مدونة حلمي العلق

سورة البقرة من آية 26 إلى آية 29

 | ayat | elbakara

﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ﴾ [26]

الآية الكريمة آية مفصلية في سلسلة الآيات، لأنها تتحدث عن حقيقة ذات دلالات جوهرية وتبين سبب ابتعاد الناس عن كتابهم السماوي والانحراف إلى غيره من الكتب الأخرى، ولفهم الآية نعرض بعض التساؤلات:

أولًا: هل الفاسقون يعرفون المثل؟

الفاسقون يتساءلون: "مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً"؟ وهذا يعني أنهم يعرفون المَثل لكنهم لا يعرفون الغرض منه ومن المقصود بضربه؟ فلو ضَرب أحدهم أمامنا مثلًا ففهمنا معناه، قد نتساءل: ماذا أراد صاحب المثل بضرب هذا المثل لنا؟ هل يقصدنا نحن؟أم يقصد أحدًا آخر؟ وإذا كان يقصدنا فما المعنى منه؟ والفاسقون كذلك يعرفون المثل، لكنهم لا يعرفون ما هو الموضوع، وماهي مشكلتهم؟! وماهي علاقتهم بالمثل؟! أما الذين آمنوا فيعلمون ما هو الغرض من ضرب هذا المثل!

ثانيًا: من هم الفاسقون؟
الفسوق هو عدم تنفيذ الحكم مع الإقرار به، أما الفسق : فهو تبديل الحكم الذي أنزله الله بحكم آخر. فالفاسقون هم الذين بدّلوا مصدر أحكامهم وشرعهم عن كتاب الله، لماذا يَفسُق الفاسقون عن الأمر؟ وماهو سبب فُسُوقهم؟ السبب هو زيغ القلوب لشيء آخر، وسبب ذلك الزيغ هو تعظيم غير الله.

ثالثًا: كيف نقرأ المثل؟

"مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا"؟ الفاء مربوطة بما قبلها، والعبارة موصولة، والمثل مخبوء في العبارة القرآنية بسيطة الألفاظ عميقة المعاني والدلالات، ومعناها هو التقليل من قيمة كل المخلوقات بدءً من أهون مخلوق وهو البعوضة، فهي تطرح التساؤل: ما قيمة هذا المخلوق الضئيل الذي تحتقرونه؟ فإذا كانت الإجابة هي "لاشيء" للدلالة على حقارته، فتكملة السؤال هي:فما قيمة المخلوقات التي هي فوقه؟ في إشارة لبقية المخلوقات التي هي أعلى مرتبة من ذلك المخلوق الضئيل الحقير، والإجابة الضمنية هي: كلهم أمام الله مخلوقات! والمخلوقات درجات ولكنهم - أمام الله الخالق - هم واحد، ويضرب الله عز وجل المثل بأحقر مخلوق يشاهده الإنسان ويحتقره، وهو البعوضة، ليرى مرتبة نفسه هو وصنف بني البشر من خلال ذلك المخلوق الحقير، فهما أمام الله واحد.

رابعاً: ما سبب الحياء

البعوضة معجزة في خلقها، فما الحياء في ضربها كمثل؟! سبب الحياء يكون من الناس في تطبيقه، وذلك حين نقول أن حقيقة الإنسان ماهي إلا بعوضة! فالناس لا ترضى أن تطبقه على الواقع، وخصوصًا حين نطبقه دينيًا عن أشخاصٍ لهم مكانتهم المقدسة في النفوس، فنقول عنهم: ماهم إلا بشر، وماهم سوى مخلوقات، والله عز وجل قال: إن مثل أي مخلوق أمام الله إنما هو كالبعوضة! والبعوضة كائن صغير محتقر لا قيمة له أصلًا، فيحصل الحياء إذ لا أحد يجرؤ أن يضرب ذلك المثل لا على أنفسنا كبشر ولا على أصحاب المكانة المقدسة في النفوس.

