مدونة حلمي العلق

سورة البقرة من آية 124 إلى آية 129

 | ayat | elbakara

جعل الله سبحانه وتعالى نبي الله إبراهيم إماماً للناس على مدى الأزمان، ولذا جعل مقامه موضع للصلاة على مدى الأزمان حتى يكون نبي الله إبراهيم إماماً لمن يأتي من بعده.

( وَإِذْ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124))

رجعت هذه الآية بالزمان إلى مرحلة نبي الله إبراهيم الذي أسس الملة وهي مرحلة قبل مرحلة نزول التوراة على نبي الله موسى.
"وإذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات": وفي وقت من الأوقات قبل أن يكون اليهود والنصارى ابتلى الله نبيه إبراهيم (ع) حين قال له سبحانه "إني جعلك للناس إماماً".
الإمام : هو من يتبعه الناس فهو أمامهم، والإمامة محصورة في الرسالة، والأصل في الاتباع لكتاب رباني، والإمام هو من يتقدم على الناس في تطبيق الكتاب.
"قال ومن ذريتي" : طلب نبي الله إبراهيم عليه السلام من الله سبحانه وتعالى أن تكون الإمامة من بعده في ذريته، وبهذا الطلب أتم الله سبحانه وتعالى تلك الكلمات التي ابتلاه بها بأن قال له سبحانه " لا ينال عهدي الظالمين" في إشارة إلى الشرك الذي هو ظلم عظيم.

(وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْناً وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125))

"وإذ جعلنا البيت": الجعل من عند الله سبحانه وتعالى فلا يتدخل فيه أحد ولا مجال لتغيير ما جعله الله من أي أحد. والبيت هو الكعبة.
"مثابة للناس وأمناً": مكان يرد إليه جميع الناس، لم تحدد طائفتهم ولا لغتهم هي لجميع الناس، يأتون إليه في أمن وأمان.
"واتخذوا من مقام إبراهيم مصلى": أي اجعلوا مقام إبراهيم إماماً لكم أثناء الصلاة، إشارة إلى إمامة إبراهيم في هذا الدين.
وعهدنا إلى إبراهيم وإسماعيل": عهد الله لهما في رعاية وعمارة البيت الحرام للزوار المعتمرين والحجاج.
الطائفين: حول البيت
العاكف: هو المطيل في البيت بغرض التقرب لله
الركع السجود :أفعال الصلاة
هذه اﻵيات تؤكد على الناس أن يصلوا بإمامة نبي الله إبراهيم حتى بعد موته، ولهذه اﻹمامة الباقية أهمية في الدين
هناك فرق بين جعل الله وبين اتخاذ الناس لشيء لم يجعله الله.
جعل الله، هو تشريع وهو ما كان يؤسس له نبي الله أن لا يقدس شيء إلا بنص رباني.
التطهير لا يتعلق فقط بنظافة المكان وحسب ، ولكن بالدرجة اﻷولى بمنع أي شعار وأي نسك وأي علامة لم يشرعها الله في هذا المكان.
وهذا اﻷمر عهد على إمامنا إبراهيم وإسماعيل، وإذا كان عهد فهو أمر باق لما بعد إبراهيم وإسماعيل.

( وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنْ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126))

مكة بلد ليس بها رزق، وقد طلب إبراهيم أن يرزق من آمن من أهل مكة ، ولكن الله سبحانه وتعالى وسع هذا المطلب حتى للكافر.

(وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنْ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127))

وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل: هل كانت قواعد البيت موجودة مسبقاً وجاء إبراهيم ليرفعها فقط ويعيد بناء البيت، أم أن إبراهيم هو الذي أسس البيت من قواعده؟ مجرد سؤال. والآية تشير إلى أن إبراهيم وإسماعيل هما اللذان بنا البيت.
ربنا تقبل منا :على الرغم من أنك فعلت ما أمرت به ، لكن مع ذلك تطلب من الله أن يقبل منك هذا.
إنك أنت السميع العليم: تعني أن ماقبله دعاء.

( رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128))

ربنا واجعلنا مسلمين لك :الاسلام هو التبعية التامة لله، وهي مرتبة يصل لها المؤمن بالعمل والتطبيق وليس بالإنتماء، لذا فإنهما يطلبان من الله الوصول لهذه المرتبة.
ومن ذريتنا أمة مسلمة لك: هنا طلب من الله أن يجعل منهما ذرية مسلمة له سبحانه أي منقادة لأوامره ولا تنقاد لأوامر غيره ، لتحمل هذا الدين لبقية البشر وتكون أمينة عليه.
أرنا مناسكنا : المناسك هي الأفعال التي يعملها الحاج للبيت، وهنا هما يطلبان من الله أن يريهما المناسك، لايبتدعون من عندهم مناسك، بل يروها حتى يقومون بتنفيذها والإستسلام لها .

(رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمْ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129))

ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم : ابعث منهم أي من نفس القوم، رسولاً من يذكرهم بعد طول الزمان.
يتلو عليهم آياتك: هو طلب من إبراهيم وإسماعيل أن ينزل الله سبحانه وتعالى كتابه على هذا النبي فيتلوه عليهم ليذكرهم بحكمه وشرعه ولا يحيدون عنه.
ويعلمهم الكتاب والحكمة: دور النبي هو أن يعلم أتباعه الكتاب، ويعلمهم الحكمة وهي هبة يهبها الله سبحانه وتعالى لمن يشاء.
إنك أنت العزيز الحكيم: الله سبحانه وتعالى عزيز، وهذه العزة جعلت إبراهيم وإسماعيل أن يتوسلا له ويطلبا منه هذا الهدى للذرية التي ستأتي من بعدهما،
وهو حكيم ويتعامل بحكمة في كيفية إرسال هذا الرسول وإنزال هذا الكتاب.


نبي الله إبراهيم علامة مهمة في تاريخ الرسالات السماوية، وفي الحقيقة هناك فترتان في تاريخ الرسالات فترة ماقبل نبي الله إبراهيم والفترة الثانية هي مابعد نبي الله إبراهيم. وهذه الآيات تتحدث عن تأسيس نبي الله إبراهيم للملة، وتذكر الآية الشريفة العهد والإمامة وهما أساس لما بعده من الرسلات، وهنا نبحث شيئين أساسيين العهد والإمامة والشيء الثاني علاقة هذا الأمر بالآيات السابقة من الجزء الأول من سورة البقرة.

