مدونة حلمي العلق

سورة البقرة من آية 135 إلى آية 141

 | ayat | elbakara

(وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ (135)

على المؤمن أن لا يأمل في نجاته في الآخرة أو في هدايته على الانتماء للأمة، العلاقة مع الله لا تشخص أي لا تأخذ بصورة شخصية، فما ينجي الإنسان هو العمل وحسب.
والمشكلة التي تناقشها الآية هو أن كل أمة جعلت الهدى عندها، والإدعاء هو أن من يريد أن يهتدي عليه أن ينتمي لملة محددة هي اليهودية أو النصرانية، فردت الآية أن الهدى هو باتباع ملة إبراهيم.
فالإيمان هو قول والإسلام عمل، والإيمان بملة إبراهيم نطق والإسلام عمل بتلك الملة ، الآية التالية: لا نفرق بين ما أنزل الله على تلك الرسل، لا نفرق بين أحد، الآية تنزه إبراهيم عن الشرك، والذي هو ابتعاد عن الملة والتحزب، الشرك: أن تضيف شيء على الملة.

( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136))

الآية تقول لا نفرق في الأشخاص، فهؤلاء الأنبياء جاءوا على ملة واحدة ولكن الناس فرقوا بينهم، والإيمان بالملة يعني أن تؤمن بأنهم على دين واحد وليسوا على ديانات مختلفة، والله يقول أن هذا هو هدى الله، وهو أن يؤمنوا بذلك كله على انه على دين واحد. والمقصود بالإنزال أو الإيتاء: هو إنزال الوحي أو إيتاء شيء من تلك العلوم الربانية، التي أعطيت لكل الرسل بدون تفريق بين أحد منهم.

(فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137))

الهدى هو في اتباع ملة إبراهيم، و الشقاق: هو التعب والشقاء الذي تسببه الغلو الذي جعلوه بأنفسهم، أو هو انشقاق عن الدين الأساسل، بمعنى الانفصال عن الأصل وهو الإسلام، والآية تقول لا صلاح لهم لأنهم في حالة انشقاق. فسيكفيكهم : يكفيك فالله يعلم كيف يتعامل معهم، وهي إشارة إلى كف أيديهم عن الأذى فهي تقال من إجل إدخال الطمئنينة في قلب النبي فهو سبحانه السميع العليم الذي ينتظر منك الدعاء فادعه.

والآية في مجملها متصلة بالآيات السابقة لتشير إلى انشقاق أهل الكتاب الذين سبقوا النبي عن طريق التوحيد الذي يمثله إبراهيم واسماعيل وإسحاق، وقد قالو كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا، ورد الله على ذلك القول :

" قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)"

هذه هي صيغة الإيمان الذي استبدل الله بها قولهم.
إذا جاء النبي محمد لكي يجمع كلمة الناس على كلمة واحدة ويعيدهم إلى جادة الصواب، فمن قال بذلك القول وبعدم الفرقة بين الأنبياء وأن ماجاء به الله سبحانه وتعالى على جميع الرسل هو نسخة واحدة ، فقد اهتدى، وإن تولى عن ذلك إنما هو منشق

(صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138))

الصبغة هي الطلاء، وطلاء الله سبحانه وتعالى هو ذا لون واحد ليس لها ألوان متعددة، أي أن دين الله هو نسخة واحدة وليس نسخ متعددة. وهذه الصبغة التي يصطبغ بها المؤمن متوافقة مع فطرته التي تقبل هذا المنهج وهذه الطريقة بلا تحيز إلى أي طائفة أو أي شخصية وإنما لله وحده.
وبهذا النهج يوصف المؤمن بأنه على صبغة الله، لأنها تعطي المؤمن الطعم الملائكي الإنساني النقي من العصبية العمياء والتي تجعله سليماً بفطرته لا معوجاً كباقي المتعصبين.
وفي الآية تأكيد على أن المؤمن آمن بما نزله الله لا يفرق بين أحد، وأن قدرة الله سبحانه وتعالى تجلت في النسخ لكتاب آخر هو مطابق لنفس الكتاب الذي كان في صدور الذين أوتوا العلم قبل أن ينزل القرآن، ولا يحق لأحد بعد ذلك لأن يقول هذا دين اسمه يهودي وذاك إسلام ، فكلاهما من منبع واحد هو الله وله مسمى واحد هو الإسلام.

(قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139))

هذه الآية تشير تذكر محاججة دارت بين النبي وبين بني إسرائيل، ومن الآية نتعلم المحاججة مع أي في نفس الحالة لنرد عليه بالكتاب. الأمم في هذا الزمان تعيش نفس الحالة. ولن نجد أفضل من رد الله في القرآن على الذين قلوبهم تشابهت. ونسمع بمقولة الفرقة الناجية على سبيل المثال دون أن يكون لها برهان من الكتاب أي من عند الله من أي فرقة من الفرق ادعت ذلك.

الآية تقول ربنا وربكم: وهي تعني "كتابنا وأقوالكم"، والآية لم تستخدم لفظة "إله" لكنها استخدمت لفظة "رب" لارتباط هذه اللفظة بالشرك، فالحكم في الأمر من أفعال الربوبية، ومن يأخذ حكماً من غير ماقاله الله سبحانه وتعالى فقد اتخذ قائل الحكم رباً لأنه شارك الله في أحد أفعال الربوبية وهو الحكم. ومن هنا نفهم أن الإخلاص هو إخلاص في الكتاب السماوي. أي بعدم إضافة أو تغيير حكم لم ينزله الله، أحكام الله واضحة بينة في كتابه ولكن المشكلة تكمن في أن الناس تعقب على الأحكام، فتهون أو تقلل من الحكم، فترى من أنزل الله إليهم الكتاب يصلون ولكن الكتاب يقول عنهم أنهم أضاعوا الصلاة فلم تعد الصلاة تؤدى بنفس الإخلاص الذي يطلبه الله في كتابه.

