العقيدة الجدالية
يتخذ الجدال في الدين صورة شكلية لا يمكن من خلالها تحديد ما الذي يخفيه هذا المجادل من أفكار داخل صدره، وما الدوافع التي تحفزه للدعوة لما يعتقد أو لإثبات ما يراه صوابًا من عقائد. إن لهذه الصورة الشكلية مضمون عقائدي يخفى على الأبصار. المؤمن الحق مشدود في دعوته إلى قيمةٍ عليا هي نصرة الحق، وهذا الحق هو لله، وهو عبد له، ولا يملك من الأمر شيئًا، أما الذي يجادل من أجل العلو في الأرض - بأي شكل من الأشكال - فهو يسعى للغلبة ويجد في ذاته قيمة عليا، وأنه يمتلك القدرة على الإقناع ودحض كل فكرة تخالف قناعاته.
وهذا الخفي من المعتقد له علامات، فالمؤمن غير مشدود لإقناع من حوله - أصلًا - بما يعتقد، لكنه يتحدث فيه على أساس مبدأ التكليف، فهو يجد نفسه مكلفًا في أن يوصل الحق بالحكمة والموعظة الحسنة، وقد يجد نفسه قادرًا في بعض النقاشات على دحض ما يُطرح أمامه من أفكار، لكنه لا يفعل، لأن تكليفه - حسب فهمه للموقف - لا يتطلب منه ذلك الدحض، وقد يتنازل حتى عن إبراز الحق الذي يقصم ظهر الباطل في مواقف أشد ضراوة، حين يتم الاستنقاص منه ومن فكره، لكنه لا يفعل، لأنه حينها سينتقل من عبوديته لله في إيصال ذلك الحق، إلى عبوديته لنفسه التي تلح عليه بالدفاع عنها وعن مكانتها الدنيوية، لكنه يقاوم تلك النفس ويبقى ملتزمًا بتمسكه بالعبودية الحقة، فيقتل كل مشاعر حب العزة للذات وشهوة الغلبة على الخصم في نفسه، ملتزمًا بقاعدة ما يتطلبه الموقف من تكليف.
في الجهة المقابلة، فإن الذي يجادل لنفسه ولعلو شأنه أو شأن طائفته، إنما يجاهد على مبدأ العلو، الأمر الذي يحفز لديه الرغبة في الانتصار على غيره وعلى كل عقيدة تخالفه، ولا يدع فكرة تستنقص من فكره إلا ويسعى لدحضها والنيل منها ومن أصحابها، لأنه يشعر أنه يدافع عن ذاته من الاستنقاص، وعن كيانه من أن يناله أحد.
إذًا هاتان العقيدتان المتباينتان تظهران كأفعال، وردود أفعال أثناء الجدالات الدينية، وليست العبرة في الفكرة ومدى قوتها بقدر ماهي العقيدة الجدالية وصدقها، ولتصحيح تلك العقيدة الجدالية على المرء أن يعالجها بالفكر وبالقرآن الكريم. إن الأصل في الانطلاق للدين هو الأخذ بالنفس نحو الطريق المؤدي للفلاح في الدنيا والنجاة من النار، وليس من صواب العقيدة أن ينظر المؤمن لنفسه أنه المنقذ لمن حوله من الضلالات وأنه المخلص للبشرية من الفساد والأفكار المنحرفة، فمهما يكن الإنسان فما هو إلا عبد منفذ لأمر الله ليس أكثر.
أي مُبلّغٍ للدين مهما يكن مستواه الإيماني وتكليفه الشرعي، فلن يصل إلى درجة أعلى من تكليف تبليغ الرسالة الذي تحمله الأنبياء والرسل، والله عز وجل يتحدث إلى نبيه قائلًا
﴿ إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ ﴾ فاطر [23]
في هذا الوصف الرباني تحديد لحجم الرسول في التبليغ، هي تحدد قدرة المبلغ، والدور والواجب الذي يجب أن يلتزم به، فدوره الإنذار فقط، لا الهداية الفعلية التي ترتجى من مستقبل الإنذار، فالرسول لا يقدر أن يهدي كل الناس، ولا يقدر أن يهدي من يحب، ونتيجة لهذا المعتقد لا يذهب بسلوكه باتجاه الإصرار على من يستمع إليه لأن يصل به إلى الهداية، فقد لا تصل لأسباب قدّرها الله، فالهادي الحقيقي هو الله وهذا فعله ودوره الذي لا يشاركه فيه أحد. وعليه فالمبلغ الحقيقي لله لا يتعامل بكونه وصيًا ولا وكيلًا عن الله في أرضه، فالله هو الولي وهو حقيقة من يخرج الناس من الظلمات إلى النور بأي سبب شاء.
على المؤمن أن يراقب نفسه أثناء نقاشاته في الدين بشكل دقيق، فقد ينتقل من منطقة إلى أخرى أثناء تبليغه وهو لا يشعر، فقد تأخذه الحمية، فتدفع به لنسيان كونه عبدًا لله، ويندفع في حرب كلامية، ليثبت صواب ما ذهب إليه حتى لا يشعر بمنقصة، أو لكي يشفي شيئًا من غليله تجاه من استنقصه أثناء الحوار أو الجدال، حينها يكون ذهب بالتدريج دون أن يشعر ليصنع لنفسه كيانًا ناسيًا ومتنازلًا عن عهد عبوديته لله.