مدونة حلمي العلق

سورة البقرة من آية 1 إلى آية 5

 | ayat | elbakara

﴿ الم ۝ ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ (1) - (2)

﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾ هي عبارة إبعاد للكتاب السماوي عن الناس، فكون القرآن أو الكتاب السماوي بين أيدي الجميع بصورته المادية المتجسدة في قرطاس،لا يعني أنه في متناول قلوبهم، وفي هذا إشارة إلى أن صاحب هذا الكتاب - عز وجل - متحكم في أفهام من يتعاملون مع كتابه المنزل، هو الذي يقربه إلى من يشاء ويُبعده عن من يشاء! ومشيئته تلك هي القانون والحكم الذي حكمه في هذا الشأن.

ما يلبث وقع كلمة الإبعاد ﴿ ذَلِكَ ﴾ في تأثيرهِ على القارئ حتى يفاجأ بقرب الكتاب نفسه من فئة مخصوصة وهم المتقون، فالكتاب ليس بعيد عنهم، وهذا يعني أن الله عز وجل مكنهم من فهمه وإدراك مضامينه واستيعاب رسالته العالية، وقد بيّنت الآية المباركة بكلماتها القليلة - الكثيرة المضامين - جانبًا مهمًا في تلك التقوى وهو عدم الارتياب، فالمتقي لا يرتاب في كلمات الله، الكتاب ﴿ لا رَيْبَ فِيهِ ﴾ هذه حقيقة تقع في قلوبهم، ولأنها وقعت في قلوبهم قرّب الله الكتاب وفهمه إليهم ونالوا بذلك الهدى ﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾.

﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ (3)

﴿ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ ﴾ الآية المباركة تشير إلى المتقين الذين أنهت الآية السابقة بهم قولها، وتتحدث عن صفاتهم، وأُولى تلك الصفات هي أنهم يؤمنون بالغيب، والإيمان هو تصديق يتبعه عمل على أساس ذلك التصديق، فالمؤمن يؤمن بشيء لأنه يشعر بالأمان حين يعقد تصديقه به. والغيب - في عمومه - هو ما غاب عن الإنسان فلا يراه ولا يشعر به في عالم الشهادة، وللغيب خصوصية في الآية فهو يشير إلى الحقائق التي تُخبر عنها الكتب السماوية، فالكتب الربانية تتحدث عن الملائكة - على سبيل المثال - وهم مخلوقات يعملون على إنفاذ أوامر الله ولا يراهم الإنسان، وتُخبر عن أحداثٍ حدثت في الماضي كقصة آدم والشيطان، وتخبر عن أحداثٍ تجري في المستقبل كقيام الساعة، كل تلك الأنباء تُعد غيبيات لم يشهدها الإنسان، ولكنه يصدقها ويعمل على أساس ذلك التصديق لأنه يعتقد أن هذه الكتب أرسلت من عند الله.

والآية المباركة تقول أن أُولى صِفات المتقين أنهم يُؤمنون بالغيب، وهذا يَعني أنهم يؤمنون به من حيث المبدأ وهذا الإيمان يعدُ أساسًا في تصديق ما أنزل الله من كتب سماوية كونها نازلةٌ من عنده عز وجل عن طريق الملائكة، ثم بناءً ا على ذلك المبدأ هم يؤمنون بأنباء تلك الكتب وما ورد فيها من حقائق غيبية.

﴿ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة ﴾ أما ثاني صفة من صفات المتقين فهي إقامة الصلاة، وإقامة الشيء يجعل منه شيئًا ملحوظًا مشاهدًا، كما نقول عن مبنىً أنه قائمٌ للإشارة على وجوده كشاخص بصري مرتفع عن الأرض يشاهده المارة، وبالمثل فإقامة الصلاة تعني أن للصلاة كيان يجعل منها مشاهدة وملحوظة، وكما أن للمبنى حماية وصيانة من قبل المحافظين عليه تجعل منه باقيًا لا ينهدم عبر السنين، كذلك فإن للصلاة حماية ورعاية من قبل المحافظين عليها تجعل منها كيانًا باقيًا لا ينهدم لمن أراد أن يرى الصلاة ويتعلم كيف يقيمها، لتكون تلك الإقامة وذلك الحفاظ هو سر بقائها بأفعالها الحركية المتمثلة بالقيام والركوع والسجود، فالصلاة محفوظة - بحفظ الله - بوجود المحافظين عليها والقائمين بها.