موضوع الإخلاص لله في المحاججة هو الفيصل فهو يحرج من هو غير ملتزم، لأن المسألة هي مسألة اختلاف في أحكام الدين، والإخلاص يعني الالتزام بأحكام الكتاب، وهنا يكون الملتزم بما أنزل الله هو أكثر أمناً مع الله سبحانه وتعالى، وهذا يكون النفي للمزايدات التي لم ينزل بها السلطان في اليهودية أوالنصرانية.

(أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140))

يعرف القرآن الكريم ملة إبراهيم على أساس الإعتراف بكل الأنبياء الذين جاءوا على نفس الهدف: ( قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)). وهذا الإعتراف يلغي أن تكون هناك أديان مختلفة، بمعنى أنها تلغي قول من يقول أن هناك شيئين مختلفين هما ملة إبراهيم وديانات أخرى، ولكن الله سبحانه وتعالى يقول أن الديانات كلها على ملة إبراهيم ومتطابقة معها.

قل: أأنتم أعلم أم الله؟ العلم هو علم الكتاب، وهم يعترفون أن النبي محمد رسول، لكنهم يرفضون ما جاء به من علم يخالف أهواءهم، وهو يقول لهؤلاء المحتجين: أأنتم أعلم أم الله؟ وإرجاعهم لعلم الله هو إرجاعهم للتوراة أو القرآن.
هم يشهدون أن الحكم عند الله، والله يسألهم كيف تكفرون وأنتم شهداء؟ أي يقول أن ما أقوله لكم هو عندكم في الكتاب، وأنتم تكتمونه.

(تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141))

ولا تسألون عما كانوا يفعلون: لم يوجب الله علينا ما فعله الأولون، بل إن ما أوجبه هو تنفيذ التعاليم بغض النظر عن كيف تم تنفيذ هذه التعاليم من قبل الذين سبقونا. لذا على المؤمن أن يتبع التعاليم لا أن يسير على ماكان عليه آباءه إني وجدت آبائي على أمة وإني على آثارهم مقتدي. إن جوانب الأسوة في إبراهيم والذين اتبعوه هي موجودة في الكتاب، مع إن إبراهيم على الحق، ولكن الآيات تقول: أنك لاتسأل عما كان يفعل، فلا مسوغ لأحد أن يقول السلف الصالح.


"وقالوا كونو هوداً أو نصارى تهتدوا"
من الأساسيات التي نحتاج لها لفهم كثير من الآيات الشريفة هو أن القرآن يخاطب وفي كثير من الأحيان أمم مؤمنة بالرسالات. فمثلاً اليهودية والنصرانية هما أمتان مؤمنتان بملة إبراهيم بل إن علومها كبيرة جداً في الدين والديانات وتاريخ الرسالات. ولكن القرآن هنا يدحض ادعاءات دخيلة على أصل الديانة التي انطلقت منها طائفة اليهودية وطائفة النصرانية، ولفهم ذلك أكثر ومن أجل فهم مقطع الآيات نطرح عدة نقاط :

1- التبعيض:
اليهودية تابعة للتوراة، والنصرانية تابعة للإنجيل، ولكن المشكلة المطروحة هي أنهما يؤمنان ببعض الكتاب نظراً لغلبة الموروث الديني في العقائد والشرائع، ولذا طالبهم القرآن بإحضار التوراة وتطبيقها واتباع ما أنزل الله وعدم الانحراف عنه. والدعوة هنا ليست في أصل الإيمان بالرسل والكتب السماوية، ولكنها في تحويل ذلك الإيمان البعضي والمنتقى إلى إيمان كلي بالكتاب السماوي، ونبذ بعض الموروث الذي يقف حائلاً أمام الإيمان بكل الكتاب.
إذاً لوصف الحالة بشكل أدق نقول أن النبي محمد (ص) جاء بالقرآن ليفرض حقيقة الإيمان الكلي أي بكل الكتاب، الأمر الذي يؤدي بدوره لنبذ بعض الموروثات، في حين أن واقع أهل الكتاب في ذلك الزمان هو أنهم يؤمنون بالموروث على حساب الحقيقة الربانية فيأخذون ببعض الكتاب، وهذا ما واجههم به القرآن الكريم ( أتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا). إذاً فحالة أهل الكتاب لم تكن حالة كفر مطلق بالكتاب ولا كفر مطلق برسالة النبي محمد حتى، ولكنها حالة كفر ببعض الكتاب وببعض ما أنزل على النبي محمد، كفر نابع من تعلق قلوبهم بجزئيات ما أنزل الله بها من سلطان غلبت على أحكام وشرائع وعقائد الكتاب السماوي بسبب الهوى وكانت محط الجدال على مدى رسالة النبي محمد. والدعوة في القرآن هي أن اجعلوا كتاب الله حاكماً لا محكوماً، اجعلوه منطلقاً لفهم الشرائع والأحكام والعقائد.

2- وحدة الرسل
يبين القرآن الكريم حقيقة وحدة الرسل "وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون" على خلاف نظرة التفريق بين الرسل، وهذا التفريق الذي تقصده الآية الشريفة وكذلك بقية الآيات التي تحدثت عنه هو التفريق في مضمون ماجاء به كل رسول، ولقد اختلفت مضامين الرسل في الموروثات لكل طائفة رغم أنها منطلقة من ملة واحدة هي ملة إبراهيم، وأبوهم هو نبي الله إبراهيم فهي في حقيقتها وأصلها متحدة لا متفرقة.

3- العدسة المحدبة
جاء القرآن الكريم ليظهر حقيقة الرسل والأنبياء قبل رسالة النبي محمد من خلال النظر إلى عدسة الحقيقة المحدبة، وما هي العدسة المحدبة ؟ إنها المعنى الحقيقي للرسالات والتي أصل صورتها هي أنها تنبع من مصدر واحد وتتفق في هدف واحد، فالعدسة المحدبة تستقبل النور النازل عليها لتجمعه في نقطة واحدة، وهذا هو مصدر قوة الرسالات وحقيقتها. في المقابل استبدل الشيطان تلك العدسة بعدسة مقعرة تستقبل النور لتشتته وتضعفه في اتجاهات متعددة لا تلتقي أبداً، تكبّر الفروقات الصغيرة بين الطوائف من أجل التفريق والتشتيت، وتباعد بين خطوط الضوء كي لا تلتقي، أما العدسة المحدبة فإنها تقلل من أهمية الفروقات الطبيعية في الحياة وتسدد وتقارب بين الأمم من أجل العودة إلى هداية الله التي هي واحدة على مر العصور.

