مدونة حلمي العلق

سورة البقرة من آية 40 إلى آية 48

 | ayat | elbakara

﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ [40]

بدأ الخطاب يتوجه لبني إسرائيل بصورة مباشرة، ولهذه العناية بتوجيه الخطاب لبني إسرائيل أهمية ومعنى لأنهم هم الذين استقبلوا رسالة التوراة التي سبقت رسالة القرآن، ولأنهم يحملون مسؤولية الشهادة على رسالة القرآن، على أنها رسالة صادقة من عند الله ومصدقة لما بين أيديهم من التوراة. بدأت الآية بتذكيرهم بنعمة الله عليهم في إنزال الهدى في التوراة: ﴿يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ﴾ والذكر خلاف النسيان، والذكر المطلوب هو التأثر الذي يعقبه تمسك بالنعمة، وليس مجرد تذكر وجود التوراة في حوزتهم وبين أيديهم تذكرًا عقليًا لا تأثر بعده. والآية تدعوهم لتذكر نعمة الله التي أنعم بها عليهم، ولقد أنعم الله عز وجل عليهم بنعم كثيرة، منها أنه نجاهم من آل فرعون، وأنزل عليهم المن والسلوى، وجعل منهم أنبياء وملوكًا وآتاهم مالم يأت أحدًا من العالمين، ولكن أهم تلك النعم هي نعمة انزال التوراة عليهم.

﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾ عهد الله هو التوراة، والمسمى مأخوذ من ما يجب أن تكون عليه العلاقة بين المؤمن وبين ما ينزله الله من كلمات، هي علاقة عهد، فالإنسان إذا آمن بكتابه فقد عاهد الله على الالتزام به، ولذا يعقب ذلك الإيمان امتحان الصدق، فالإنسان يكون صادقًا حين يفي بعهده، ولا يكون الإيمان إيمانًا مالم يعقبه عمل، وذلك العمل هو بمثابة الوفاء بالعهد الذي عاهد المؤمن على الالتزام به.

أما عهد الله للمؤمن فهو بأن يوصله للهدى في الدنيا وأن يدخله الجنة في الآخرة، والله عز وجل يقول لبني إسرائيل ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ﴾ فعهد الله للمؤمن بالكتاب مشروط بالتزامه به، فإن وفّى بعهده وفّى الله عز وجل له ما يعِدُه به في الكتاب، ثم تختم الآية ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ ﴾ فعلاقة الإيمان لا تكتمل إلا بالرهبة التي تجعل من المؤمن متمسكًا بكتابه تمسك الخائف الوجل، فالعهد مع الله ليس كأي عهد.

﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ [41]

بعد أن ذكَرهم بنعمته الخاصة لهم بأن أنزل عليهم الكتاب والهدى، وبعد أن أمرهم بوجوب الوفاء بالعهد، جاء ليأمرهم في هذه الآية المباركة بالإيمان بالقرآن الكريم: ﴿وَآمِنُوا بِمَا أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَكُمْ وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ﴾ وفي هذا الخطاب احساس عميق بمخاطبة الله المباشرة بالخصوص لبني إسرائيل، يستشعره من كان يؤمن بالتوراة إيمانًا حقًا، فهذا الخطاب هو امتدادٌ لخطابه سبحانه لهم في التوراة، هو ذاته الإله الذي خاطبهم هناك عاد ليخاطبهم مرة أخرى هنا، وليحدثهم (هم) بالخصوص وبصورة مباشرة. ثم يؤكد ﴿وَلا تَكُونُوا أَوَّلَ﴾ لا يصح أن يبدأ الكفر منكم، فلديكم العلم بأن الله سيأتي برسول مصدقٌ لما معكم وهاقد صدق الوعد، فلا ينبغي لمن يكون لديه العلم من قبل هذا ويأتيه صدقه ثم يكفر به!

عندما ذكر كلمة ﴿أَوَّلَ﴾ التي سبقت كلمة الكفر هو بذلك إنما يُذَكرهم بمسؤوليتهم تجاه رسالة القرآن، فتصديقهم بالقرآن شهادة أمام الناس على صدق الرسول، إذ إن موقعهم هو موقع الأول، هم أول من يُسأل عنها، فلا ينبغي منهم أن يكونوا أول كافر بل الواجب عليهم أن يكونوا أول المسلمين.

