مدونة حلمي العلق

الدخول في السلم دعوة متجددة

 | enter-the-peace

اعوذ بالله من الشيطان الرجيم ، بسم الله الرحمن الرحيم ، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

حديثي حول الدخول في السلم الذي تحدثت به الآيات من سورة البقرة من آية 208 إلى آية 211 التي أعقبت الحديث عن الحج في هذه السورة. وقبل ذاك نحتاج للمدخل التالي:

مدخل

التعامل مع القرآن والآيات هو مظهر من مظاهر التعامل مع إله الكتاب، قد نرى مواقفنا في بعض القضايا الدينية هينة عادية من خلال نظرتنا القاصرة، ولكنها في حسابات القرآن الكريم كبيرة ويحاسب عليها الإنسان، لذا وجب أن ننظر لأفعالنا وردود أفعالنا من خلال فلسفة القرآن لا من خلال فلسفتنا نحن، ونزنها من خلال ميزان القرآن لا من خلال موازيننا نحن.

واحدة من دعوات القرآن الكريم الهامة التي كانت ومازالت قائمة لكل المؤمنين وفي كل زمان، هي دعواه للجميع للدخول في السلم. هي دعوة تستوجب منا أن نتقي الله فيها، وأن نزن ردود أفعالنا تجاهها من خلال ميزان القرآن لا من خلال موازيننا القاصرة.

يقول الله عز وجل في سورة البقرة في الآيات الكريمة من آية 208 إلى 211

ادخلوا في السلم

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ۝ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۝ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ۝ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ سورة البقرة 208 - 211

هذه الآيات الأربع تحمل في مضمونها دعوة ربانية للدخول في السلم، الله العلي يدعو الناس والمؤمنين خاصة للدخول في السلم معه.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ سورة البقرة 208

هو نداء لكافة المؤمنين بالدخول في السلم، وعدم اتباع خطوات الشيطان.

﴿ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ سورة البقرة 209

فإن وقعتم في الزلل في الدين رغم أن الله أنزل إليكم الآيات البيّنات، فاعلموا أن الله غني عنكم وهو العزيز الحكيم.

﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ﴾ سورة البقرة 210

ثم تتساءل هذه الآية عن المانع الذي يمنعهم من الدخول في السلم؟ مستعرضة المشهد الأخير الذي يأتي فيه العرش محفوفًا بالملائكة لمحاسبة الناس يوم القيامة

﴿ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ سورة البقرة 211

ثم توجه الآيات الخطاب للنبي لسؤال بني إسرائيل عن الآيات البيّنة التي أنزلها الله لهم في التوراة ومع ذلك بدلوها ولم يتمسكوا بها.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ۝ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۝ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ۝ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ سورة البقرة 208 - 211

تضمنت الآيات دعوة ربانية بالدخول في السلم معه عز وجل، وهي دعوة تتطلب منا إلى تأمل وفهم وتطبيق. و حتى نقترب من هذه الآيات أكثر فأكثر لابد وأن نربطها ببعضها البعض، إذ إنه لا يكتمل مفهوم من مفاهيم القرآن، إلا بربطه بالسياق الخاص والسياق العام، السياق الخاص هو السياق الذي وردت فيه الآية أو الأمر، أما السياق العام فهو الموجود في بقية القرآن وبالتالي يكون ربط الآية ببقية الآيات التي تناولت نفس المفهوم أو القضية. يوجد دلائل واستشهادات غير هذه الآيات في آيات أخر ولكننا سنكتفي هنا لفهم الآيات من خلال السياق الخاص فقط.

.نتناول في هذا الحوار أربع محاور رئيسية:

1- ماهو السلم؟

2- آيات الدخول في السلم

3- التبديل والعداوة

4- الدعوة من جديد

نبدأ في السؤال : ماهو السلم الذي تدعو إليه هذه الآيات؟

أولًا : ماهو السِلم؟

السِلْم في اللغة إذا استخدمت في العلاقات فهي تعني خلو العلاقة من العداوات، وصفاؤها الداخلي من أي نية تخالف ذلك.

نقول: أنا سِلْم لك، أي أنا لا أحاربك، ولا أناوئك ولا أعمل بشيء خلاف ما ترتضيه، ونيتي سليمة تجاهك، وداخل قلبي لا أنوي غير ذلك.