4- مثل البعوضة
إن مرجع ذلك التشتت هو الرغبة في التمايز وإعلاء الأنا الكبرى "وهي الطائفة" على بقية الطوائف وبقية الأمم، تلك المشكلة التي حددتها بداية سورة البقرة في آية البعوضة والتي كانت تشير من ذلك المثل أن لا تمايز بين البشر أمام الله فلا أبناء لله ولا خاصية لأحد على أحد والمسافة بين الخالق والمخلوق واحدة. وهذا ما يجعل المسألة في تقريب الطوائف مسألة تصطدم مع الأنا الكبرى، فضلاً على أنها تصطدم مع الألفة التي أَلفها الإنسان ونشأ عليها.

الجزء الثاني
(وقالوا كونوا هوداً أو نصارى تهتدى قل بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين)
فمن الصعب على من اعتاد أن تكون طائفته ممتازة عن غيرها وناجية بالمقاييس الموروثة التي ورثها عن آباءه، من الصعب أن يقبل أن تشاركها في الهدى طوائف أخرى أمنت بالله وآمنت بكتبه. من هنا كان قولهم كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا لتكون المركزية في الهداية والنجاة لذلك الإرث المنقول عن آباءهم. في المقابل فإن الله يقول بل ملة إبراهيم وهي الكتاب السماوي الذي أنزله الله على كل الرسل.
الإيمان إيمان بكتاب وليس إيمان بطائفة.

( قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل .. )
تبين الآيات أن الرسول يعني الرسالة التي جاء بها من عند الله لا الشخص، لذا يأمر أتباعه بأن يقولوا " قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق .. " فإذا أرجعنا الرسول للكتاب وأخذنا قول الرسول مما أنزل الله اتحدت الرسل في شريعة واحدة وأحكام واحدة، ولكن إذا أخذت كل أمة حقيقة رسولها من موروثاتها تفرقت الرسل وتفرقت الرسالات رغم أنها اشعاعات نور قد خرج من مشكاة واحدة. وهنا يريد القرآن أن يلغي الحبكة التي تقول أن الرسول يساوي الموروث، لأن أقوال الرسول وأوامره محفوظة في الكتاب السماوي.

( فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق )

القول بوحدة الرسل هو الهدى، عدم التفريق بين الرسل هو الهدى، وخلاف ذلك هو شقاق، وهذا الإنشقاق مبني على إبعاد رسول الطائفة عن الخط المستقيم الذي ترسمه الملة، فكل نبي له موقعه في هذه الملة بدءً بنبي الله إبراهيم وانتهاءً بنبي الله محمد (ص)، فاليهودية التي تعتبر أن أحكامها مستمدة من تعاليم موسى عليها أن تعيد موسى إلى الخط الرئيسي وهو الكتاب السماوي ولا تبتعد عن الكتاب بافتراءات نسبت إلى موسى، وعلى النصرانية أن تعيد عيسى إلى ذلك الخط العمودي على أن عيسى رسول بشر له رسالة هي ما ورد في الكتب السماوية.

( صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون)

عبارة "صبغة الله" تذكر بعبارة "فطرة الله"، والحديث في الآيات عن التطبع بطبائع اليهودية، أو طبائع النصرانية والتي مآلها أن يتحول الإنسان إلى رقم يضاف إلى مجموع أتباع هذه الطائفة أو تلك.
كلمة (صبغة) في اللغة كما يعرفها معجم المعاني هي الهيئة المكتسبة بالصبغ، والآية تشير إلى أن لله صبغة هي أحسن صبغة للإنسان، وفي المقابل نفهم إن الطوائف تصبغ أتباعها بصبغة غير التي صبغ الله عليها الناس، تلك الهيئة لا تقتصر على الشكل الخارجي فقط ولكنها تشمل الهيئة والتركيبة الداخلية للإنسان وهذا هو الأهم، واحدة من أهم صفات الفطرة الداخلية للإنسان هي الموضوعية في النظر والحكم على الأشياء. ولكن تلك الموضوعية قد تختل وتستبدل بالانحياز والميل والتطرف إذا تعرض الإنسان إلى زخم عاطفي مبرمج أو تربية موجهة، وإذا ما استولت عليه حالة التعصب واختطفته تيارات الطائفية.

الآيات السابقة لآية "صبغة الله" تتحدث عن محاولة كل من اليهودية والنصرانية للمغالبة في اجتذاب من حولها ولزيادة أعداد المنتمين للطائفة بفرض أنها بوابة الهدى، وكل واحدة تجتهد في خلق تيار جاذب أقوى من الأخرى، فكان الرد حاسماً من رب العالمين "بل ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين" وما يهمنا في العبارة الهامة هذه كلمة " حنيفاً" والتي تعني الميلان، وهذا الميلان هو ميلان عن الباطل إلى الحق، ولكن ماذا يعني الميلان في خضم الحديث عن تجاذبات طائفية؟ إنه يعني المقاومة التي تجعل من الإنسان حراً قادراً على إنكار الباطل بينه وبين نفسه، فتلك المقاومة للتيارات الجارفة هي ما تمكن الإنسان من الدخول إلى "ملة إبراهيم" بقلب سليم، ومرة وهي ما تصنع منه راشداً يختار الحق ويقاوم السفاهة لا يخشى في ذلك لومة لائم.

لا تكتمل الصورة في الحديث عن "صبغة الله" حتى نضعها في سياقها وهو الحديث عن عدم التفريق بين الرسل ، فحينما نتحدث عن صبغة الله التي هي الموضوعية وعدم الإنحياز في سياق الحديث عن أنبياء ملة إبراهيم، فإننا حتماً نقصد عدم التفريق بينهم فيما يتعلق بالشرع ، و ما يتعلق بالعقائد ، وما يتعلق بالمكانة التي يحظى بها النبي أو الرسول في نفوس الطائفة التي تطوف حوله وتتغنى بإسمه دون غيره من الأنبياء والرسل.