العهد والإمامة
عندما قال الله لنبي الله إبراهيم إني جاعلك للناس إماما وطلب نبي الله إبراهيم أن تكون الإمامة في ذريته أيضاً كان الرد لاينال عهدي الظالمين، فما هو العهد وما هي الإمامة؟ العهد هو الكتاب الذي ينزله الله سبحانه وتعالى، ففي الكتاب أوامر الله ونواهيه ووصاياه، والإمام هو من يتعهد بتطبيق الأوامر أمام الناس فيكون أول المسلمين بتطبيقها قبل الدعوة لها وعدم الحياد عنها. إذاً الإمام هو الذي يتعهد بالحفاظ على الكتاب وتطبيقه. وقد وردت آيات كثيرة تبين العهد في القرآن الكريم منها على سبيل المثال الآية :
( إن الله اشترى من المؤمنين .. )
كما بينت آيات أخرى أن هناك من المعتقدات الباطلة التي أدخلها اليهود والنصارى ثم ردها عليهم بقوله سبحانه هذه ليست من العهد، أي ليست من الكتاب السماوي فلم أعهد إليكم هذا القول.
والعهد هو اتفاق بين طرفين يلتزم فيه كل طرف ببنود محددة، ففيها عطاء وأخذ، تعطي الوفاء بالعهد وتأخذ الوفاء من الطرف الآخر، وتسقط هذه المعاهدة حين يقوم طرف من الطرفين بإسقاط أي بند من بنودها. وقد خاطب الله سبحانه وتعالى بني إسرائيل في القرآن الكريم وقال لهم ( أوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) متهماً إياهم بنقض العهد الذي كان بينهم والعهد هو ما أنزله الله لهم في التوراة، فما كتبه عليهم من أوامر وما أوصاهم به هو عهد عليهم، وما وعدهم الله به من حظ في الدنيا ومكانة في الآخرة هو عهد لهم نتيجة للوفاء بذلك العهد، ولكن كثير من الآيات بينت أنهم نقضوا العهد ( الذين ينقضون العهد ولا يصلون ما امر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض) فهم من نقض عهد التوراة وعهد الإنجيل، ومن المعروف عند أهل الكتاب تسميتهم للتوراة بالعهد القديم، وبالإنجيل بالعهد الجديد.
لا يناول عهدي الظالمين
( أن لا تتخذوا من دوني وكيلا ). ( ميثاق الكتاب ) الكتاب كله مواثيق وعهود وللكتاب بخصوصه ميثاق يسمى ميثاق الكتاب، وهو أن لا يتم التنازل عن هذا الكتاب ولا يشرك به بشيء آخر، وبتعاليم أخرى ( ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لايقولوا على الله إلا الحق ودرسوا مافيه ) لذا وبسبب هذا الخلط يكون قد أسقط ميثاق الكتاب ولم يوف بالعهد وهذا
والتساؤل هو:ما موقع هذه الآيات في قصة بني إسرائيل؟ الآية تقول (وإذ) وهذه الإذ تعني الارتباط الوثيق بالآيات السابقة، وفي الحقيقة أن الآيات تسير في كتلة واحدة مترابطة وفي كيان منسجم ومتماسك. الآية تتحدث إلى بني إسرائيل وإلى العرب بني إسماعيل بشكل مباشر. الأصل في المواضيع مهم جداً وقد تغيبه التفاصيل لذا يجب أن نولي الأصول الدرجة الأولى من الإهتمام في قراءة النص.
ما الذي جاء بنبي الله إبراهيم وسط الحديث عن بني إسرائيل؟ وما الذي جاء بهذه القصة الإبراهيمية بالتحديد؟ إن نبي الله إبراهيم هو أب يعقوب ابن اسحاق ( ومن بعد إسحاق يعقوب) وبني إسرائيل هم أبناء نبي الله يعقوب فإسرائيل هو نبي الله يعقوب(ع)، والآية تتحدث عن أصل قصة إبراهيم التي هي في الأصل أصل قصة بني إسرائيل، وبنوا إسرائيل يعرفون نبي الله إبراهيم جيداً، بل إنهم يدعون أن نبي الله إبراهيم كان يهودياً بالمعنى الطائفي التي تعيشه هذه القبيلة، وجاء القرآن ليكشف هذا الانحراف. وحينما جعله الله سبحانه وتعالى إماماً طلب أن تكون الإمامة في ذريته، وبنوا إسرائيل هم بنوا إبراهيم (ع) وبهذا الاعتبار هم أئمة في نظر أنفسهم وفي نظر الناس أيضاً، وهو هنا يذكرهم هنا أن الإمامة عهد، والعهد له وثاقة بالكتاب الرباني الذي ينزله الله سبحانه وتعالى ( أوفوا بعهدي أوف بعهدكم ) وهنا خلط بين معنيين الأول هو الإمامة والثاني هو العهد، بمعنى آخر أن الحديث كان عن الإمامة ثم كان الرد بالعهد، وهذا يدل دلالة وثيقة بارتباط الإمامة بالكتاب السماوي الذي ينزله الله سبحانه وتعالى.

بسم الله الرحمن الرحيم
تتحدث الآيات من سورة البقرة من آية (124) إلى الآية (129) عن نبي الله إبراهيم في ثلاث مراحل وفي ثلاث محاور. المرحلة الأولى هي مرحلة الدعاء، الثانية هي البلاء، أما المرحلة الثالثة فهي الإجابة، وفي محاور ثلاث وهي الكتاب والبيت والإمامة والتي أصبحت ركائز أساسية في ملة إبراهيم فيما بعد، هذه الآيات تتحدث عن هذه المكونات الثلاث بشكل غير متسلسل لكنها تعطي مزيجاً من الحديث عنها في تلك المراحل الثلاث.

