مدونة حلمي العلق

سورة البقرة من آية 63 إلى آية 75

 | ayat | elbakara

﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [63]

يذّكر الله عز وجل بني إسرائيل الذين عاصروا نزول القرآن الكريم، بميثاق آبائهم الذي كان مع موسى (ع)، وقد أخذ منهم الميثاق في حادثة يذكرها الأجيال اللاحقة حين رُفع جبل الطور فوق رؤوسهم ﴿ وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ ﴾ ، الآية المباركة تخاطب الحاليين منهم - في زمن الرسالة - بما أُخذ من السابقين منهم، وفي المشهد صورة ترتعد لها الفرايص، فرفع الجبل يعني اقتطاع جزء منه للأعلى وبقاءهم أسفل منه، وهو أمر ليس بالذي يمكن أن يتصوره إنسان، فكيف بمن يعيش اللحظة، ففيه من الخوف مافيه.

في تلك اللحظات أُخذ من بني إسرائيل عهدهم وهو أن يتمسكوا بما أنزل عليهم ﴿ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ ﴾، وما آتاهم الله عز وجل هو التوراة، ففيها أوامره البينة، وعهدهم مع الله في ذلك الموقف هو أن يأخذوا كتابهم بقوة، وأن يستمروا بتذاكره حتى لا تختفي حقائقه من صدورهم ﴿ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ لعلهم يصلون بذلك التذاكر إلى التقوى التي يريدها الله منهم.

﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ ۖ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [64]

﴿ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ ﴾ أي توليتم عن هذا العهد الذي عاهدتموه حين رفع جبل الطور فوق رؤوسهم، والآية تخاطب الحاليين من بني إسرائيل عن أفعال الماضين كونهم امتداد لهم، وعلى الرغم من هذا التولي إلا أن الله عز وجل لم يحرمهم وشملهم برحمته، وأهمها بقاء التوراة بين أيديهم، ﴿ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ وقوله تعالى "لكنتم من الخاسرين" يدل على أن فرصتهم في البقاء في رحمة الله لازالت قائمة لحين نزول القرآن الكريم، وماهذه الآيات إلا رحمة لهم ليعودوا إلى طريق الرشاد.

﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ [65]

﴿ وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ ﴾ ثم يذكرهم سبحانه بما كان من أمر أصحاب السبت، وقد ذكرتهم آيات أخرى وبينت البلاء الذي بلاهم الله به حين أمرهم بعدم الاصطياد في يوم السبت، وكانت محنتهم أن الأسماك كانت تأتيهم في اليوم الذي منهم الله من الاصطياد فيه، ولقد رأى بقية بني إسرائيل كيف فعل الله بأولئك الذين تجاوزا أمر الله واعتدوا في السبت، ﴿ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ ﴾ حيث حولهم الله عز وجل إلى قردة خاسئين، وفي هذا إهانة لمن لم يمتثل أمر الله، ويستهزئ بها ، وفي هذا إشارة إلى عظم الاستهزاء بكتب الله السماوية، فإذا كان عقاب من خالف أمر من أوامر الله أن خسف إلى قرد، وأصبح من الخاسئين، فكيف بمن يخالف أوامر الله في كتابه المنزل؟!

﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾ [66]

ولقد جعل الله عز وجل ذلك الخسف بتلك الفئة المخالفة سيرة لمن بعدهم لعلموا كيف يكون عاقبة تلك المخالفة، وقد استخدمت الآية للتعبير عن ذلك كلمة "النكال"، لأن الموقف فيه تنكيل، وهو العقاب البارز الذي يستشعر فيه صاحبه عاقبة فعله، وهو نفسه الذي يردع غيره من الاقتراب من نفس الفعل مرة أخرى لذا قال الله عز وجل ﴿ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا ﴾ أي جعلنا ذلك الخسف سيرة يعرفها من عاصر تلك الحادثة، فمنه يعلموا كيف نكل الله بهم؟ وكيف سيكون مآل من يحذوا حذوهم، وكانت تلك الحادثة رادعًا للقرى القريبة التي علمت بهم، أي بقية قرى بني إسرائيل في ذلك الزمان ﴿ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا ﴾، وكذلك لمن جاء من بعدهم ﴿ وَمَا خَلْفَهَا ﴾ ممن لا يعرفون ما حقيقة أن يخالف أحد أمر الله، وكذلك هي ﴿ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ ﴾.


(وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ ۖ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ * وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ * فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ)
[سورة البقرة 63 - 66]

(وَإِذْ قَالَ مُوسَىٰ لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً ۖ قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا ۖ قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ)

بأمر من الله أمر نبي الله موسى قومه أن يذبحوا بقرة على قضية ستحددها الآيات التالية، فكان ردهم عليه: أتتخذنا هزواً، فرد: أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين، وفي رده إشارة واضحة على أن اتخاذ الناس هزواً إنما هو فعل الجاهل، والجهل سلوك يظهر في التعامل مع الناس، كما تشير آية أخرى في قوله تعالى (يحسبهم الجاهل أغنياء من التعفف)، والإيمان قائم على الحقائق في عالم الغيب والشهادة والتعامل على أساسها لا على أساس الجهل! لذا فإن المؤمن يستعيذ بالله منه كما استعاذ منه نبي الله موسى.

(قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَٰلِكَ ۖ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ)

( قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا ۚ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ)

(قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ)

(قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا ۚ قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ ۚ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ)

لكن بنو إسرائيل استغرقوا في تفاصيل البقرة المراد ذبحها، في ماهيتها ولونها ومايميزها عن غيرها، وطالبوا بالتفاصيل حتى لا يقعوا في التشابه، وحين تعقدت صفاتها قالوا الآن جئت بالحق، وكأنهم يفهمون أن الحق ملازم للتعقيد، فذبحوها وما كادوا يفعلون.

كان الأمر الأول كاف لينفذ، وحين طلبوا التفصيل جاءهم التفصيل وقيل لهم فافعلوا ما تؤمرون، وتتضح المشكلة هنا في التباطؤ في التنفيذ، والتلكؤ بطلب التفاصيل.

(وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا ۖ وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ)

هنا تبين الآية أن أصل المشكلة في أنهم قتلوا نفساً فتدارؤوا فيها أي أنهم لم يفصحوا عن القاتل مع علمهم، ولكن الله مخرج هذا الكتمان بهذه البقرة.

( فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا ۚ كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ)

فأمر الله سبحانه وتعالى أن يضربوا الميت ببعض من البقرة بعد ذبحها، وهنا آية هي أن يتم ضرب ميت بميت ليحا من بعد موته مرة أخرى ويشير للقاتل.

(ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً ۚ وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ ۚ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۗ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ(74))

عدم الإذعان لتلك الآية هو الذي قاد إلى قسوة القلب، الآية تقول "ثم" أي بعد تلك الحادثة حصلت قسوة القلب نتيجة لعدم تراجعهم عن طبائعهم بعد مشاهدة الآية، والله هنا يشبه قساوة قلوبهم بالحجارة، بل أشد من الحجارة في قساوتها.

لين القلب هو أحد أهم غايات الدين، ولايمكن للتعاليم الربانية أن تثمر في قلب قاس.


خذوا ما آتيناكم بقوة

ولكلمة القوة دلالتها، فقد يتهاوى التمسك بالكتاب حين تضعف العلاقة معه،

فتقوى الله لا تتحصل إلا بالتذاكر المتواصل، والتعلق به تعلقًا شديدًا.


خاطرة في سورة البقرة

يورد القرآن الكريم في بدايات سورة البقرة مشكلة وقع فيها بنو إسرائيل في تعاملهم مع أوامر الله حين أمرهم نبي الله موسى بذبح بقرة، وحضور هذه الحادثة في بداية الكتاب لها دلالتها وتأثيرها على المؤمن الراغب في فهم آياته وتطبيق أوامره والاستسلام لها، بحيث ينطلق في الأمر على أنه خير يجب المسارعة فيه، لا على أنه لغز يجب كشف أسراره أو البحث في تفاصيله.