الآية تخبر بإن الإيمان الحقيقي في تجنب التفريق بينهم، وتجنب التفريق له تبعات تكبر على الأمم المتفرقة أن تتحمله، ويصعب على الطوائف التي شحنت نفوسها في وضع أسافين الفرقة والتمايز عن الفرق الأخرى أن تتقبله، وهاهنا جنبة نفسية تؤول في النهاية إلى صبغة الإنسان التي فسدت واختلت وابتعدت عن صبغة الله.

--- * -----
في الآية نظريتان في الحصول على الهداية: النظرية الطائفية، و نظرية اتباع الملة، كن يهودياً حتى تحصل على الهداية، كن نصرانياً حتى تحصل على الهداية، أما الرد فكان باتباع الملة،
النقطة الأولى:
الموضوع الذي تتناوله الآية في طريقة الهداية هو أن تنتمي للطائفة، وكانت الإجابة هي بل ملة إبراهيم ولكنه في الآية التالية يفرض الإيمان بالرسل كافة وأن لا تفريق بينهم وتبين الآية التي تليها أنه إن تم الإيمان بذلك فإن ذلك فقد اهتدوا، وإن تولوا عن هذا فهم في شقاق. وهنا عرض لمشكلة تمييز بعض الإنبياء هو الذي أدى

المرآة المقعرة والمرآة المحدبة نظرتان تفرضهما الآيات الكريمة في التعامل مع الدين، واحدة هي هدف رباني أما الأخرى فهي هدف شيطاني. وهتين الرؤيتين تتجسد أهدافهما في أغلب المستويات، على المستوى الفردي والأسري والإجتماعي والديني والطائفي. مبدأ المرآة المحدبة هو التجميع والتوحد، أما المرآة المقعرة فمبدأها التفريق والشتات. تعاليم الكتاب الرباني السماوي تدعو للتجميع على جميع المستويات وخصوصاً الدينية منها، أما الشيطان فيسعى للتفريق بين كل تلك المستويات.
واحدة من العناوين الهامة التي تناولتها الآيات الشريفة هي التفريق بين الرسل، وللتفريق بين الرسل تداعيات خطيرة في الدين على مستوى الطوائف والشعارات والتشريع.
تفريق الرسل هو تمزيق لوحدة الملة وتضييع للحق، وجاءت دعوة النبي محمد (ص) موحدة لكل الرسل التي تقطعت أسماؤهم بين الطوائف زبراً كل حزب بمالديهم فرحون، وجاء القرآن ليؤكد أن الرسل واحد، ووضع كل رسول في موقعه الحقيقي، حسب التسلسل التاريخي وأعطاه حجمه الحقيقي في الملة دون غلو أو إسراف في التعبير عن أي أحد منهم.
مافعلته عدسة الشيطان المقعرة هو تشتيت ذلك خطوط الضوء النازلة من السماء وتفريقها لإضعاف قوتها، وتحويل تلك الكلمات النازلة إلى كل رسول منهم إلى اتجاه مختلف عن الآخر وبالتالي تأسيس شرع آخر وعقائد مختلفة، وبدلاً من أن يكون ذلك الشعاع النازل مصدر قوة، تحول إلى مصدر نزاع وتفرقة وشقاق وأحقاد وضغائن بين الطوائف، ونتيجة لذلك أصبح نبي الله موسى في اتجاه، ونبي الله عيسى في اتجاه آخر، وكل يدعو إلى طائفته.
أما العدسة القرآنية فإنها تدعو إلى تسديد الثغرات الشيطانية وأحداث التقارب بين الطوائف بالعودة إلى الأصل وتحجيم المبالغات والمزايدات التي وضعها الشيطان إلى كل أمة من أجل تفريقها عن البقية، وطالب الجميع بالاستسلام لهذه الدعوة.
إن تلك الحقيقة الربانية التي تدعو إلى أن يكون الكل على صراط واحد لا ينشق منه أحد من الأنبياء والذي يمكننا أن نسميه وحدة الأنبياء هو تجسيد حقيقي للإسلام، إن الحاجز الذي يقف أمام هذه الدعوة هو الكبر والرغبة في التعالي والتمايز عن بقية الطوائف، وهنا تقف كلمة الإسلام ككلمة مناهضة لتلك الحالة الأنانية والمتعالية التي تريد أن تكون هي الأعلى دائماً حتى أمام الحقيقة.
إن الحقيقة تبدو غريبة مرفوضة أمام تيارات الجذب الطائفية التي تدعي الهداية، وقوله تعالى ( حنيفاً ) هو وصف حالة نبي الله إبراهيم الذي لم يكن منساقاً وراء التيارات الجاذبة ومقاوماً لحالة ضعف الإنسان أمام الرغبة في اكتساب المكانة من خلال الانتماء الواهم.
إسلام الحقيقة هو أن تؤمن بطابور الأنبياء بنفس التسلسل التاريخي دون أن تخرج رسولك من موقعه الحقيقي فتجعله أمام الطابور بديلاً عن نبي الله إبراهيم فقط من أجل أن تثبت النعرة تجاة الطائفة، فإمامة نبي الله إبراهيم هي نظام للملة التي يراد لها أن تنقلب حتى على المنطق التاريخي والمنقطي.
وفي أجواء طائفية كهذه جاء نبي الله محمد لكي يوحد الصفوف، فالمؤمنون معه هم الذين أعادوا قيمة أولئك الرسل في مواقعهم التسلسية الطبيعية والمنطقية، وأعادوا إمامة إبراهيم ليسيروا على ملة إبراهيم قولاً وعملاً دون مزايدات، ومن استجاب والمؤمنون بذلك هم المهتدون كما عبر القرآن، أما غيرهم فقد عبر عنهم القرآن بأنهم انشقوا عن جادة الصواب وعن الأصل مع ادعائهم أنهم على الملة.
ولأن الحقيقة قوية بمكان بحيث لا يمكن للإفتراءات والمبالغات أن تقاومها، فإنها لن تجد لها سبيل للمقاومة إلا بالقوة التي تلغي الطرف الآخر بتصفيته وليس بمقارعة الفكرة بالفكرة، لذا فإن القرآن يقول للنبي محمد " فسيكفيكهم الله" أي أن الله سبحانه وتعالى سيكفيك شر هؤلاء الذين انشقوا، لأنهم لا يضمرون لك إلا الشر بعد لأن الحق الذي أتيت به دمغ الباطل الذي كانوا عليه.
خدعة الشيطان اللعين هو إطفاء نور الله النازل في كتاب الله من خلال الأنبياء، بأن يكون لكل نبي قول يخالف ذلك النص، والله سبحانه وتعالى يوجه النظر إلى أن الإيمان بما أنزل على الرسول، وليس بما نقل عن الرسول أو ما تم الإدعاء به على الرسول. " قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا "
صبغة الله هي الفطرة السليمة التي تقبل الحقيقة بدون انحياز، ولكن الطائفية تحاول دائماً أن تصبغ هذا الإنسان البريء أي أن تجعله ينحاز في أحكامه لصالح الطائفة التي انتمى إليها لا إلى الحقيقة أينما كانت، المؤمنون باحثوا حقيقة وباحثوا حكمة يجرون وراءها أينما وجدوها، ولكن الطائفية لا تدع مجال للعقل الحر أن يفكر وأن يختار لنفسه بل هناك قائمة


( قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون)
اﻵية الشريفة تأمر النبي محمد (ص) أن يطرح تساؤله لأهل الكتاب من أمتي اليهودية والنصرانية، من الذين لم يستجيبوا لدعوته، بكلمات قليلة العدد لكنها كثيرة المضمون كبيرة التأثير بالغة الحجة، فالرب واحد والملة واحدة، ولكن اﻷعمال مختلفة، فلماذا؟ وهذه الكلمات تقال في قبال من تمسك بأحكام وعقائد ومبالغات في العقيدة ما أنزل الله بها من سلطان، تقال لمن يغالب النبي اﻷمي الذي أخلص لله في عدم التفريق بين الرسل وفي اتباع الكتاب واﻹيمان به كله رجاء أن يتبع شيئا من عقائدهم الي لم يأمر بها الله.
النبي محمد وأهل بيته ومن تبعه من المؤمنين سائرين على تطبيق الكتاب وإحياء الملة وإعادة الحق إلى نصابه بعد أن تمزق بيد الطائفية وتجاذبات التعالي بين الأمم، وماضين بحنفية أبيهم إبراهيم لإرجاع الحق الذي يحاول المزايدون المتكبرون اختطافه واختطاف إمامة الدين بأسماء اﻷنبياء المخلصين. وﻷن الباطل هزيل لا يقوى أمام قوة الحقيقة، فهو يحاول إسكات الحق أو احتوائة بالسيف تارة وبالمحاججة الباطلة تارات أخرى، واﻵية الشريفة تعطي النبي ومن معه حجة وعلاج حجة على من يريد التكبر وعلاج لمن خشي الرحمن بالغيب. تساؤل اﻵية بسيط: لنا أعمالنا ولكم أعمالم على الرغم من أن الرب واحد وملتنا ملة إبراهيم، ولكن أيّنا يعمل لله بإخلاص؟ بإخلاص للملة، وإخلاص للأصل، بإخلاص لكلمات الله، وإخلاص لكتاب الله. من أخلص للكتاب السماوي دون زيادة أو نقصان فقد أخلص لله، معترفا بربوبيته التامة التي لا يشاركه فيها أحد، وإجابة اليهود أو النصارى على هذا السؤال هي الحجة على معاندهم والشفاء لمن اراد أن يذكر أو أراد شكورا.


بل ملة إبراهيم حنيفًا

بسم الله الرحمن الرحيم

مقدمة

حملت الآيات من الآية (135) إلى الآية (141) من سورة البقرة رسالة هامة لكل مؤمن بأهمية الانطلاق في الدين من أصوله التاريخية، حيث تحدثت عن أصل الإسلام، وذكرت لذلك التاريخ نقطة تأصيلية مرجعية زمانية وفاصلة في تاريخ الديانات وهو نبي الله إبراهيم، وهذا النبي حمل أهمية كبرى ليس لكونه أمة في رجل وحسب، ولا لكونه أبو الأنبياء وصاحب العهد الرباني، بل لكونه نقطة مرجعية يمكن من خلالها إبطال الأباطيل، وتكذيب الأكاذيب، فبذكر اسمه كونه إمام المسلمين وأولهم، ينتفي أن تقوم للطوائف المبتدعة والديانات المنحرفة قائمة.

إن الديانات المبتدعة التي جاءت من بعد نبي الله إبراهيم، تعترف بانتمائها له، بل – وأكثر من ذلك – هي تكتسب شرعيتها منه، فتدعي أنه هو من أسسها، والقرآن الكريم يسحب البساط من تحت أقدامهم بذكر نبي الله إبراهيم كنقطة تاريخية مرجعية فينسب له الملة، وينسب له الإسلام الأصيل، الذي أُسس قبل أن تأتي كل تلك المسميات.

إذًا نحن أمام نصٍ يعالج مشكلة نشوء مسميات دخيلة على ذلك الأصل، ومن خلاله يمكن أن نتعلم الرد الأنسب على تلك الاستحداثات، وندرس ما يحمله هذا الرد من دلالات هامة في موضوع الدين والإسلام، وبالتالي نفهم أهمية العبارة المباركة " بل ملة إبراهيم حنيفًا وما كان من المشركين"، وما مدى انعكاسها على صبغة المؤمن وهويته.

﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ

تتحدث الآية المباركة عن أهل الكتاب الذين انقسموا إلى فرقتين، هما اليهود و النصارى، ثم بعد افتراقهم على دينهم الأساس نسوا حظًا مما ذكروا به، وصاروا يدّعون احتكار الهداية على أساس ملتهم المبتدعة، كل يدعو إلى ملته ﴿ وَقَالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا ﴾، اليهود يقولون للناس إن أردتم الهداية و النجاة فعليكم أن تكونوا هودًا، والنصارى يقولون عليكم أن تكونوا نصارى، وهذه الدعوة تستبطن في مضمونها نفي أن يكون أصحاب الطائفة الأخرى على هدى.والله عز وجل يأمر نبيه الكريم أن يرد على هذا الإدعاء بجملة كريمة مباركة ﴿ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنْ الْمُشْرِكِينَ ﴾.

