سورة البقرة من آية 49 إلى آية 57
| ayat | elbakara﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ [49]
تبدأ هذه الآية المباركة بتذكير بني إسرائيل الذين هم في زمن الرسالة ونزول القرآن بنعمة كبيرة أنعمها عليهم ويعرفونها، وهي النجاة من آل فرعون، وهم ذرية فرعون الذين كانوا يتحكمون في بلاد مصر فترة موسى (ع) ويسيطرون عليها.
﴿ وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ﴾ الآية تعطف على الوصايا الربانية التي ذكّرَها الله عز وجل بهم في الآيات السابقة: "وإذ" تُحِيل عقل القارئ لحدث في زمن سابق للحدث الحالي التي تتحدّث فيه الآيات، والمعنى أنه في ذلك الزمان السابق "نجيناكم من آل فرعون"، والنجاة تكون من العذاب أو الهلكة أو العقاب الشديد الذي يسعى الإنسان للخلاص منه. وفي العبارة إحساس يعلمه بنو إسرائيل في أن تلك النجاة لم تكن لولا أن منّ الله عز وجل عليهم بإرسال نبي الله موسى (ع)، فهو الذي أخرجهم من سيطرة آل فرعون عليهم، ورغم لحاق الجُند بهم إلى أن وصلوا إلى البحر، إلا أنه لم يتمكن منهم، وقد كان قوم موسى يشعرون بأنهم مُدركون من قبل آل فرعون، إلا أن الله عز وجل شق البحر لهم فأخرجهم من ذلك اللحاق وخلّصهم من عَدوهم الذي كان يستهدف إذلالهم ثم قتلهم.
﴿ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ﴾ السوم هو التعريض الدائم للشيء، و في استخدام هذه الكلمة دلالة على أنهم لم يكونوا يتعرضون للعذاب وحسب، بل إنه كان عذاب سيء ومستمر، وهذا يُعطي دلالةً على أن ذلك العذاب وذلك التنكيل كان مقررًا عليهم من قبل آل فرعون، ثم تشرح الآية قِسمًا من ذلك العذاب السيء بِقولها ﴿ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ ﴾، والذبح هو فصل الرأس عن الجسد، وهذا الفعل كان يحمّل بني إسرائيل الألم الشديد، فابناءهم تُقَتّل أمامهم ذبحًا بدون ذنب، والهدف فقط هو القضاء على نسل هذه الطائفة، وفي وصف الآية "يُذِبحون" بتشديد حرب الباء، دلالة على شدِةِ ما كان ينالهم، فالفعل يتم بالملاحقة والمتابعة والتنكيل، والله عز وجل يمنُّ عليهم أن خلصهم من ذلك العذاب، ولولا فضل الله عليهم لانقطع نسلهم ولانتهت الطائفة.
﴿ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ ﴾ استحياء النساء هو انتهاك لحشمة النساء وحيائهن، ذلك لأن الآية تذكر ما كان يتعرض له بنو إسرائيل في زمن فرعون، وذكَرت بتذبيح الأبناء، وهنا تضيف استحياء النساء، والذي يعني أن هذا الفعل هو إساءة أخرى تضاف إلى الإساءة الأولى، لذا سيكون استحياء النساء له علاقة بالاعتداء عليهن، وتختم الآية بقولها : ﴿ وَفِي ذَلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ﴾ البلوى امتحان يمر على الإنسان بالمصاعب المكروهه على فترة من الزمن ليتم اكتشاف مدى صبره عليه، ولم يكن بنو إسرائيل في بلاء وحسب، بل كانوا في بلاء عظيم، فالقتل والإعتداء على النساء ليس بالأمر الهين على الإنسان، فكيف به إذا كان لسنوات طويلة، وبتعمد وتنكيل مستمرين؟! ونلحظ أن الآية الكريمة بيّنت أن هذا البلاء من رب العالمين، والذي يعني أن الله يمتحن هؤلاء القوم لأمر ما، فالأمر تم بإذن الله، وكان خاتمة هذا البلاء أن أنقذهم الله عز وجل من هذا العذاب وأغرق آل فرعون أمام ناظرهم.
﴿ وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمْ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ [50]
مرة أخرى تذكّر الآية بني إسرائيل بحادثة فلق البحر حين هروبهم بقيادة نبي الله موسى من آل فرعون، وقد ذكرت في سور أخرى في القرآن. ألفاظ الآية ترسم صورة انفلاق ذلك البحر، "وإذ فرقنا بكم البحر" التعبير اللفظي هو أن الله فرق البحر بهم، أي بواسطتهم، فهذه الألفاظ توحي أن البحر كان ينفلق بالتدريج أثناء تقدمهم، فكلما انفرج جزء منه ومشوا فيه، انشق الطريق أمامهم، وهو ما يشعر بالتزامن الحركي أو المصاحبة بين التقدم والانفلاق، ولهذا التقدم احساسه من الرهبة والرعب يمازجه التحفز للتقدم خوفًا من إدراك فرعون وجنوده.