خامسًا : ما هو الحق في الآية؟
الآية متصلة بذات الموضوع السابق، بدءًا من الحديث عن مرضى القلوب، مرورًا بالحديث عن جعل الأنداد، إلى أن يصل إلى الحديث عن الذين يقطعون ما أمر الله به أن يوصل في الآيات اللاحقة لهذه الآية "مثل البعوضة".

فالذين في قلوبهم مرض، لم يأخذوا بالكتاب كله فآمنوا ببعض الكتاب وكفروا ببعض واشتروا بآيات الله ثمنًا قليلًا، ثم إن الله أذهب نورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون، والسبب هو أنهم جعلوا لله أندادًا، ونتيجة لذلك وقعوا في الارتياب في الكتاب، ثم جاءت هذه الآية بالحق في أن الأنداد الذين تم تقديسهم فانحرف اتجاه الدين بسبب الاعتقاد بهم - بدرجة أعلى من البشرية - جاء الحق في قوله تعالى أنهم بشر وقدرهم عند الله كقدر البعوضة التي تحتقرونها وتسحقونها بلمسة يد.

سادسًا: كيف يُضَل بهذا المثل كثير من الناس؟
من لايؤمن أن حقيقة الإنسان في الخلق أمام الله كمثل أصغر وأضعف مخلوق - البعوضة مثلًا - فقد أضاع مقام الإنسان، وإضَاعة المقام هي إضاعة للحق بأسره، فحقيقة الانجذاب للحق مبنية على أساس أن يرى المؤمن أن القوة لله جميعًا، لا يشاركه فيها أحد، ولا ينازعه في مقامه أحد، فمن رأى أحدًا من الخلق أنه فوق الخلق وأعلى مقامًا منهم فقد افتتن به، وهذه الفتنة هي بداية إضاعة الحق، لأنها تتحول إلى تنازع في الكلمات، كلمة الله وكلمة ذلك المخلوق، وبصورة أدق فإن التنازع بين كلمة الله والكلمة المنسوبة لذلك المخلوق، والله عز وجل يريد أن تكون كلمته هي العليا في قلوب من أحبوه وآمنوا به، ولا ينازعها في ذلك المقام كلمات أخرى.

إذًا يُضَل كثير من الناس عن الهدى الذي هو في الكتاب ويقعون في الريبة فيه حين يعتقدون بوجود مخلوق بمرتبة أعلى من مقام المخلوق، فبذلك تتلوث قلوبهم بالندية، وترتدي النفوس رداء الكبر فلا يُنزلون أنفسهم منزلة الناس، ويقعون في وهم الميزة عن الغير، فلا يعتقدون أنهم سيحاسبون أمام الله مع بقية الناس بنفس الميزان، ولا يتبعون كلام الله حق الإتباع.

﴿ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ﴾ [27]

تتحدث الآية الكريمة عن الذين ضلوا حين لم يعترفوا بمثل - البعوضة - في خلق الإنسان، وتبيّن أنهم هم الذين " يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ" وعهد الله هو ما يكون بين المؤمن وبين كتابه المُنزل، وهم ينقضون ذلك العهد بالفسق حين ينسلخون من أحكامه وعقائده إلى أحكامَ وعقائد أخرى، ولقد نقضوا ذلك العهد من بعد ميثاقه، أي بعد أن عاهدوا الله على الالتزام به.

" وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ" وما أمر الله به أن يوصل هو أحكام الكتاب، وكان يجب عليهم إيصالها للناس، وهذا يُرشدنا إلى أنهم مسؤولون عن توصيل ماعلموه من الكتاب إلى الناس، ولكنهم قطعوا هذه الصلة، ومنعوا كلمات الله من أن تصل،وأوصلوا بدلًا منها أحكامًا أخرى.

" وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ" الإفساد في الأرض يكون بتبديل الدين وتغيير الأحكام، وهذا ما يؤكد مسؤليتهم في إيصال كلمات الله، ولكنهم اختاروا أن يُشِيعوا بين الناس أحكامَ وعقائدَ أخرى ما أنزل الله بها من سلطان، وهي نفس الصفة التي أشارت إليها الآيات السابقة حين تحدثت عن مرضى القلوب بأنهم اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مهتدين.