أول ما نلاحظه في هذا الرد أنه نقل موضوع الهداية من كونه قضية تتعلق بالانتماء، إلى قضية تتعلق بالتمسك بالنص، فملة إبراهيم هي نص منزل من عند الله عبر كتبه السماوية، بينما قولهم "كونوا هودًا" فهي عبارة تدور مدار الانتماء، هم يريدون انتماءًا خالصًا تكون نتيجته أن يتحول هذا الإنسان إلى مستسلم لكل ما يصدر منهم دون تفكير، والله عز وجل يرفع هذا الإنسان إلى مرتبة التعلق والتمسك بالنص، والذي يعني التفكير والتمحيص والسير في الدين على بصيرة.

ثم إن هذا الرد لم يقف عند حد تغيير بوصلة الإنسان نحو النص الحقيقي، بل أعطى صفة مهمة تناهض هذا الارتماء اللاواعي في أحضان الطائفة، ذلك حين وصف نبي الله إبراهيم (ع) بأنه كان حنيفًا، والحنفية هي الميلان والصد والإعراض، الأمر الذي يشير إلى اتصافه -كونه القدوة في الإسلام والتوحيد والهدى- بصفة الميلان عن كل العوارض الاجتماعية التي تدعوه من خلال انتماءاتها إلى الانحراف عن طريقه المستقيم الذي رسمه الله له.

تضيف الآية الكريمة صفة أخرى إلى نبي الله إبراهيم (ع) بأنه لم يك من المشركين، لتوضح أن تلك الدعوات التي تستقطب الإنسان من خلال حب الإنتماء والاستقواء بالجماعة، إنما تدعوه إلى الشرك، ونبي الله إبراهيم لم يكن مشركًا، أي أنه لم يقع في شراك حبائل تلك الدعوات، ولو فعل لوقع في الشرك، الأمر الذي يعني أن الذين اعتبروا دينهم هو دين انتماء إلى هذه الطائفة أو تلك إنما خرجوا من حقيقة التوحيد ووقعوا في براثن الشرك من حيث يشعرون أو لا يشعرون، وأن تلك الدعوات إنما هي دعوات تستحث المرء للخروج من عالم الإخلاص والتوحيد لله.

أول ملامح ذلك الشرك هو تبديل المسميات، فالسماح باستحداث مسميات غير المسمى الذي رضي الله به للمؤمنين بدعوته، لا يتم إلا بالتخلي والتنازل عن النص الرباني، والرد في الآية على ذلك الاستحداث جاء ليعيد حقيقة الدين من خلال المسمى الحقيقي، وهو "ملة إبراهيم"، هذا ما نصت عليه كتب الله، أن تأخذ التعاليم مسمى ملة إبراهيم، ولن يجرؤ أحد على تبديل هذا المسمى إلا إذا مال عن النص .

إذًا الآية الكريمة تأتي لإبطال مسميات مبتدعة سمي بها الدين، وتثبيت المسمى الرباني الحقيقي، وكما أن لتغيير المسمى أثر على المفاهيم العقائدية، كذلك التصحيح، والعودة إلى الأصل يتبعه العودة إلى العقائد الحقة التي زالت بسبب الميل عن جادة الصواب، ولذا جاءت الآية التالية لتوحد ما تم تفريقه بفعل الإنسان لا بنص السماء.

﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ

الآية الكريمة تأمرنا بأن نعلن إيماننا بما أنزل على الأنبياء من قبلنا بدءًا من نبي الله إبراهيم (ع) : ﴿ قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ فالإيمان بالله حق الإيمان يتبعه الإيمان بما أنزله الله، والإيمان بما أنزله الله يستوجب أن نؤمن بما أنزل إلينا وهو القرآن الكريم، ثم الإيمان بأصل تلك الدعوة والتي انطلقت تاريخيًا من نبي الله إبراهيم (ع) حين أعاد تأسيس الدين بعد اندثاره، وهذا الأساس يجب أن لا يتغير ولا يتبدل مع مرور الزمن، حتى مع بقية الأنبياء التاليين لنبي الله إبراهيم. ولقد واصلت الآية في سرد أسماء أنبياءَ جاءوا من نسله، وهؤلاء هم ذريته الذين دعا لهم أن يكونوا سائرين على ملته حاملين للرسالة، فكانوا أئمة يدعون إلى الإسلام، ولكن دعاوى البشر جعلت منهم أئمة متفرقون في العقيدة والمنهج. ﴿ مَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِم ﴾.

ثم نصل في الآية إلى عبارة جوهرية تواجه ذلك الانحراف الذي أحدثه تبديل المسميات بقوله تعالى ﴿ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ ﴾، لا نفرق بين أولئك الرسل فيما دعوا إليه، فجميعهم جاءوا يدعون للإسلام، أما التفريق بينهم فكان نتيجة لاستحداث مسميات متباعدة ومتباغضة، تدّعي كل فرقة بانتماءها لرسولها انتماءًا حقيقيًا، وأن رسولها جاء بما تروج له تحت مسماها المبتدع، بل وتدعي أن إبراهيم كان في الأصل ينتمي لفرقتها! يهوديًا قبل أن تأتي اليهودية! ونصرانيًا قبل أن تأتي النصرانية! فتقطعت هذه الفرق أنبياء الله بينها زبرًا كل حزب بما لديهم فرحون، ولكن النبي الكريم جاء برسالة القرآن الكريم ليوحد المسمى وليتوحد بعد ذلك الرسل ويوحد المنهج الرباني. لتسقط نتيجة لذلك مشروعية تلك الفرق.

وتختم الآية بقوله تعالى ﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ﴾ فتأتي في معنى الطاعة والعبودية التامة لله، فالله يبين في كتبه ما يأمر به، والامتثال لذلك هو الإسلام، ونحن له مسلمون مستجيبون لما بينه وجاءت به رسله.