﴿ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ ﴾ أما الصفة الثالثة من صفات المتقين فهي أنهم ينفقون مما رزقهم الله، يقدمون ما يملكون من أموال عينية أو نقدية إلى الفقراء والمحتاجين وفي كل عمل خير ينفع الناس، فهم يؤمنون أنهم مخولون فيما يملكون، وهذا الإنفاق دليل على إيمانهم بوعد الله في الآخرة، وأنهم لا يملكون شيئًا من هذه الدنيا وإنما الملك كله لله. وهذه الصفة وما قبلها يؤكدان على حقيقة واحدة وهي أنهم يؤمنون بالغيب حق الإيمان، لأنهم انتقلوا بعد التصديق إلى العمل، ويقدمون في سبيل ذلك الإيمان أغلى ما يملكون الوقت (المتمثل في إقامة الصلاة) والمال.

عمل المؤمن قائم على أساس العبودية لله، أي أنه يؤمن أنه ينفذ ما يؤمر به من قبل المشرع وهو الله، ولذا فإن عمله في إقامة الصلاة والإنفاق هو في الأساس قائم على استجابته لأوامر الله، وأوامر الله نازلة في كتبه السماوية، وهذا ما تؤكده الآية التالية التي تشير إلى إيمان المتقين بما أنزل الله، لذا كانت الآية التالية تتحدث عن الإيمان بالكتب لتحكم الموضوع.

﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ (4)

﴿ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾ تُشير الآية المباركة إلى إيمان المتقين بالقرآن الكريم وتصفه بقولها ﴿ أُنْزِلَ إِلَيْكَ ﴾، والكاف ضمير عائد على النبي محمد (ع)، فهم يؤمنون بهذا الكتاب أنه نازل من عند الله وليس فرية أو ادعاءً باطلًا، وكذلك يؤمنون بما أنزل من قبل ﴿ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ ﴾ وهي التوراة والإنجيل، فإيمانهم بالقرآن هو امتداد للإيمان بالتوراة التي نزلت على نبي الله موسى، فالقرآن والتوراة امتداد لملة إبراهيم (ع)، وهذا يعني أن هؤلاء المتقين تجاوزا أزمة التفريق بين الرسل، ورأوا أن القرآن مصدق لما قبله من الكتب، فأقروا بصدق نبوة النبي محمد وبصدق القرآن.

﴿ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ بدأت صفات المتقين بالإيمان بالغيب، وتنتهي هنا بالإيمان بالآخرة إيمانًا يقينيًا، والموقن يثبت في مواقف الشدة ولا يتزعزع، ويبدو أن جهادهم في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة هو الذي أوصلهم إلى هذا اليقين، فهما وسيلة لهذه الغاية، واليقين بالآخرة يلخص حركة المؤمن، فبهذا الإيمان تكون حركته ثابتة مع الله.

﴿ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [5]

﴿ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ إشارة للمتقين الذين ذكرت صفاتهم الخمسة وهي الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق والإيمان بالكتب السماوية واليقين بالآخرة، وفي هذه الصفات جزء غيبي وهو الإيمان بالغيب واليقين بالآخرة، أما الجزء المشاهد والمادي فهو إقامة الصلاة والإنفاق والإيمان بالكتاب، ما يميز الجزء الغيبي هو اليقين بالآخرة، فالكل يؤمن بالآخرة ولكن ليس الكل يوقن بها، وما يميز الجزء المشاهد هو الإيمان بالكتب السماوية كلها، فالكل يؤمن بالكتب السماوية ولكن القلة هم الذين لا يفرقون بينها، وهذا يدل بدلالة واضحة إلى أنهم كتابيون متمسكون بما أنزل الله دون انحراف عنه، وملخص صفاتهم تلك هي اليقين بالآخرة والتمسك بالكتاب، وعندما تقول الآية المباركة ﴿ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ فهذا يعني أن هذا النهج هو النهج الصحيح الذي على أساسه يهتدي المؤمن إلى الحق، وهذه الهداية التي هم عليها ﴿ مِنْ رَبِّهِمْ ﴾ الذي يوقنون بربوبيته ويكفرون بربوبية غيره.