دعا نبي الله إبراهيم بعودة الدين الضائع بعد أن رآى الناس في غياب تام عن أوامر الله وشرائعه ودينه، وعلى هذا الدعاء اختبره الله سبحانه وتعالى في صبره وعزيمته في المرحلة الثانية، وفي المرحلة الثالثة استجاب له دعاءه، كان نبي الله إبراهيم قد علم أن كلمات الله قد ضاعت بسبب الانحرافات لغيرها ولأن الناس عظمت جهات أخرى غير جهة الله، وعلم أيضاً أنه بتعظيم المكان وصاحب المكان تتعظم الكلمات، فدعا الله بأن يرشده لبيته وأن يعطيه آياته وأن يرزقه ذرية تحمل هذه الآيات من بعده، وعلى هذا الدعاء الملح ابتلاه الله وامتحنه بأوامر فاستجاب لها بكل صبر وعزيمة وإصرار، فكانت النتيجة أن أنزل الله الصحف.
كان البلاء في أن يكون إبراهيم للناس إماماً، وبناءً على هذه الكلمات تحرك إبراهيم وتحدى الصعاب ولم يتوقف أمام كل معضلة تقف أمامه، هاجر للبيت الذي بوأه الله إليه وأسكن من ذريته في واد غير ذي زرع، بنى البيت ورفع قواعده،
دعاء نبي الله إبراهيم بعودة الدين مخبوء خلف كل آية من آيات هذا المقطع، دعا بعودة الدين ودعا ببقاءه من بعده في ولده وأن يرزق أهل هذا المكان بالثمرات حتى يعمر بالزائرين والمصلين وأن يبعث الله في هذا الدين كتاب ورسول هو أحد ولده. إن من أعظم الابتلاءات أن يتم الاتفاق على أن تكون له ذرية تحمل الدين ثم يؤتى بالولد بعد وقت طويل من الانتظار، كل عام يمر بلا ولد هو امتحان في الإيمان بالكلمات، وبعد هذا الانتظار يأتي الولد فيستريح الصبر الطويل، وتتوقف معاناة الانتظار على ثقة الكلمات، لكنها لاتنتهي، فبعد أن يكبر الولد ويبلغ معه السعي تلوح له في رؤاه أن الله يأمره بذبحه، وهو إذ يعزم على هذا الأمر لا يذبح ولداً وحسب، إنه يذبح مشروعاً عاشه في كل لحظة من حياته وقد رأى الأمل يكبر أمامه ويسير، ولكن الكلمات كانت أكبر من أن ينساها، وثقته بالعهد أطلقت يداه عزيمة وإصراراً على تنفيذ الأمر وإن كان رؤيا، وحين صدق الرؤيا عملاً وعزماً فداه الله سبحانه وتعالى، ورزقه بإسحاق ومن بعد إسحاق يعقوب الذي جاء في عقبه الولد الكثير. لقد نجح إبراهيم (ع) في تصديق الكلمات وطبق الإمامة بما تحمله الكلمة من قيادة وسعي قدماً نحو تحقيق القيم وإعلاء كلمات الله دون توقف عند عقبة أو صعوبه، وحين نجح في الكلمات التي ابتلاه الله بها في أن يكون إماماً ومن ولده من يحمل العهد، وكان قد بلغ من العمر ما بلغ ومن الصبر ما صبر كان يدعو هو وإبنه إسماعيل بأن ينزل مناسكه وشرعه وأن يجعلهما مسلمين لها، وأن يجعل من ذريتهما من يحملها ويسلم لها، تمت المعاهدة واستلم الصحف، فعلم المناسك وعلمها وأذن في الناس بالحج على شريعة وبينة من ربه، تاركاً أهله في الوادي الذي لم يأهله أحد من الناس بعد.
كانت الإجابة باستلام الكتاب تحت التعهد بالحفاظ عليه علماً وعملاً، فهو العهدة التي يجب أن لا تضيع وهو خارطة المناسك التي يجب أن يعرفها كل الناس، فتعهد إبراهيم بالاستسلام للكتاب وأن لا يأخذ مصدراً تشريعياً آخر وأن لا يقدس مكاناً غير المكان الذي أرشده الله إليه ودعا إليه الناس، فاكتملت بذلك دعائم الملة، مكان هو الوجهة وإمام هو الحافظ للكتاب وكتاب يحفظ تعاليم الله وشرائعه.
وفّى إبراهيم بعهده بالتزامه واستسلامه تعاليم الملة ، ووفاه الله عهده بأن جعل في ذريته النبوة والكتاب.