﴿ فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ

﴿ فَإِنْ آمَنُوا ﴾ أي إن آمن أهل الكتاب من يهود ونصارى الذين تحدثت عنهم الآية (135)، ﴿ ِبمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ ﴾ أنتم الذين آمنتم بهذا الكتاب واستجبت له، وقلتم مقرين بوحدة الدين ووحدة الرسل كما في الآية السابقة (136)، ﴿ َفقَدْ اهْتَدَوا ﴾، اهتدوا إلى الصراط المستقيم الذي لا تفرق فيه ولا تباعد في العقيدة والأحكام. ﴿وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ ﴾ إن تولوا عن دعوة توحيد الرسل وتوحيد الكتب ميلًا إلى حب التفرق، فذاك يعد بمثابة شقاق عن الملة، والشقاق هو الابتعاد عن الأصل، وقد ابتعدوا عن ملة إبراهيم التي هي أصلهم وانشقوا عنها ليؤسسوا بإسمه دينًا يميزهم بين الأمم. وتختم الآية بقولها : ﴿ فسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ سيكفيك يارسول الله مكائدهم وشرهم، وهو السميع الذي يسمع سرهم ونجواهم، وهو العليم الذي يعلم ما في صدورهم ويعلم مكائدهم ضد الدين والإسلام.

﴿ صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ

الآية الكريمة تصف الدين الخالص الذي لا تعصب ولا تمييز فيه بين الرسل بصبغة الله، ذلك الدين الذي يؤمن أن الرسل جاءوا على نهج واحد ورسالة واحدة وعلى شريعة واحدة هو صبغة الله، فاصطبغوا بها، هذا الإيمان الذي لا يشوبه تعالي ولا كبر ولا تحيز هو الإيمان الذي يتوجه لله خالصًا لا للفرقة ولا للجماعة.

الصبغة على الجدار تكسبه لونًا وطابعًا مميزًا، وكذلك الدين، فالمؤمن يتشرب دينه فتنعكس مفاهيم الدين كطبائع وعادات وسلوكياته، فيصطبغ بدينه ويعطيه طابعًا ربانيًا خالصًا يمتاز به عن بقية الطوائف، والصبغة هي الهوية التي يكستبها المؤمن من خلال اتباعه لتعاليم الله الخالصة، فإذا كانت كل طائفة قد اكتسبت هويتها الخاصة بها وتعززت بتلك الهوية، فالآية الكريمة تقول ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً ﴾ في قبال المقارنة مع الهويات والتيارات الأخرى.

وهذه الآية الكريمة تكمل نص اعلان الإيمان الذي ابتدأت به الآية (136) التي لقنت المؤمنين ما يقولون في حقيقة الرسل، بأن قالت: "صبغة الله" أي أن ذلك الإيمان وذلك القول يعطينا نحن المؤمنون بالقرآن والتوراة والإنجيل صبغة، نمتاز بها بالوحدانية والنقاء، (ونحن له عابدون) يأمرنا فنستجيب له عبادًا طائعين.

﴿ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ

المحاججة التي هي بين المؤمنين من جهة وبين أهل الكتاب من يهود ونصارى من جهة أخرى هي في أصلها محاججة في الدين، وعندما تقول الآية الكريمة : ﴿ قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ ﴾ فهي تقول: أتحاجوننا في دين الله وشرائعه وأحكامه؟! ﴿ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ﴾ وقد أقررتم بربوبيته وأقررنا نحن كذلك بربوبيته، وأتخذتموه ربًا ونحن كذلك اتخذناه ربًا، ﴿ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ﴾ وتعملون أعمالًا تعبدية تتقربون بها إلى الله، وتعولون عليها نجاتكم، ونحن كذلك نعمل أعمالًا في الدين نتقرب بها إلى الله ونعول عليها نجاتنا يوم القيامة، ولكن الفارق بيننا وبينكم أننا قد أخلصنا له في هذا الدين، من خلال إخلاصنا له في اتباع النص، فلم نقبل غير ما نصه لنا في كتبه السماوية ﴿ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ ﴾، في المقابل أنتم لم تخلصوا لله في النص! فكيف يصح ويقبل منكم أن تحاجوننا في الله؟ من أجل إثبات خطأ ما نحن عليه؟! أيُحاجَج المخلص الذي يلتزم بالملة من خلال نصها الأصلي؟ أو تكون الحجة لمن استحدث وابتدع؟ فالحجة عليكم وليست لكم؟!

**﴿**أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ

الآية السابقة تقول: "اتحاجوننا في الله" أما هذه الآية فتكمل وتقول ﴿أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُوا هُوداً أَوْ نَصَارَى ﴾؟! والمعنى: أم تحتجون بقولكم أن إبراهيم ومن جاء من نسله كان على ملتكم، لتشرعنوا بذلك اليهودية والنصرانية؟! وهذا قلب لموازين التاريخ، فنبي الله إبراهيم كان قبل ذلك الاستحداث كله! وهذا قول لا ينطلي على من يتمسك بالنص، وإنما قيل للخروج من الضائقة التي أحدثتها عبارة "ملة إبراهيم" ! والهروب من فضيحة الانكشاف أمام المقياس الرباني الحقيقي.

وهذه الحجة يردُ عليها القرآن بالقول : ﴿ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمْ اللَّهُ ﴾؟ كيف تسردون قولًا في قبال قول الله؟ وهي عبارة يراد منها كشف حقيقة مواجهة الكتب السماوية، فقول الله ثابتٌ في التوراة والإنجيل، وقد جاءوا بقول آخر، وعندما يتحدث أهل الكتاب الذين انحرفوا عن جادة الصواب، يتحدثون عن التاريخ من عندهم ومن أمهات كتبهم ويسردون تلك القصص من بنيّات أفكارهم وكأنهم يعلمون الحقيقة، على الرغم من أنهم يتلون الكتاب، والله عز وجل يقول في هذا " أأنتم أعلم أم الله" لأنهم وضعوا علمهم في قبال علم الله.

﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنْ اللَّهِ ﴾ من لديه علم من الكتاب، فهو يحمل شهادة من عند الله، والناس تحتاج لهذه الشهادة من أجل أن تحكم فيما يقال، وكان يجب على أولئك الذين يعلمون مضامين مافي الكتاب، أن يوصولوه للناس، ولكنهم ظلموا أنفسهم حين فضلوا الصمت وعدم نصرة الحق حبًا في الدنيا، فحقائق الكتاب تنص على أن إبراهيم كان حنيفًا مسلمًا، ولم يكن يهوديًا ولا نصرانيًا، فهذه المسميات لا يقر بها الكتاب.

﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ

تتحدث هذه الآية المباركة عن نبي إبراهيم ومن جاء من بعده من الرسل: ﴿ تِلْكَ أُمَّةٌ ﴾ أي أولئك الأنبياء والرسل ﴿ قَدْ خَلَتْ ﴾ أي انتهى زمانها وانطوى ﴿ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ ﴾ لها ما كسبت من خيرات ومن أفعال طيبة باستجابتها لكتاب الله، ولكم ما كسبتم من أعمالكم، ﴿ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ ولن تسألوا عن عملهم! فأي عمل تقصده الآية؟ ولماذا تنفي أن يكون هناك سؤال عنه؟

تأتي عبارة ﴿ وَلا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ في سياق الحديث عن التفريق بين الرسل، والذي بينه القرآن على أنهم جاءوا بشرع واحد وعلى ملة واحدة وهي ملة أبيهم إبراهيم، وهذه العبارة تبين القاعدة الصحيحة في أخذ الدين، وتبين كذلك أساس الخلل الذي جعل تلك الطوائف تبتعد عن أصلها.

لقد انتقد المقطع السابق لهذا المقطع من يرغب عن ملة إبراهيم ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدْ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنْ الصَّالِحِينَ ﴾ (130) لتأكيد التمسك بالنص لا سواه، والآيات بهذا تجعل من فهم النص قاعدة للانطلاق في الدين، أما هذه الاية فهي تنفي أن يسأل المؤمن يوم القيامة عن ما كان يعمله السابقون! والذي يعني أنها تنفي أن يكون المطلوب هو تنفيذ الكيفية التي تم تطبيق أوامر الله من قبل الأمم التي خلت، بعد أن شددت آيات سابقة على ضرورة تطبيق الأوامر من خلال النص لا من خلال تتبع الصور المنقولة عن تلك الأمم.

الآية الكريمة تبين للمؤمنين ولأهل الكتاب ضمنًا أحد أسباب ذلك التفرق الحاصل بين الطوائف عن ملة إبراهيم وهو الانشغال بالبحث في أعمال أولئك الأمم بدلًا من السعي في فهم النص الذي جاءت به الملة، فالذين ذهبوا للبحث عن ما كان يعمل الأولون انشغلوا عن الملة ونسوها، أما الصور المنقولة عن كيفية التطبيق قد تكون مكذوبة وغير صحيحة، وبالتالي قد لا تكون مصداقًا حقيقيًا لما أمر الله، فلم الأخذ بها مطلقًا؟! هذا جهة، من جهة أخرى قد تختلف كيفية تطبيق النص من زمان لآخر، فالآية تلفت انتباه المؤمنين للنص الكتابي الموثوق والمشهود عليه فذاك ما سنسأل عليه، لا عن ما علمه الأولون.

خاتمة : بل ملة إبراهيم حنيفا

هذه العبارة ليست مجرد شعار يستبدل به شعار اليهودية أو النصرانية وحسب، بل هو في عمقه مفهوم ينقل المؤمن من مدار إلى مدار آخر، لأن العبارة نقلت موضوع الهداية من مبدأ الانتماء إلى مبدأ التمسك بالنص الأصلي المنسوب لنبي الله إبراهيم (ع)، وشتان بين المبدأين، فالأول يغيّب الوعي ويحيي العصبية، أما الثاني فهو على النقيض من ذلك يحيي الوعي ويميت العصبية العمياء.

السعي لمعرفة ما كانت تعمل الأمم الخالية يلغي التفكير في حيثيات الصورة، وينقلها على أساس إنها أساسيات الانتماء لهذه الطائفة أو تلك، وأن الالتزام بتطبيق تلك الصور والاصطباغ بها يعطي السالك طريق الهداية، ويعطيه صك الانتماء، وفي المقابل فإن أخذ الدين على أساس السعي في تطبيق النص، يدعو للتأمل والتفكير والتدبر ، فبذلك يحيا النص، ومن خلال ذلك يمكن تطبيق الأمر الرباني بالحيثيات التي يفرضها الزمان والمكان، بل وإن هذا المنهج يقبل أي صورة من الصور الأخرى التي لا تتعارض مع النص

التدين إذًا – حسب ما نفهمه من هذا المقطع المبارك - هو تطبيق نص، لا تطابق صورة، ولذا اختتم هذا المقطع المبارك بعبارة تغلق هذا الموضوع من حيث ابتدأ بقوله تعالى " ولا تسألون عما كانوا يعملون" لتلغي أهمية البحث عن الصور المنقولة عن الأمم الخالية، لتقول أنتم غير مسائلين عن هذا! بعد أن وضعت الأهمية في مكان آخر في بداية المقطع حين قالت " بل ملة إبراهيم " لتميّز بين منهجين مختلفين، منهج يركز على ما كانت تفعله الأمم الخالية، وآخر يسعى لتطبيق ما أمر الله به من خلال النص الأصلي.

العبارة الربانية ( بل ملة إبراهيم ) هي نقلة تصحيحية لأتباع الملة الذين انحرفت جذورهم إلى العصبية العمياء، وسعوا لتكوين هوية تفرقهم عن غيرهم، واصبحت تلك الهوية دين آخر غير الدين الذي نصت عليه الملة، فالعبارة تعيد النص الأصلي للصدارة بعد أن غيبته الانتماءات. ففي حين أن المنهج الأول أنتج التفرق والعصبية، فإن القرآن يعيد تلك الأمم إلى المنهج القويم لتعود أمة واحدة بلا تفرق.