﴿ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ﴾ تكرار الإشارة إلى المتقين "أولئك" فيه تأكيد على الصفة التي يراد ذكرها بعد ذلك وهي الفلاح، والمفلح يُفلح من مجموعة إذا استطاع أن يَخلص من معضلة شمولية، فإذا انزاح عن ذلك المجموع فقد أفلح، وفي الكلمة دلالة على أن المفلحون قلة، فالفلاح يحتاج إلى وعي واجتهاد للخلاص مما قد يحل بالجميع، وفي هذا دلالة أيضًا على قلة الموقنين بالآخرة وقلة المتمسكين بالكتاب المنزل وقلة الذين يفلحون بالأخذ بعقيدته ويسلمون إلى أحكامه.

حيثيات حول النزول

لهذا المقطع من الآيات المباركة تأويل مكاني و زماني، ونقصد بذلك التأويل هو ارجاع هذه الآيات إلى ظرفها في الزمان والمكان الذي نزلت فيه هذه الآيات وخاطبت فيه هذه الفئات والطوائف، لأننا من خلال ذلك التأويل يمكننا أن نفهم إلى من يتوجه هذا الخطاب؟ وأي علة أو مشكلة يعالجها القرآن بالتحديد؟ وعليه يمكننا أن نفهم كيف هي طبيعة الابتعاد عن الكتب السماوية؟ وكيف تكون؟ فإذا فهمنا ذلك تمكّنا من أن نحدد المصداق على مثل تلك المشكلة في كل زمان.

يمكننا أن نأول هذا المقطع من الآيات من نفس الكتاب وعلى أقل التقادير من نفس هذه الآيات المباركة، فالآيات نفسها تُرشد إلى أنّ المخاطبين بهذا النص ليسوا كفرة - بالمنعى المطلق - فهم يؤمنون بالكتاب المنزل ولكن مشكلتهم هي أنهم ليسوا موقنين! ونفي هذه الصفة عنهم يعني أنه يَظهر منهم عدم تَمسكهم بالكتاب حق التمسك، فهم يؤمنون ببعض الكتاب ويكفرون ببعض، ولكفرهم ببعض الكتاب وتمسكهم بعقائد أخرى خارجةً عنه أدى بهم ذلك إلى الكفر بما أُنزل على النبي محمد وهو القرآن، لأنه الداعي للتمسك بعقيدة الكتاب الحقة.

وهذا يقتضي أن القرآن إنما جاء مصدقًا لما بين يديه من الكتب السماوية بمعنى أنه متوافق معها وخصوصًا حين نتحدث عن التوراة، فإذا كان القرآن متوافقًا مع التوراة فما الذي يدعوهم للكفر به؟ بمعنى : إذا كان القرآن يدعو إلى ما تدعو إليه التوراة بالنص وبالمعنى فلم الكفر؟!

في النص المبارك إشارات يمكننا من خلالها أن نفهم ما كان عليه الوضع إبان نزول هذه الآيات بالتحديد، فالآيات بدأت بالإشارة إلى الارتياب في الكتاب، والارتياب في الكتاب لا يعني الكفر المطلق به فالمرتاب مصدق بالكتاب ولا يُنكر أساس النزول من عند الله، ولكنه في حالة من التردد بالأخذ به! وذلك هو مقضى الارتياب، فالريب يزعزع القلب ولا يدعه مستقرًا في حال.

على هذا الأساس فالآيات ومنذ البداية تشير إلى مشكلة المتلقي في ذلك الزمان، وتكمن أصل مشكلته أنه مرتاب في الكتاب، وهذا يتجسد في طريقة تعامله معه، ونتيجة لذلك الارتياب هو لا يستطيع أن يُذعن برسالة القرآن، ولذا استخدمت الآيات كلمة "الكتاب" بدلًا من كلمة "القرآن" فالكتاب أعم، والقرآن أخص، القرآن هو أحد الكتب السماوية، والتوراة كذلك، أما كلمة الكتاب فهي كلمة شاملة لما أنزله الله على الناس وكتبه عليهم. ولأن أهل الكتاب يرفعون التوراة على أساس أنهم كتابيون متمسكون بما أنزل الله، ولكنهم حين جاء النبي محمد برسالة القرآن كفروا به فكشف ذلك زيف ادعاءهم بالكتب السماوية.