ونقول: لفرقتين أنهما عاشا في سِلم فيما بينهما، أي لاحرب بينهما، ونواياهما صافية تجاه بعضهما البعض.

ونقول: رجل سِلْم فهو مسالم لا يُتوقع منه أي خديعة أو مكر.

والناس المسالمون لا يتوقع منهم الحرب والعداوة والمخالفة لما نرتضيه منهم حتى مع تبدل الأحوال والظروف.

السلم يبنى على أساس قناعة من الداخل ونتيجته السلام مع الناس و الأشياء في الخارج، قد نصل للسلام من خلال الهدنة أو الاتفاق، ولكن هذا السلام قد لا يدوم ما لم تسلم نوايا المتعاهدون من الداخل، وإن كانوا عكس ذلك فهم في سلام مادامت الهدنة وما دام الإتفاق أما إذا انقضت مدة المعاهدة قد ينتهي السلام بينهم.

ولكن في هذه الآيات السلم مع من؟

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ۝ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۝ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُِِِمُورُ ۝ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ سورة البقرة 208 - 211

الداعي إلى السلم في الآية هو الله عز وجل، الله يدعو الناس للدخول في السلم معه، وفي العبارة هيبة المتعالي الذي لا يتحدث مع الناس على أنه ند معهم لذا لا يقول لهم ادخلوا في السلام، ولكنه يدعوهم للدخول في السلم لأن الناس هي التي تحتاج للسلامة من العذاب. نحاول ومن خلال السياق التعرف على الصورة المادية التي تُوقع الإنسان في هذه العداوة والتي يخرج من خلالها عن السلم مع الله عز وجل.

نلاحظ أن الآية الكريمة 211 تتحدث عن أن بني إسرائيل بدّلوا نعمة الله، وما هي نعمة الله التي بدلوها؟ هي الآيات البينات؟ أي بدلًا من اتباع التوراة اتبعوا غيره. والآية تقول على الرغم من أن الله آتاهم من الآيات البيّنات الواضحات التي لا يختلف عليها أحد ولا يوجد عذر لتركها، إلا أنهم تركوها واستبدلوها بشيء آخر.

هذا الحديث عن بني إسرائيل جاء تعقيبًا على الآيات السابقة التي حملت الأمر الإلهي للمؤمنين بالدخول في السلم، فهذه الآية تحذرهم من الوقوع فيما وقع فيه الذين من قبلهم حين استبدلوا الكتاب بغيره دون أن يشعروا. وكأن السياق يقول: ادخلوا في السلم، ولا تكونوا كالذين من قبلكم الذين لم يدخلوا في السلم وبدلوا الآيات. إذًا استبدال الآيات يشير إلى عدم دخول بني إسرائيل في السلم!

السلم كلمة يمكن أن تطلق في العلاقات، والله هو الداعي إليه، ولكن تجسيد هذا السلم يكون من خلال التعامل مع كتابه كما يبين السياق، فالمعاند للآيات ليس سلمًا معها، والمتكبر على أحكام الله وعقائده لا يعيش السلم مع كتاب الله، إذًا يمكن أن نصف العلاقة التي هي بين المؤمن وبين كتابه أنها خارج السلم إذا تعطل شيء من أحكام الكتاب، والعلاقة تتعدى الكتاب بصورته المادية لتكون العلاقة بين الإنسان وبين الله عز وجل فيخرج من السلم مع ربه.

التبديل لا يعني الإلغاء فقط، التبديل يعني إلغاء الآية والمجيء بشيء آخر غير الآية، وهو الذي عبرت عنه آيات أخرى بالبيع، بيع الهدى بالضلال، من السياق نفهم أن بنو إسرائيل لم يدخلوا في السلم مع كتابهم، ومظهر ذلك أنهم كفروا ببعض الكتاب، عطلوا بعض أحكامه، ومنه نفهم أنه يقول للمؤمنين ادخلوا في السلم مع كتابكم حتى لا تعطلوا منه شيء ولا تبدلوا من أحكامه وآياته شيء.

الدخول في السلم مع الله وكتابه وأحكامه هو دخول بلا شروط من قبل المسالم أمام الله وأحكامه، ما يعني أن المؤمن المسالم يعيش حالة العبودية التامة مع الله عز وجل يقبل بأمره دون اعتراض أو تحريف أو تغيير، فالعبد سلم لسيده لا يعارضه ولا يتعارض معه، ولا يجعل له رأي أمام رأيه، ومثله في ذلك كمثل الرجل السلم لرجل.( ورجل سلمًا لرجل).