﴿وَلا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ الآية تُحذر بين إسرائيل من أن يشتروا بآيات الله التي علموها من التوراة سابقًا ومن القرآن حاليًا علوهم ومكانتهم الدنيوية، ويشتروا بها بقاء سننهم التي ورثوها عن آباءهم، الآية تُحذرهم من أن يدفعوا الآيات ثمنًا لكل ذلك، وهذا يبيّن أن للآية قيمة لا تعدلها قيمة، وكل شيء في قبال الآيات هو ثمن قليل، فلاشيء يعدلُ الهدى، وعندما يَمِيل الإنسان إلى كل تلك المعاني الزائفة التي أولاها قيمًا عالية وينحاز لها عن الآية، هو بذلك إنما يشترى الرخيص بالآية غالية الثمن، وقد ختمت الآية بقولها ﴿وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ﴾ لأن التعامل مع الآيات لابد وأن يكون على أساس التقوى، وإن فُقد هذا العنصر لن يكون لتلك الآيات أيَ تأثيرٍ في حياة المؤمن.

ولقد جاء القرآن مصدقًا لما معهم من آيات التوراة مؤكدة على وجوب الالتزام بما أنزل الله وعدم تبديل أحكامه ولا عقائده بشيء آخر، وهذه الآية هي تأكيد على التأكيد الموجود في التوراة، فالتوراة ألزمتهم بآياتها، والقرآن جاء ليؤكد هذا الالزام، ولكنهم رغم نزول التوراة ورغم نزول القرآن أعرضوا عنه وواصلوا على التزامهم بالسنن وبما ألفوا عليه آباءهم.

﴿ وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [42]

وحتى يتحقق لهم شراء مكانتهم وعلوهم وما وجدوا عليه آباءهم بصورة شرعية أمام أنفسهم وأمام الناس قاموا يُلبسون الحق بالباطل، وهذا الفعل لا يقوم به إلا من قسى قلبه على آيات الله. في الأصل لا يَجد الباطل مكانًا ولا تأييدًا من آيات الله، ولكن الأهواء التي ترغب في إبقاءه تبحث له عن طريقة لكي يَثبت حتى يصبح وكأنه حق نازلٌ من عند الله، ولا سبيل لذلك إلا بأن يَلبس لباس الحق، وعملية التلبيس تلك تحتاج إلى قوة في العلم، ومرضى القلوب يوظفون تلك القوة لصالح الباطل بدلًا من أن يوظفونها لصالح الحق، فيُصبح الباطل حقًا - يَقبله الناس - أما الحق فيُخفى عن الأنظار حتى لا يتأثر به أحد ﴿ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ يكتمون الحق مع علمهم به، وتلك جريمة كبرى في حق الكتاب والناس.

﴿ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ [43]

الآية السابقة تأمرهم - بني إسرائيل - بالتطهر من أفعالٍ تُخالف مسؤولياتهم أمام القرآن والناس، وهذه الآية تأمرهم بأمر الدين الأساسي وهو إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة، وهذا الأمر ليس أمرًا جديدًا ولكن الجديد فيه هو إقامة الصلاة بقيمها الحقيقية التي تُطهرهم من دنس التكبر وإيتاء الزكاة الذي يُبعدهم عن التعالي على الحق، ثم تؤكد على قبول الآخرين في الدين بأن يكونوا أفرادًا متعايشين مع المؤمنين الذين اتصفوا بالركوع ﴿وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾ فأنتم وبقية الراكعين سواء، لا امتياز لكم عنهم في شيء.

﴿ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾ [44]

الآية تتحدث عن دورهم الريادي في توجيه الناس نحو الله والدين والصلاح ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ ﴾ البر هو الوفاء للمعطي والمنعم بما هو حق له، كما يقال بر الوالدين والذي يَعني الوفاء لهما لأنهما يستحقا ذلك لما قدموه من تربية الإبن في صغره، أما أمر الناس بالبر فهو إشارة إلى توجيه الناس نحو الله ونحو الدين، فالالتزام بالدين كما ينبغي والاستجابة لأوامره هو البر لله عز وجل.