ومن خلال ذلك يمكننا القول أن التأمل في النص يكشف لنا المجتمع الذي نزلت فيه هذه السورة المباركة، فهم كتابيون، ولكنهم في الحقيقة مرتابون في كتابهم ولا يطبقون ما جاءت به، ولذا أكدت الآيات على الإيمان بما أُنزل إلى النبي محمد وما أنزل من قبله، لأنها كلها كتب سماوية، وفي قوله تعالى "ما أنزل إليك" إشارة إلى أن النبي محمد بشخصه كان سببًا في نكرانهم لرسالته، وذلك بسبب تكبرهم و عنصريتهم على الآخرين، وكأن الآية تقول : لأن الكتاب أنزل إليك فهم يرفضون الإذعان بما فيه من حقائق، ولكن القرآن هو ذاته الكتاب بما فيه من حقائق ويعرفونها من التوراة.

إذًا هذا النص المبارك يُخاطب النبي محمد (ع) متحدثًا فئة المتقين من الذين سيؤمنون بالقرآن من أهل الكتاب الذين سيُرسل إليهم ويقرأه عليهم، فالمخاطبون بالدرجة الأولى هم أهل الكتاب، وبسبب عدم تقواهم وعدم خوفهم من الله وعدم يقينهم بالآخرة، فإن فئة منهم لن تؤمن بما أنزل إليك، وتكشف كذلك ارتيابهم في كتابهم السماوي وعدم تَمسكهم به، وما يؤكد هذا المعنى هو الآيات اللاحقة في نفس السورة - البقرة - والتي تتحدث عن بني إسرائيل، ثم تُخاطبهم وتبيّن لهم كفرهم بالرسالات ونقضهم للعهود.

الريب في الكتاب

نتساءل حول العبارة المباركة ﴿ لا رَيْبَ فِيهِ ﴾ وعن موقعها في السياق، وعن أهمية ورود هذه الكلمة -الارتياب- في بداية السورة! وما دلالات ذلك في فهم النص المبارك ؟

نتساءل في البداية: هل قوله تعالى ﴿ لا رَيْبَ فِيهِ ﴾ هو تقرير من رب العالمين بأن هذا هو الكتاب ولا ريب فيه؟! أي هذا هو ما أنزله الله ولا يمكن لأحد أن يرتاب فيه! ولكن الحقيقة أن هناك من يرتاب في الكتاب! وإن كان المعنى أن الله عز وجل هو الذي يقرر بأنه لاريب فيه، فما الخبر الذي أعطته هذه العبارة؟! إذا كنا نعتقد أن هذا الكلام نازلٌ من عند الله، وقال الله لنا بأن هذا هو الكتاب، فلا داعي أن يقال بعد ذلك لاريب فيه؟! من الممكن أن يقال: فلا ترتابوا فيه؟! ولكن أن يقرر من أنزله - وهو الله عز وجل - أنه لاريب فيه فكيف يمكننا أن نفهم ذلك؟! فالريب يصدر من جهة ما، ويُنسب لأحد، فنقول فلانٌ مرتاب في الكتاب، أو فلان لا يرتاب في الكتاب، لذا فالأولى أن يكون المعنى: ﴿ لا رَيْبَ فِيهِ ﴾ بالنسبة للمتقين، أما غير المتقون فقد يقعوا في الارتياب.

والريب حالة داخلية تتزعزع فيها ثقة الإنسان ويضطرب فيها قراره، فيصاب بالتردد بين الإقبال والإدبار للجهة التي يرتاب فيها، وعليه فإن المرتاب في الكتاب هو مؤمن لكنه لم يصل إلى اليقين، لا أنه جاحدٌ معلن بكفره لهذه الرسالة، فما يعلنه هو الإيمان، لكنه لم يصل بإيمانه إلى الدرجة التي تجعله ينفي أي شيء غير ما يراه في الكتاب.

ولو بحثنا في دواعي الارتياب لوجدنا أن الإنسان يقع في تلك الحالة حين يسيطر الشك عليه، ولذا يُعبر عن الارتياب - تجاوزًا - بالشك بعض الأحيان، ولكن الأدق هو أن نقول أن الارتياب حالة تسيطر على الإنسان حين يسمح للشك بالدخول والاستقرار في نفسه، وفي موضوع الإيمان بالكتاب، إذا كان الارتياب مشكلة تستوجب أن يتم الحديث عنها في بداية قراءة القرآن، فهذا يعني أنها مشكلة تحتل موقعها في هذا الصدد، ويعني أيضًا وجود قوى مشككة في الكتاب تعاوق عملية التسليم التام والمباشر لما تنص عليه الكتب السماوية.