على أساس هذا الفهم، نقرأ الآيات الأربع قراءة متأنية مرة أخرى:

ثانيًا: آيات الدخول في السلم

في هذا المقطع الشريف آيات أربع تتحدث في موضوع واحد وفي قضية واحدة نعيد قراءتها بشيء من التأني:

أ- آية 208

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ سورة البقرة 208

1- يا أيها الذين آمنوا :

نداء للمؤمنين وليس للكافرين، نداء للذين آمنوا بدعوى القرآن وليس للذين رفضوها وكفروا بها، هي دعوة لهم وليس لغيرهم، فما هو مضمون هذه الدعوة؟

2- ادخلوا في السلم :

أيها المؤمنون، يامن آمنتم بهذه الرسالة وبهذا الكتاب أنه حق، وأنه من عند الله، حتى تتموا إيمانكم و إسلامكم لابد وأن تدخلوا بقلوبكم في السلم، بنوايا صادقة في الطاعة لما أنزل الله، لا ينازعكم في ذلك شيء.

3- كافة:

هذه الكلمة تشير إلى وجود فرق، وتعطي دلالة على أن للسلم طريق آخر غير التعامل مع الكتاب، وهو السلم مع الله من خلال الناس، ومن خلال السلم مع بقية الفرق.

وهذه الكلمة تؤكد على أن لا تستثني فرقة نفسها، فهوى الإنسان يميل به لأن يرى الأمر نافذ على غيره لكن لا يرى نفسه معنيًا بالأمر، فالأمر للجميع دون استثناء.

4- ولا تتبعوا خطوات الشيطان:

وهنا تحذر الآية من عمل الشيطان، فهو يعمل على هدم طريق السلم في الاتجاهين المذكورين مع الكتاب ومع الناس، وذلك من أجل أن يهدم السلم مع الله عز وجل، وهو يعمل ومن خلال "خطوات". إلى إبعادهم عن كتابهم، وإيقاعهم في البغضاء والتناحر فيما بينهم، وكلمة "خطوات" تعني مشاريع مدروسة، والآية بهذا المعنى تقول للمؤمنين الذين آمنوا بكتابهم: احذروا من مشاريع الشيطان.

5- إنه لكم عدو مبين:

الشيطان لا يظهر بشكله المادي، ولا يُعرف به، ولكنه بيّن واضح من خلال مشاريع الفتنة التي يوقع فيها المؤمنين لإبعادهم عن كتابهم، وإذكاء البغضاء فيما بينهم، فأي مشروع يتحرك فيه المؤمنون إذا كانت نتيجته هي الفرقة والعداوة والبغضاء فهم إنما يسيرون وراء مشروع شيطاني، لأن أهدافه هي عكس أهداف القرآن، فهو مبين من خلال مشاريعه ونتائجها.

ب- آية 209

﴿فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ سورة البقرة 209

1- فإن زللتم

الزلل للقدم يأتي بعد ثباتها، (فتزل قدم بعد ثبوتها)، والزلل هو الوقوع في الخطأ اليسير بعد معرفة الحق، واللفظة تدل على الوقوع في استدراج الشيطان الذي أشارت إليه الآية السابقة، لكن ورغم أنه زلل إلا أن الآية تحذر منه وتعتبره خطوة في الاتجاه الخطأ.

2- من بعد ما جاءتكم البينات

هذه العبارة تبيّن بأن الخطأ وقع في مخالفة شيء من الأوامر البيّنة الواضحة التي أنزلها الله في كتابه، وقد وقع المؤمنون في الزلل بعد مجيئ البينات وليس قبلها، وهم محاسبون على هذا المجيء.

3- فاعلموا أن الله عزيز حكيم.

يذكر الله المؤمنين بعزته وبحكمته، فلماذا ذكرهم بالعزة والحكمة؟

الشعور الذي يستدرج الشيطان من خلاله المؤمنين هو شعورهم بالعزة، هذا الشعور يسحب المؤمنين في الاتجاه الخطأ ويوقعهم في الزلل وفي مخالفة البينات. فإذا كان المؤمن ينتمي إلى فرقة ويعتز بهذا الانتماء، قد يقدم هذه العزة على الآية البيّنة، وقد يسعى في الحفاظ على هذه العزة فيعاند الآيات بدلًا من الإسلام لها، ويمتنع أمام الحقيقة من أجل الغلبة والثبات على الموقف والرغبة في الانتصار. فلا يعيش السلم لا مع الكتاب ولا مع بقية المؤمنين.