بسم الله الرحمن الرحيم

النقطة الأولى: إمامة إبراهيم
تتحدث هذه الآيات عن ثلاث ركائز أساسية هي: البيت والكتاب والإمامة وفي ثلاث مراحل مر بها نبي الله إبراهيم هي الدعاء والابتلاء واستجابة الدعوة. أما في مرحلة الدعاء فقد طلب نبي الله إبراهيم بعودة الدين للأرض بعد أن رآه قد رفع، وأما في الابتلاء فقد اختبره الله سبحانه وتعالى في صبره وعزيمته على إعادة الدين، وحين نجح استلم العهد.
علم إمامنا إبراهيم (ع) بارتباط المكان بالكلمات، فإذا قدس الإنسان المكان يقدس نتيجة لذلك الكلمات التابعة لذلك المكان، والعكس صحيح فإذا قدس الكلمات قدس المكان الذي يمثله صاحب الكلمات، وهذا يعني أنه علم عن ركائز الدين أو ركائز الملة ألا وهي المكان والكتاب والإمام، والإمام هو الذي يسعى بكل جهد وعزيمة في دعوة الناس إلى الكتاب وإحقاق الحق، فدعا ربه بإلحاح من أجل أن يهديه للمكان وأن ينزل إليه الكتاب.

بدأت رحلة الاختبار على الإمامة في كلمات أوحاها الله إلى إبراهيم وهي (إني جاعلك للناس إماما)، وأتم نبي الله إبراهيم هذه الكلمات بسؤاله لرب العالمين (ومن ذريتي) فكان الرد الرباني (لاينال عهدي الظالمين)، فصار إبراهيم في بلاء التصديق والعزيمة والصبر على تحقيق هذه الكلمات، فكان الإرشاد للمكان والوصول إليه والبقاء فيه أول امتحان في طريق الإمامة، فالبيت في مكان قاحل غير ذي زرع لا تتوفر فيه مقومات الحياة ولا يرغب العيش فيه أحد، وقد انتظر إبراهيم طويلاً الولد الذي سيحمل عبء الرسالة من بعده تصديقاً بكلمات الله، وحين أتى الولد وبلغ معه السعي رأى في المنام أنه يذبحه، فأقدم على تنفيذ الأمر، وهو حين يقدم عليه لا يذبح ابناً أحبه بعد طول انتظار وحسب، إنه يذبح مشروعاً وعهداً بنى عليه من الآمال الكثير، ولكنه يعلم أن بقاء الدين بالله وليس بأبناءه فصدق الرؤيا وفدى الله الولد وكان ذلك هو البلاء المبين، فنجح ورزقه الله سبحانه وتعالى بإسحاق نافلة ومن بعد إسحاق يعقوب.