وبالنظر إلى أن المخاطبين هم أهل كتاب، فموضوع الارتياب في ذات السياق الزماني يشير إلى وجود تيار جارف قد جرف بقوته عقول وقلوب أهل الكتاب بعيدًا عن أصل ما يدعو إليهم كتابهم، ساعده على ذلك ضعفُ إيمانهم بالآخرة، وعدم تقواهم في التعامل مع ما أنزل الله، لذا كان تمسكهم بالتوراة مجرد شعار، وتعلقهم به لا ينفك عن كونه رمزًا لهويتهم التي يتفاخرون بها بين الناس.

وحين ربطت الآيات المباركة الإيمان بما أنزل على النبي وما أنزل من قبله، فهي تؤكد على وحدة الموضوع ووحدة الهدف الذي يجده المتقي من أهل الكتاب حين يسمع القرآن ويقارنه بما علمه من التوراة، فسماع القرآن يقوده حتمًا إلى أن الكتابين نوران قد صدرا من مشكاة واحدة. وبالنتيجة فالموقن غير المرتاب في كتابه (التوراة) لا يحتاج إلى كثير من العناء ليصل لليقين بالقرآن، بل إن إيمانه به تلقائي ومباشر ولا يحتاج إلى إثباتات مطولة!

لو تأملنا طريقة طرح الآيات لموضوع الارتياب لوجدنا أنها تتحدث عن الارتياب على أنه حالة موجودة أصلًا قبل نزول القرآن على النبي محمد لا على أنه حالة عارضة بسبب نزوله، وعلى أساس وجود هذه الحالة أو هذا المرض تصنف الآيات مستقبلي الكتاب السماوي الجديد ، فوجود هذا المرض يفسد الإيمان بالرسالة الجديدة، وكأنها تقول (متحدثة عن أهل الكتاب) : هذا هو - أي القرآن - الكتاب الذي أنزله الله على موسى من قبل، لن يرتاب فيه ولن يجحده إلا الذي كان مرتابًا في كتاب موسى وإن ادعى أنه متمسك به.

وباعتمادنا على فهم أن القرآن مصدقٌ للتوراة بمعنى المطابقة في الأحكام والعقائد، يُمكننا أن نفهم الآيات الكريمة حين تقرر بأن الكتاب هدًى للمتقين، على أنه حكم مسبق على حالة مؤمن بالتوراة متقي لله وسيعرض عليه القرآن فيقبله، فالكتاب سواء أكان التوراة أو القرآن، هو هدًى للمتقين الذين لا يرتابون فيه، فعدم ارتيابهم بالكتاب قبل القرآن، سيقودهم إلى عدم ارتيابهم فيه حين نزوله.

البعد التطبيقي

لقد كشف نزول القرآن ارتياب أهل الكتاب في كتابهم! ولكن كيف يكون منهم أنهم يدّعون أنهم أهل التوراة وفي نفس الوقت هم مرتابون فيه؟! أو بمعنى أعم كيف يمكننا أن نحدد الريب في الكتاب؟

يمكننا أن نفهم المقصود بفهم المعنى الذي يقصده القرآن من ذلك الارتياب، حيث تتجلى أهمية الكتاب في الاستجابة لأوامره، وإذا كان الإنسان لا يستجيب لتلك الأوامر مع ادعاءه بالتمسك به فهو إما معرض عنه أو مرتاب فيه! والريب الذي تتحدث فيه الآيات هو في العقائد والأحكام التي جاءت بها الكتب السماوية. إذًا يُمكن كَشف مرض الارتياب من خلال النظر إلى حالة التردد في الأخذ بعقائده وأحكامه الشرعية، في قبال اتجاهات أخرى تُناهض الكتاب، ففي حالة أهل الكتاب المعنيين بالحديث - حسب فهمنا السابق - هم يعلمون ما في الكتاب، ولكنهم في ذات الوقت يعملون بخلاف ما فيه بسبب سيطرة تلك الاتجاهات والانحرافات العقائدية والشرعية.