والآية تكشف خلوهم من تطبيق ما يأمرون به الناس حيث تستدرك بقولها ﴿وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ ﴾، ونسيان النفس من استقبال تلك المواعظ وتنفيذها وتطبيقها، وذلك النسيان نابع من اعتقادهم الباطل في أنفسهم بأنهم أعلى من بقية الناس وظنهم أنهم الأقرب إلى الله ذلك لكونهم أهل كتاب ولأنهم هم الأدرى بعلوم الدين، وهذا الاعتقاد الباطل في أنفسهم أفسد توجههم السليم نحو الله، فلم تعد المواعظ تعنيهم، ولذا ختمت الآية السابقة بقولها ﴿ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾، لإلغاء ذلك الامتياز من قلوبهم، وليعلموا أن الركوع لله واحد من قبل الجميع، وأنتم لا تمتازون بشيء عن غيركم.

ثم تكمل الآية الكريمة ﴿ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ﴾ لتكشف شيئًا أبعد من نسيان النفس في الموعظة وهو الوقوع في أخطاء تخالف الكتاب، وتكشف ذلك بطرح التساؤل، كيف تقعون فيما لا يصح أن تقعوا فيه وأنتم تأمرون الناس بالبر وأنتم تتلون آيات الله؟! والمقصود بالكتاب هو التوراة التي كانت بين أيديهم. الآيات هي خير واعظ لقارئها وخير معدّل لسلوكه وخير مصحح لأفكاره وعقائده عن نفسه وعن الآخرين، والآية تتساءل: كيف لا يكون لتلك القراءة أي تأثير وأي تطبيق في الواقع ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ ﴾؟ قليل من التعقل يعيدكم للرشد الذي يجب أن تكونوا عليه، ويصحح علاقتكم مع كتاب الله.

﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ [45]

ما يقدمه الإنسان من صبر على أي امتحان يمر به الآن يحصد ثماره الآن ولاحقًا، وحين يصلي الإنسان ويتقرب لله بالصلاة الآن ستكون عونًا له في الشدائد الآن ولاحقًا، فالصبر والصلاة هما عملان تراكميان، فبمقدار ما يقدم الإنسان من ثبات في مواقف الصبر تكون له القوة على المواقف الأكثر شدة، وكذلك في الصلاة، والآية تأمر بني إسرائيل ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ ﴾ بعد أن أمرتهم سابقًا بإقامة الصلاة في الآية قبل اللاحقة، تعيد هنا الأمر بالصلاة في موضوع العون، فإذا كانت تلك الصلاة - في آية [43] - تعني الصلاة الواجبة، فالحديث في هذه الآية عن حاجة المؤمن للصلاة للثبات في المواقف، وخصوصًا المواقف الإيمانية التي تشتد فيها الفتن وتتطلب من المؤمن أن يميّز فيها بين الحق والباطل.

﴿ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ ﴾ الصلاة كبيرة في تنفيذها، فهي ثقيلة لا يرغب فيها ولا يقبل عليها ضعيف الإيمان، على الرغم من أن أفعالها بسيطة، والذي يرفع ثقل تلك الصلاة هو الإيمان الحقيقي حين يصل المؤمن لدرجة الخشوع، وتعرف الآية التالية ذلك الخشوع بقولها:

﴿ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ [46]

هذه الآية المباركة تصف حالة المؤمن أثناء الصلاة، فهو يشعر أنه في لقاء حقيقي مع ربه، ﴿ مُلاقُو رَبِّهِمْ ﴾، وكلما اقترب المؤمن من هذا الشعور كلما كانت الصلاة عليه محببة وليست ثقيلة، ﴿ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ راجعون لله في يوم الحساب في يوم القيامة.

جاء وصف هذا الشعور بالظن ﴿الَّذِينَ يَظُنُّونَ ﴾ وهذا الظن ليس هو الشك الذي يداخله الارتياب، بل هو مرتبة من مراتب اليقين، فلقاء الله في الصلاة هو لقاء مع الغيب والمؤمن يظن أنه في لقاء مع ربه، كما قالت الآية ﴿ إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسَابِيَهْ ۝ فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ ﴾ الحاقة [20]-[21]، فظنه بملاقاة الحساب يوم القيامة جعله من العاملين لذلك اليوم فكانت عاقبته إلى خير.