وبغض النظر عن التفاصيل التي تحكيها قصة بقرة بني إسرائيل، إلا أن أحد معانيها يمكن اختزاله في رسم العلاقة العكسية بين سرعة تنفيذ الأمر وبين كثرة الأسئلة الفاحصة للأمر على أنهما على طرفي نقيض، فمن يسارع في التنفيذ يطبق المستوى الأول من الأمر والفهم ولايبحث في طياته عن التفاصيل المنهكة والمعطلة. والعكس صحيح فالبحث عن التفاصيل هو وسيلة هروب عن التنفيذ السريع والمباشر. وقد كان الأمر في قضية بني إسرائيل في بدايته كافياً محققاً للمطلب، ولو نُفذ لكان مقبولاً حتى لو لم تكن البقرة صفراء فاقع لونها تسر الناظرين، ولكنهم استقبلوا الأمر ببساطته بقولهم " أتتخذنا هزواً" ، وحين تعقد الأمر قالوا " الآن جئت بالحق"، وهكذا فالبساطة لا تعني غير التفاهة بالنسبة لهم أما التعقيد فيعني لهم أنه أمر جاد.

مستقبل الأمر يسارع لأنه عبد يقبل أن يتجاوز الأمر مكانته العقلية، لكن ما يبدو واضحاً في كونها إحدى مشاكل الإنسان هي البحث عن ذاته مع الله، فلا يقبل أن ينفذ حتى يستظهر الأمر بتفاصيل مقنعة تشبع مكانته وتغذي لهفته وراء الأسرار. وما تبينه الآيات أن هذا السعي يقوده إلى التعقيد ويتدرج به من السهولة والسعة إلى العسر والضيق، وينقله من "أي بقرة" إلى بقرة محددة ذات صفات نادرة الوجود يصعب العثور عليها.

وتزداد مشكلة بني إسرائيل وضوحاً حين نرى ردهم "الآن جئت بالحق" فبهذا تتجلى مشكلة الأوامر الربانية الموجهة للإنسان على أساس "هكذا يأمر الله .. وهكذا يريدها الإنسان" فلا يراد للأمر الديني أن يكون عادياً سهلاً ميسراً بسيطاً لأن الدين في نظر الإنسان ملازم للتعقيد وأوامره يجب أن تكون واضحة بكل التفاصيل.

قصة البقرة هذه لا تنفي أن يكون الإنسان واعياً، ولكنها تنفي أن يكون السبيل لذلك الوعي هو كثرة السؤال وتقوده إلى الوسيلة الأمثل لإدراك حقيقة أوامر الله بسرعة التنفيذ لا بكثرة السؤال، بتمثل العبودية التامة لله لا بمساءلة الله جل في علاه والتباطؤ عن التنفيذ "فذبحوها وما كادوا يفعلون".

أخذت سورة البقرة والتي هي أكبر سورة في القرآن الكريم اسمها من هذه الحادثة، والحادثة ليست مجرد قصة إنها منهاج تفكير وسلوك نابع من سوء تقدير الإنسان لنفسه وبالتالي لربه. فهل لهذه الحادثة حضورها عند أهل القرآن الكريم؟ وخصوصاً أن مضامين السورة تخاطب بني إسماعيل ضمناً بعد أن أشارت ووجهت الخطاب مباشرة إلى أحد فرعي الملة من أبناء إبراهيم وأبناء إسحاق ويعقوب حين قالت : " يابني إسرائيل"، فحين يخطئ ذاك الفرع في تعامله مع أوامر الله المباشرة في حادثة البقرة ثم يقسو قلبه يخطيء في تعامله مع الكتاب السماوي بالمثل، وحين يخطئ الأولون فعلى التالين الذين يستلمون الكتاب من بعد ما ضيعه السابقون أن يحذروا من مطبات النفس التي لا عاصم لأحد منها إلا بالتقوى وتمام العبودية لله.