"فأنجيناكم" نتيجة لذلك التقدم السريع قبل إدراك فرعون لهم، تقدموا حتى وصلوا إلى البر من الجهة الأخرى من البحر، فنجوا من فرعون، وفي المقابل أغرق الله عز وجل فرعون وجنده، فقد لحقوا بهم في الطريق الذي شقه الله لهم في البحر، غير مكترث بهذه الآية التي تتمثل أمام أعينهم جميعًا، فأخذه الغرور وتقدم للحاق بهم، ولكن الله عز وجل أعاد الماء ليلتقي من جهتيه ويطبق عليه وعلى جنده ليغرق ويموت شر موتة.
حين تقول الآية "وأنتم تنظرون" فهي تعطي صورة أن بني إسرائيل وصلوا إلى الجهة الأخرى من البر، وتوجهوا بأنظارهم إلى فرعون وجنده فرأوا أن الماء عاد إلى سابق عهده، فنظروا إلى هذه الواقعة والماء يبتلع فرعون وجنده، ليروا بأنفسهم كيف أن الله أهلك عدوهم أمام ناظريهم، الأمر الذي يؤكد لهم أن لا يمكن لأحد فعل هذا إلا الله عز وجل.
﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [51]
يتواصل التذكير بالمنن التي اختصها الله عز وجل لبني إسرائيل، والتذكير في هذه الآية يُعرض بأسلوب المفارقة بين ما فعله الله لهم، وبين ردود أفعالهم التي لا تليق بمنن الله وكرمه، وهنا تذكير بالانقلاب السريع من قبلهم والتوجه لشيء ما أنزل الله به من سلطان فقط بسبب غياب نبي الله موسى (ع) عنهم فترة قصيرة من الزمان، على الرغم من علمهم بأنه في مواعدة مع الله ﴿ وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ﴾ إلا أنهم نسوا هذه المواعدة، وتمكن منهم شعورهم بغيابه عنهم.
﴿ ثُمَّ اتَّخَذْتُمْ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ ﴾، "ثم" تشير لتعاقب حدث من بعد حدث أسبق، وقوله تعالى "من بعده " أي من بعد غياب موسى ولا تحديد للمدة التي بعدها كان ذلك الإنقلاب، وتَمثل ذلك الانقلاب في اتخاذهم العجل، وهو الذي يعني اتخاذهم إياه إلاهًا، ظنًا منهم أنه إله موسى، أو أنه يجسد صورة لإله موسى (ع)، ﴿ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ ﴾ أي اتخذتم العجل وأنتم في حالة من الظلم، لأنهم لو اتخذوا شيئًا بأمر من عند الله، فلا ظلم في ذلك، لكنهم ذهبوا لابتداع أمر في الدين لم يأذن به الله.
﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ [52]
بعد مدة من الزمان "ثم" كان العفو منه سبحانه وتعالى عنهم، رغم ما كان منكم من الظلم في اتخاذ العجل بعد غياب موسى عنكم، ويلفت النظر صياغة الخطاب الرباني لهم بصيغة الجمع لذاته المقدسة ﴿ ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ ﴾، الأمر الذي يشعر المستمع بعظمة الخالق ورحمته وصغر المخلوق وضآلته وكثرة خطاياه، وما كان منه عز وجل بعد ذلك الخطأ والوقوع في الظلم إلا أن عفا عنكم لغاية ترتجى وهي الشكر ﴿ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾، والشكر هو العمل الذي يقوم به المؤمن مقابل نعم الله، ونعمة العفو هذه توجب على الأجيال اللاحقة لبني إسرائيل أن يعملوا الصالحات لعلهم يبلغوا شكرها.
﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ [53]
ولحق ذلك العفو من لدنه عز وجل أنه في حين من الأحيان آتى موسى الكتاب الفرقان رجاء هدايتكم إلى ما يأمر الله به، ﴿ وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ ﴾ والمقصود بهذا الكتاب هو التوراة التي جاء بها موسى عليه السلام من بعد غيابه أربعين ليلة مكتوبة في الألواح، وقد حوت على الفرقان، أي ما يفرق به المؤمن بين الحق والباطل، والتي يحكم بها على الخلاف الذي قد يحدث أو حدث بالفعل بين بني إسرائيل في ذلك الزمان، فجاءت التوراة لهم بالهداية والحكم الفصل.