وقد استخدمت الآية لفظة "الرب" في هذا اللقاء لأن الربوبية تعني الرعاية واللطف والإنعام، وما يوجه المؤمن للشعور بهذا اللقاء هو شعوره بربوبية الله، فيصرف كل ما يلقاه من رعاية ونعم له عز وجل. ولذا يكون أحد مضامين الصلاة هو الشعور بالامتنان للمنعم والحاجة الدائمة له ولرعايته.

﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾ [47]

﴿ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ تعاود هذه الآية الخطاب لبني إسرائيل الذين هم حملة كتاب الله (التوراة) بتذكيرهم بنعمة الله عليهم بهذا التفضيل العالمي ﴿ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾، وهذا التذكير يشير ضمنًا إلى ضرورة الحفاظ على هذه النعمة بتطبيقها ونشرها بين الناس، لا الاكتفاء بالتفاخر والتباهي بها، فذاك هو مزلق الشيطان الرجيم نحو هاوية الأنا والتكبر والتعالي على الناس باسم الكتاب والامتياز بنعمة الله، فنعمة الله تكليف قبل أن تكون تشريف.

﴿ اذْكُرُوا ﴾ أمر يشمل في مضمونه الدراسة التي تعني فهم حقائق الكتاب بعناية بالتفكر في جميع أبعاد الأمر وجميع زواياه، ثم تذاكر تلك الحقائق والذي يعني المداومة على ذكرها على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي بأن يتم تداول مواضيع الكتاب ومفاهيمه، والذكر لابد وأن يترك أثره في القلب وفي النفس، فترى الذاكر منشغلٌ على الدوام بذكره حتى يكون نتاج ذلك التطبيق العملي، فتكون سلوكيات المؤمن والجماعة المؤمنة هي تجسيدٌ حقيقي للكتاب.

﴿ نِعْمَتِي الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ ﴾ لقد أنعم الله عز وجل على بني إسرائيل بالتوراة فأصبح بين أيديهم كلام الله وأوامره البيّنة الواضحة خاصة من دون الناس، وهذا يُحمِلهم مسؤولية تبدأ بالتذاكر والتطبيق وتنتهي بتوصيل ذلك الخير للناس، وهذا تفضيل من عند الله لهم إن هم أدوا حق هذه الأمانة كما يجب ﴿وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ﴾

﴿ وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ [48]

الآية تشير ضمنًا إلى فساد العقيدة لدى بني إسرائيل حين نزول القرآن، ومن ملامح ذلك الفساد هو اعتمادهم على الشفاعة يوم القيامة أو اعتمادهم على نيل الجزاء من أحد غير الله عز وجل، وكل عقيدة مخالفة لكتاب الله تُؤثر سلبًا على التعلق الصحيح بذلك الكتاب وعقائده وحقائقه.

﴿وَاتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً ﴾ التقوى تجعل الإنسان في حذر وخوف من أن يقترف ذنبًا أو يخالف أمرًا من أوامر الله، والآية تُذكر باليوم الآخر في قولها ﴿ وأتقوا يومًا ﴾ ، وفي ذلك اليوم لا تجزي نفس عن نفس شيئًا، فلو خالفت نفسٌ أوامر الله، لن تتمكن نفس أخرى من إنقاذها من ذلك الموقف، بأن تجزي عنها شيئًا، والجزاء هو مقابل لعمل، والأنفس يوم القيامة كلها مدانة لله عز وجل.

﴿وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ ﴾ لن تقبل الشفاعة إلا لمن أذن الله، والاعتماد على الشفاعة على مبدأ عدم التقوى لن يكون له اعتبار في ذلك اليوم، والمعتقدين بحتمية النجاة بواسطة الشفاعة يعتمدون على شفعاء لهم مكانة عند الله في أن يكونوا سببًا في يوم القيامة لتجاوز ذنوبهم ودخولهم الجنة رغم قلة أعمالهم الصالحة وكثرة سيئاتهم، وهذا يؤثر سلبًا في توجههم الصحيح نحو الله ويؤدي إلى تهاونهم في اقتراف الذنوب، ويضعف إرادتهم في الإقلاع عنها.