هذه العزة الظاهرة إنما هي مكسب دنيوي، ومن أراد الإيمان عليه أن ييمم وجهه للآخرة ومكاسبها لا إلى مكاسب الدنيا الزائلة. والله العزيز الحكيم يذكّر المؤمنين بعزته لأنها العزة الحقيقية، ومن أراد العزة الحقيقية في الدنيا والآخرة عليه أن يأخذها من العزيز الحكيم.

وترافق اسم الحكيم مع العزيز، لأن الذي لا يملك الحكمة لا يعلم من أين يحقق هدفه، المؤمنون إذا لم يعو ذلك فقد يلجأوا للحصول على العزة بالعناد أمام الحق، وهذا خلاف الحكمة، أما المؤمنون المتواضعون أمام الحقيقة فهم يبغون العزة ولكنهم يبتغونها من عند الله وبالتواضع أمام أوامر الله، ولا يبتغونها بمنعتهم وعنادهم أمام كتاب الله، وهنا تكمن الحكمة، والله العزيز الحكيم يوجه المؤمنين بأوامر مليئة بالحكمة وفيها الخير لهم في الدنيا والآخرة إن هم وثقوا في عزته وحكمته.

ج- آية 210

﴿هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ﴾ سورة البقرة 210

تحث هذه الآية المؤمنين لتوجيه أنظارهم نحو عقاب الآخرة، بدلًا من النظر إلى مكاسب الدنيا، لتتغير نظرتهم ويتواضعوا أمام أوامر الله ويسلموا لها ويقبلوا بالدخول في دار السلم مع الآخر. وتقول:

1- هل ينظرون

"هل ينظرون" بمعنى ماذا ينتظرون؟ هل ينتظرون مشهد يوم القيامة؟

2- إلا أن يأتيهم الله

يوم يأتي الله، هو يوم محاسبة الله للخلق، هو اليوم الذي يحاسب على التراخي في تنفيذ أوامره التي أنزلها للبشر، والانحراف عنها لغيرها. وإذا جاء هذا اليوم لا وقت للاستدراك.

3- وإلى الله ترجع الأمور

إذا كان لديكم ما تختلفون فيه في الدين، وقعدتم لتحاسبوا بعضكم البعض، وتقللوا من بعضكم البعض، فالأمر راجع في نهايته إلى الله، هو الذي سيحاسب الجميع وهو الذي سيحكم على الجميع، فلماذا نصبتم المحاكم التي هي من شأن الله؟

ونلحظ تغير في الخطاب، فبعد أن كان يوجه الخطاب للمؤمنين بصورة مباشرة في الآيتين السابقتين، تحدث في هذه الآية بالعزة تجاه من يخطئون، فلم يقل: ماذا تنظرون، ولكنه قال : ماذا ينظرون؟ في خطاب للبعيد لأنه لم يستجب له، في دلالة على عزته وغناه عن العالمين.

د- آية 211

﴿ َسلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ سورة البقرة 211

1- سل بني إسرائيل

الخطاب موجه للنبي، وهو أمر متعد للمؤمنين، للنظر فيما آلت إليه الأمم السابقة، وكيف تعاملوا مع كتابهم، وكيف آل بهم الحال؟ فبنو إسرائيل أصحاب رسالة سابقة، هم الذين أنزل الله عليهم التوراة، والتوراة كتاب سماوي، القرآن كتاب آخر نزل بعد التوراة، فما أنتم فاعلون به؟ والآية بهذا المثل تعطي المؤمنين بالقرآن الكريم مثال سابق، ويوضح خطأ وقع فيه الذين من قبلهم حتى يتجنبوه ولا يقعوا فيه.