وقوله تعالى: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ ففيه رجاء أن يحدث كتاب التوراة الهداية لبني إسرائيل، والأمر متعلق بمدى ارتباطهم به، والأخذ بما جاء فيه، فوجود الكتاب في حد ذاته لا يؤدي للنتيجة المرجوه، إلا إذا اجتهدوا وتمسكوا به. والآية تخاطب بني إسرائيل بشكل مباشر بقولها ﴿ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾.
﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [54]
تنتقل هذه الآية المباركة لنقل صورة على لسان نبي الله موسى (ع) ﴿ وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ ﴾، توجه موسى (ع) إلى قومه، فقال : "ياقوم"، وهذه صيغة تعبر عن الرابطة التي تربطه بهم، وفيها إشفاق ورحمة، وتلفت نظرهم للأمر الذي سيوجهه لهم، ﴿ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمْ الْعِجْلَ ﴾، إنكم حين اتبعتم إضلال السامري وتوجهتم للعجل بالعبادة ظلمتم أنفسكم، فيتوجب عليكم أن تتوبوا إلى الله ﴿ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ ﴾، وقد عبر عن الله بالبارئ، وهو اسم له علاقة بخلقة الإنسان، وهي كلمة توضح مدى صغرهم وعظمة من ظلموا أنفسهم فيه، فقد انحرفوا عن هذا الذي أوجدهم من العدم، وتفضل عليهم بالوجود.
ثم يوضح لهم موسى كيف تكون تلك التوبة ﴿ فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ﴾
﴿ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمْ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ ﴾ (55)
﴿ ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ (56)
﴿ وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمْ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ (57)
كيف كان يستقبلها بني إسرئيل، هذه القصص والحكايات عن ماضي بني إسرائيل قد لا يعلمه العرب، وإنما هي محفوظة في تاريخهم، وكتبهم ، ويعلمون جيدًا مافعل الله لهم كي ينجيهم من آل فرعون، فكيف بهم الآن وهم يسمعون هذه الآيات تتنزل على النبي محمد (ص)، لا شك أنهم يشعرون أن الله عز وجل هو الذي يحدثهم في هذه اللحظات، ولذا فإن هروبهم من الإيمان بهذه الرسالة كان واضحًا.
للحظات الغرق التي رأوها أمام ناظريهم أهمية في كونهم رأوا آيات تجعل منهم ينقادون إلى أوامر الله دون اعتراض، وسيكونون بعد ذلك حملة لكتاب الله.
لقد عاش بنوا إسرائيل في هذا الموقف آية ربانية يجب أن تبقى راسخة في أذهانهم إلى يوم الدين، تجعلهم في زمانهم يؤمنون برسالة موسى، ومتمسكون بكتابهم في كل زمان.
الله عز وجل في هذه الأثناء يخاطب بني إسرائيل الذين هم في زمن رسالة النبي محمد بمنه عليهم بالنجاة من فرعون.
نتساءل كيف يكون من قوم موسى أن ينقلبوا لاتخاذ العجل فقط لغياب موسى فترة وجيزة، وما دلالات هذا؟
هل لو كان موسى معهم تجرأوا على هذا الفعل؟ ما الذي يمثله موسى لهم؟ غياب موسى كأنه غياب للإله، ارتباط الألوهية بالرسالة في عقيدة الإنسان.
هذه التجربة التي شاءت القدرة الإلهية أن تجريها على شعب بني إسرائيل تمثل نموذجًا مختصرًا لحقيقة الأمم مع رسلهم، فهي في حياته لا تولي هذا الرسول أي أهمية في الطاعة، ولكن سرعان بعد غيابه وبعدة أيام، ما ينقلب الأمر ليتحول شخص الرسول إلى شعار يمكن استغلاله لإحراف الناس.
وسرعان ما تظهر الشخصية التي تستغل اسم الرسول من أجل توجيه أتباعه في اتجاه آخر، ولنا أن نتساءل: ما الذي يدفع هذه الشخصيات لابتكار آلهة مصنوعة يتوجه لها الناس؟
يصعب على الناس التعلق بالغيب، ويحبون اللجوء إلى الماديات، وهذه الشخصيات تهوى موقع الرسول، فتتخذ من هذه الرغبة وهذا الجنوح وسيلة للسيطرة على الناس، واتخاذ موقع الرسول من خلال الآلة المصطنعة.
هل كان انقلاب أصحاب موسى بعد ثلاثين ليلة ؟