وابتلى في الكلمات حين فهم منها أن الله ينزل عليه الكتاب، إذ لا إمامة بلا كتاب، ولا إسلام بلا كتاب. إني جاعلك للناس إماماً تعني إنك تستلم الكتاب ثم تكون إماماً للناس بما سأنزله عليك من آيات بينات، لأن الكتاب هو الإمام البين المكتوب، والإمام هو البشر الذي يطبق ذلك الكتاب. ولكنه بعد بناء البيت والانتهاء من فتنة الذبح لازال ينتظر ويدعو الله بإنزال الكتاب وهو متيقن من أن وعد الله حق وكلماته صدق. (واجعلنا مسلمين لك) لا إسلام بلا كتاب، لأن الإسلام لآيات الله ولأوامر الله وشرائعه، ( أرنا مناسكنا) تعني أنزل علينا كتاباً يبين ما نفعله من مناسك في هذا البيت، ولا نفعل شيء أو نقوم بنسك لم تأمر به.
وبعد طول الزمان والصبر وتعدي الابتلاءات استلم إمامنا الصحف وفيها المناسك والوصايا والحكمة بعد أن رفع قواعد البيت وأحياه من جديد، فانطلق يدعو الناس إلى الله وإلى أول مسجد وضع للناس في سعي منه لأن يؤسس لوجهة الله على الأرض، واستقبلهم من أجل أن يعلمهم المناسك على بصيرة من أمره، وتمت كلمات الله صدقاً بأن أصبح إبراهيم إماماً للناس كافة، وأصبح إمامنا إبراهيم يدعو الله بأن يرزق أهل هذا البيت من كل الثمرات حتى يبقى عامراً بالزائرين والحجاج والمعتمرين على مدى الأعوام إلى الجهة التي جعلها الله مثابة للناس وأمناً. بعد موت نبي الله إبراهيم، أمر الناس بأن يتخذوا من مقام إبراهيم مصلى، في عقيدة بأنك تدين إلى الله بإمامة خليل الله.

النقطة الثانية
لماذا قيلت هذه القصة هنا؟
كان الحديث قبل هذه الآيات عن اليهود والنصارى، وهم أبناء نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل، وهم يدعون أنهم قائمون على ملة إبراهيم ومتمسكون بها، وعلى هذا فإن الرفض والاستهجان منهم أن ينزل الحق عند غيرهم وليس عليهم لأن العهد على أبناء إبراهيم فقط. ولكن الآيات تبين أن أبناء إبراهيم هما إسحاق وإسماعيل وهما التوراة والقرآن، ليس إسحاق هو ابن إبراهيم فقط، إسماعيل أيضاً، وعلى اليهود والنصارى المؤمنون بملة إبراهيم من فرع إسحاق أن يكونوا أول المؤمنين بالقرآن الكريم وبما أنزل على النبي محمد (ص)، فالدعوة لم تخرج عن آل إبراهيم فقد تعهد الله أن لا تخرج عن آل إبراهيم ولكنه لم يتعهد أنها لا تخرج من آل يعقوب أو بلفظ آخر بني إسرائيل.

النقطة الثالثة :
في قوله تعالى " لا ينال عهدي الظالمين "
هناك فرق بين الإمامة والعهد، الإمامة قيادة والعهد هو الكتاب الذي ينزله الله وفيه عهود إلى الله على البشر وعهود للبشر من الله سبحانه وتعالى إن هم أقاموا عهودهم معه. ولكن ما الفرق بين " لا ينال عهدي الظالمين " وبين " لا ينال الظالمون عهدي" ؟ في العبارة الأخيرة تعطي جنبة إيجابية للظالمين في أنهم يسعون للوصول إلى عهد الله، ولكن الحقيقة غير ذلك فظلمهم كان في ابتعادهم عن الكتاب وظلمهم في آيات الله. أما "لا ينال عهدي الظالمين" فهي تعبر عن حقيقتهم، والعبارة تعبر عن انقطاع الكتاب عنهم حتى مع وجوده بين أيديهم، فهم أهل كتاب لكنهم لا يؤتوه إلا لبعض منهم أو يصلهم نصيب منه. ولقد قالت لهم آيات قبل هذه " وأنتم تتلون الكتاب" والتي تعني أن الكتاب بينهم لكنه لم يعد مؤثراً، كما تكررت عبارة " أوفوا بعهدي أوف بعهدكم " والتي تعني ضياع العهد الذي عاهدهم الله عليه.