﴿ كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ﴾ [28]

الموت ليس هو العدم، فالموت يأتي بعد الحياة، ولقد خلق الله عز وجل الموت بعد نشأة المخلوقات، وبعد أن أوجد سبحانه الحياة، والآية تتساءل: "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً "؟ في إشارة واضحة إلى أن بني آدم كانوا قبل أن يوجدوا في هذه النشأة أمواتا، فإذا قلنا أننا كنا أمواتًا، فهذا يعني وجودنا في حياة أولى قبل هذه الحياة، وتلك التي يسميها القرآن بالنشأة الأولى، أما ما نحن عليه الآن فهي النشأة الثانية، فقد عشنا في حياة قبل هذه، ثم أماتنا الله، ثم أعاد إحيائنا هاهنا. على هذا الأساس يمكن أن نقرأ الآية : " كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً "؟

"ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ" وفي هذا المقطع تتحدث الآية الكريمة عن إعادة الإحياء مرة أخرى للبعث وللمحاسبة حين نرجع لله يوم القيامة.

الآية تتساءل في بدايتها: "كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ"؟ تعقيبًا على مثل البعوضة والتي هي تعقيب في الأساس على موضوع اتخاذ الأنداد! كيف تكفرون؟ باتخاذكم الأنداد وبرؤية أحدٍ بقدر أكبر من قدره، وأنتم تعلمون قدرة الله وتعلمون أنه هو الخالق ولا شيء يعادله؟! هو الذي أحياكم في هذه النشأة بعد أن كنتم أمواتا، وأنشأكم في أحسن تقويم من أجل عبادته والتوجه له، لا لغيره، ثم أنتم بعد ذلك تصرفون شيئًا من التوجه لغير الله. ثم تعقب الآية التالية لتعدد النعم التي منّ الله بها على الإنسان:

﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [29]

"هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً"، الآية تمنّ على الإنسان بالنعم العديدة التي أنعم الله بها على الإنسان، وفي الآية تقريع ضمني نفهمه في السياق، فإذا كان الله عز وجل هو الخالق وهو المنعم فلم تجعل - أيها الإنسان - لله أندادًا بالتوجه لغيره.

"ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ" بعد أن أخبر عن مافي الأرض، يتحدث على أن ما في السماء من ترتيبٍ للسماوات هو صنعه. ومن الممكن أن يكون معنى "سَبْعَ سَمَاوَاتٍ" سبع طبقات من الأسقف السماوية التي فوقنا التي نراها بالعين وتبدأ بطبقة الغيوم.

ثم تختم الآية الكريمة بقولها: " وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ " ليستشعر الإنسان أنه تحت علم الله وليس بعيد عنه حين استوى إلى السماء، فكل ما يحدث على الأرض أو في السماوات فهو بعلمه سبحانه.


مثل البعوضة

مثل البعوضة يدفع الإنسان لنكران الذات أمام الله، وذاته هذه تتجسد في شخصه وطائفته ورموزه من الأشخاص الذين يؤمن بهم على أنهم بشر غير عاديون، وهذا المثل له علاقة بتزكية النفس، فالذين يزكون أنفسهم لا يريدون أن ينكروا ذواتهم المخلوقة أمام الخالق، ولا يستطيعون النزول إلى حقيقة أنهم بشر ممن خلق، فهم في حالة استكبار على الآخرين، وهذه الحالة تقود إلى العمى والكفر والضلال.

للمثل علاقة بحزب الشيطان المستكبر - من البشر - الذي يريد أن يسيطر بالقوة ويتدخل في اختيار الآخرين وتوجهاتهم وآراءهم وخصوصًا في الدين، فيرفض نفسه على الآخرين واختياراتهم من خلال تزكيته لنفسه، ويتحدث على أساس أنه صاحب الرأي السديد، فيدفع المتبعين لله للتشكيك في اختيارهم وفهمهم، رغبة في السيطرة والسلطة بالرأي، في المقابل فالمؤمن لا يريد أن يسيطر على أحد ولا يريد أن يقهر أحد، وإنما يدعوا لله شفقة ورحمة بمن ابتعد عن كتاب الله.