﴾ المؤمنون (68)

استخدمت الآية لفظة القول للدلالة على آيات الله، وعلى القارئ المتدبر أن يتعامل معها على هذا الأساس، على أساس أنه حديث الله، وهذا يعطي المنهجية في طريقة التعامل مع الكتاب، فلكل متحدث غاية ولابد من فهم غاية المتحدث، فالمنهجية الأولى هي فهم الغايات من مقاطع الآيات التي نقوم بدراستها وتدبرها، لا أن نكتفي بفهم تركيباتها اللغوية، ولكن علينا أن نبحث عن غاية تلك الآيات وغاية ذلك الحديث الرباني.

وغاية الحديث لايمكن فهمها بتجزئة النص أو الاقتطاع منه، بل لابد لفهمه الوصول إلى نهاية القول وإرجاع القول بعضه لبعض، وهنا الآية لا تنتقد عدم فهم معاني كلمات الآيات، لكنها تنتقد عدم تدبرها، وهذا يقودنا إلى الغرض من التدبر وإرجاع القول إلى بعضه البعض وفهم موضوعه من أجل فهم غاية المتحدث. إذاً من أجل أن نسلك منهجاً تدبرياً علينا أن نفهم غاية الآيات كما نفهم غاية كما لو أننا نستمع إلى متحدث لنفهم غاية مقصده من قوله.

الآية الثانية

﴿ أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً ﴾ النساء (82)

الآية تبين نتيجة من نتائج التدبر وهي أن المتدبر للقرآن سيدرك عدم وجود اختلاف بين آياته، فكيف يمكن للمتدبر أن يفهم ذلك؟ يمكنه ذلك إذا قرأ القرآن الكريم قراءة شاملة مترابطة وليست مفككة، عندما نتدبر القرآن كاملاً نستنتج أنه لا اختلاف في آياته لأننا أرجعنا الآيات بعضها ببعض بالتفكر والتأمل فوجدنا أنه لا اختلاف بينها، ولولا أننا لم نرجع الآيات بعضها ببعض لما استنتجنا أنه لا اختلاف بين هذه الآيات، لأن موضوعها واحد.

إذاً التدبر يقود المتدبر إلى وجود هذا الترابط وهذا الانسجام بين الآيات في سور متعددة ومتباعدة في أجزاء القرآن الكريم ، وهذا ما يمكن أن نضيفه إلى منهج التدبر وهو إرجاع هذا الحديث الرباني بعضه إلى بعض.

الآية الثالثة

﴿ كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾ سورة ص (29)

الآية الثالثة تقول أن الهدف من إنزال الكتاب هو التدبر ، وغاية التدبر هو حدوث الذكرى، والذكرى تكون للمتدبر لا للغير ومن هذا يمكن أن نحدد منهجية ثالثة وهي ما يمكن أن نسميها اتجاه التدبر، فإذا فهمنا غاية المتحدث من خلال تدبر القرآن بصورة شاملة غير مجزأة يبقى أن نفهم إلى من يجب أن نوجه هذا القول، وهذا لا يتم من خلال توجيه الكلام للغير، ولكن يكون بتوجيهه إلى الذات، على مبدأ ( اتهام النفس) لا على أساس ( تزكية النفس )، فإذا فهمنا موضوع الآيات، يبقى أن نوجه القول لأنفسنا، ونخلص أنفسنا من تبعاته.

مثال

﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ (44)﴾

الآية تخاطب بني إسرائيل على أساس أنهم أهل كتاب ولكنهم لا يعملون به، مما يشير بوضوح إلى أن تلاوتهم للكتاب غير نافعة وغير مجدية، وأنها تلاوة سطحية، وهذا يؤكد على أنهم لا يوجهون قول الله إلى أنفسهم، ولكنهم يكتفون بتوجيه القول إلى غيرهم، وإلى تمييز الخطأ عند غيرهم، فهم يشعرون بأنهم برءاء من ذلك، وأن كتابهم لا يخاطبهم، لكنه يخاطب غيرهم، إذاً الآية تشير إلى أن تلك التلاوة تلاوة جوفاء لا أثر لها لأن اتجاهها غير صحيح، والاتجاه الصحيح هو توجيه القول إلى الأنا الصغرى والكبرى، الأنا الصغرى هي ذات الإنسان والأنا الكبرى هي طائفته التي ينتمي إليها. وهذا قد ينطبق علي وعليك في هذه الأثناء، إذ أننا قد نعتبر أن هذه الآيات تحدد عيوب بني إسرائيل من أجل انتقادهم، لأن الضمائر في الآية تشير إليهم، ولكنها بالدرجة الأولى تخاطبني أنا وأنت لأننا المعنيون بالقول من بعد بني إسرائيل لأننا أهل كتاب أيضاً وقد نقع فيما وقع فيه السابقون، فنتلوا الكتاب ولا نأخذ منه الذكرى التي تمنعنا من تكرار الخطأ. فتأمل.

ونلاحظ هنا نسيان النفس كما تقول الآية " وتنسون أنفسهم " ، في المقابل نجد أن أولي الألباب يتذكرون، وهذا ما سيقودنا فيما بعد لفهم القرآن الكريم تحت مسمى " الذكر ".