فهمنا لهذا الواقع الذي نزلت فيه الآيات يجعلنا أكثر قربًا منها ومن استخلاص العبر والفوائد لواقعنا المعاصر، فالتأويل الزماني لا يعني انحصار تطبيق الآيات على ذلك الزمان وحسب، بل يعني فهمه الفهم الصحيح من أجل تطبيقه، وعليه قد وجدنا أن الارتياب في الكتاب مرض تصاب به الأمة بصورة خفية فلا تظهر ملامحه على السطح، ولكنه يظهر بالاختبارات، نزول القرآن في ذلك الزمان كان اختبار أهل الكتاب، ومفرزة لكشف المنجذبين للحق عن الذين اتخذوا التوراة شعارًا لهم فقط، فالارتياب مرض خفي تكشفه المواقف، وتظهره اختبارات التصديق، وقرارات الميل له أو لغيره، فحين مال أهل الكتاب عن القرآن، مالوا عنه إلى أهوائهم وآرائهم، لا إلى التوراة الحقيقية، وكذلك فإن اختبار الإيمان بالقرآن قائم في كل زمان، والفشل فيه يكون حين نميل إلى الأهواء والآراء تاركين خلفنا هتاف الكتاب الجلي وصوته الواضح البين وكأننا لا نسمعه.

لقد قررت هذه الآيات المباركة الصفات التي يجب أن يتحلى بها المؤمن حتى يصل للتقوى التي تؤهله لدرجة اليقين بالكتاب فيعمل به دون ارتياب، لأن الارتياب يداخل كل من آمن بالكتاب مالم يؤمن ويتصف بهذه العناوين، فضعف الإيمان يقود إلى مرض القلب الذي ستشير إليه الآيات اللاحقة.

في بداية السورة يبيّن الله عز وجل صفات المتقين ، وأول تلك الصفات هي الإيمان بالغيب، وهذا الإيمان شرط لاكتساب الهدى، وهنا لابد من أن يأخذ الإنسان موقفًا جادًا مع نفسه وأن يواجه حقيقة إيمانه بالغيب، وأن لا يتجاوز هذه الكلمة حتى يرصد افعاله فيحكم على نفسه من خلال تلك الأفعال، هل هو مؤمن بالغيب أو لا ؟

ثم تتحدث الآيات عن إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهما الوسيلة للوصول إلى التقوى المطلوبة، وتحدثت كذلك عن الإيمان بالآخرة، والذين يؤمنون بما أُنزل إليك وما أنزل من قبلك، وبالآخرة هم يوقنون، إذ لابد من الوصول لليقين بالآخرة. ولن ينال هذا الكتاب ويتعامل معه بيقين إلا من ارتقى إلى درجة التقوى، وهذه الدرجة هي التي أوضحت الآيات الأولى من السورة مطلبها.

التعامل مع القرآن هو في حقيقته تعامل مع الله، لأنه يمثل أوامره وكلماته وكل الحقائق المتعلقة بالآخرة ، لذا لزم ذلك إقامة الصلاة حق الإقامة لأنها صلة العبد مع الله الذي نؤمن به في عالم الغيب ، والنتيجة الطبيعية لهذه الصلة هو تزكية النفس والطمأنينة ومعرفة الحقوق والواجبات وأبرز مصاديقها الإنفاق.

أما الهدى فهو الذي يقود إلى فهم الكتاب، وبالتالي هو الذي يقود إلى الصراط المستقيم، وقراءة القرآن بلا تقوى هي قراءة سطحية لا تقود إلى الصراط المستقيم، بل إن مدعي الإيمان قد يساوم مع الآيات فيبيعها بمعنى يرفضها، ويشتري غيرها بمعنى أنه يستبدل بها غيرها، وهذا ما بينته الآيات الأولى التالية لهذه الآيات المباركة حين أشارت إلى بيع الآيات من قبل مرضى القلوب بسبب الارتياب، وإذهاب النور من سمائهم كعقاب، وجعْل الأنداد كنتيجة حتمية للابتعاد عن الكتاب.

الضمير العائد على النبي

ويظهر هذا الضمير طبيعة خطاب القرآن الكريم، فهو يخاطب النبي محمد دون أن يكون له سابق ذكر في الآيات السابقة، وهذا مستوى من مستويات التأويل الظاهر الذي يفهمه القارئ ويؤوله دون اجتهاد منه، وهذا يعطي دلالة