﴿ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ العدل هو ما يشبه عتق الرقبة ولكن من النار مقابل مايملك ذلك المأخوذ بجرمه، ومهما يكن مستواه المادي - كما قد يعتقد - فلن يسمح بذلك العدل، فالعدل هو أخذ ما يعادل تلك الخطيئة، وهو ما يحدث في الحياة الدنيا بأن يفتدي الغني بماله من أي سوء قد يحدث له، ثم تختم الآية بقولها ﴿ وَلا هُمْ يُنصَرُونَ ﴾ وفي هذا نفي مطلق للنصرة يوم القيامة، والنصرة تأتي بعد استغاثة المنتصر مما وقع عليه، فقد ينادي - مثلًا - أغيثوني ، أو انصروني، أو هل من أحدٍ ينصرني من العذاب؟ أو من الجزاء الذي أواجهه؟ فلا يجد جوابًا ولا يجد له ناصرًا! والكلمة في حد ذاتها تُشعر المتأمل بحجم الخذلان والحسرة التي قد تنتاب المذنب في ذلك اليوم إذ كان ينتظر نصرةً من أحد لكنه يُفاجأ بفقدان الناصر وانقطاع السبيل والحيلة.


موقع هذه الآيات في السياق

جاءت هذه الآيات المباركة بعد الحديث عن قصة خلافة الإنسان في الأرض، وسورة البقرة المباركة بدأت الحديث عن الإيمان ثم مرضى القلوب وبعدها تطرقت إلى قصة الخلافة، والآن تنتقل للحديث عن بني إسرائيل،وهذا الانتقال له دلالة مهمة في مسيرة الإسلام التي أعاد إحياءها نبي الله إبراهيم (ع).

الحديث عن ملة إبراهيم الذي سيأتي نهاية الجزء الأول في السورة المباركة بدأ من هذا المقطع المبارك، وبدأ الحديث بالخطاب لبني إسرائيل، كونهم أبناء إبراهيم من سلالة يعقوب (ع)، فهم الفرع الأول لنبي الله إبراهيم، أما بني إسماعيل فهم الفرع الثاني من سلالة إبراهيم وبالتالي هم الفرع الثاني من الملة، وعليه فهم - بني إسماعيل - مُخاطبون بصورة ضمنية في هذه الآيات، ففي سلالة إبراهيم من فرع إسماعيل تتحقق دعوة إبراهيم الخليل في أن يبعث في هذا البيت رسولًا يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة كونه من أبناء إسماعيل (ع)، وإليها تنتقل مسؤولية الملة وإمامة البيت وإمامة الدين التي وعد الله عز وجل أن يؤتيها للصالحين - غير الظلمة - من أبناء إبراهيم الخليل.

أهل الكتاب والتعالي

الآيات تشير إلى تعالي وتكبر بعض أهل الكتاب، فهم يشعرون أن وجود الكتاب السماوي بين أيديهم هو ميزة يمتازون بها عن غيرهم، فبوجوده في حوزتهم يرون أنفسهم أنهم المرجعية الدينية الأولى، وبهذه النظرة تحول اعتقادهم في أنفسهم إلى أنهم مختلفون عن غيرهم، ويشعرون بالمجد والعلو على بقية الناس، لأنهم مصدر الحقائق الغيبية، لذا فهم فوق المحاسبة! وعليه فهم لا يشعرون بضرورة محاسبة أنفسهم!

هذا ما تكشفه وتصححه آية ﴿ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ ﴾ في عمق أولئك المتكبرين، فهي تقول لهم ضمنًا أنتم مُحاسبون مثلكم مثل الآخرين، وهو ذاته الذي أشارت إليه الآية التي سبقتها بقولها ﴿ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ ﴾، إذ إن صفة المتدين المتعالي هي أنه يريد أن يركع لله دون الاعتراف ببقية الراكعين، ليكون لركوعه ميزة واقتراب من الله لا يصل إليها - حسب معتقده - أحد! فلا مكانة لأحد كما هي مكانته! هي ذاتها مشكلة إبليس الذي كان يسجد لله على الدوام ولكن حين امتُحن في إلغاء ذاته من خلال الأمر بالسجود لآدم فشل في الامتحان، وتبين بهذا الفشل أنه كان يعبد ذاته بدلًا من أن يعبد الله في كل الفترة التي سبقت فتنة آدم. المؤمن الحق يلغي ذاته ليمجد الله ويعبده، ويشعر أنه مدان لكتابه بالتطبيق والتوصيل، ويتعبد لله بالآيات، لا أنه يرفعها شعارًا زائفًا ليمتاز بها على الناس.