2- كم آتيناهم من آية بينة؟

اسألهم ألم ينزل الله عليهم كتاب بين واضح، والبيّن الواضح لا يختلف عليه، فلم اختلفوا فيه إذًا؟ ولم تشعبوا ولم أصبحوا فرقًا مختلفة متناحرة متباغضة؟ لأنهم لم يدخلوا في السلم الذي أمرهم الله به، ولم يسلموا لأوامر الكتاب المنزلة عليهم، ولأنهم اتبعوا خطوات الشيطان، ولأن العزة بالإثم أخذتهم باتجاه مخالف للحكمة، وباتجاه هوى الدنيا ومكاسبها لا إلى الآخرة ومافيها من حساب ووقوف بين يدي الله. هذا الذي أوقعهم في الخلاف.

3- ومن يبدل نعمة الله من بعد ما جاءته.

تبديل نعمة الله يعني تبديل الآيات، وتبديل الآيات لا يعني نسيانها فقط، بل يعني نسيانها والاعتماد على شيء آخر غير ما أنزل الله، وعندما يقول الله "من بعد ما جاءته" فهو يحاسب على هذا المجيء، فقد وصلك الحق إلى عندك، ولكنك مع ذلك استبدلته، فأي عقاب ينتظر التبديل وهذا الإهمال؟ ولذا تختم الآية بهذه النتيجة:

4- فإن الله شديد العقاب.

الله الذي إليه ترجع الأمور سيحاسبهم بأشد العقاب، والآية تتحدث عن القانون العام الذي ينطبق على بني إسرائيل وينطبق على غيرهم أيضًا، فبنو أسرائيل بدلوا، ومن يبدّل كما بدّل بنوا إسرائيل فإن مصيره سيكون نفس مصير بني أسرائيل أيضًا في الدنيا وفي الآخرة.


أمام هذه الآية الكريمة نحن إزاء تساؤل مهم وهو : ما علاقة التبديل بالسلم؟ أو بصيغة أخرى ماعلاقته بالعداوة؟

ثالثًا: التبديل والخروج عن السلم

تحدثت الآية (211) عن بني إسرائيل الذين قادهم حبهم لأنفسهم، وشعورهم بالعزة أمام بقية الفرق إلى اتخاذ موقف التصدي والدفاع عن أنفسهم بدلًا من الدخول في السلم مع كتاب الله والتواضع أمام حقائقه، وبدلًا من التمسك به، بدّلوه بشيء آخر تتعززوا به وسعوا للحفاظ عليه من أجل مكاسب الدنيا، وهذا ما يحذرنا الله منه وينذرنا كي نبتعد عنه.

نعود للآيات مرة أخرى لفهم العلاقة بين السلم وتبديل نعمة الآيات.

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ۝ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۝ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ۝ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ سورة البقرة 208 - 211

التبديل يعني إلغاء الشيء بشيء آخر، وتبديل بني إسرائيل للتوراة لم يكن بكتاب واحد، بل بكتب بشرية مختلفة، ما ينازع المؤمنين في الطاعة التامة للكتاب هو ما ورثوه عن آباءهم، فبسببه لم يسلموا لبعض الكتاب،ولأن هذا الموروث هو مصادر بشرية مختلفة فهم مختلفون متفرقون. ولأنهم تفرقوا تباعدوا وتباغضوا وظهرت العداوات الدينية فيما بينهم، خصوصًا إذا تعززت كل فرقة بموروثها، وعملت على إنقاص الفرق الأخرى فيما ذهبت إليه، أما إذا اجتمع الناس حول كتاب واحد وجعلوه كتابهم الأوحد والأعلى، توحدوا، وذابت كل الفوارق فيما بينهم.

الإيمان بالكتاب والإيمان بأي شيء آخر غير الكتاب هما على طرفي نقيض، كلما ازداد الإيمان بالكتاب قل الإيمان بغيره واقتربت الفرق فيما بينها ودخل الجميع في السلم، أما إذا ازداد الإيمان بغير الكتاب وهو كثير متفرق ابتعدت الفرق عن كتابها وخرج الجميع عن السلم.

الآيات تدعو لأن يعيش الجميع في السلم وأن يتخلوا عن العداوة التي تحفز الدفاع عن النفس أمام حقائق الكتاب وأمام الآخر وتحوّل الدين إلى ساحة قتال لا إلى هدف يبتغيه كل من يؤمن بالكتاب. ولقد أعطانا كتاب الله هذا المثال البيّن حول أمة بني إسرائيل والتوارة حتى نأخذ العبرة، وما يبقى هو أن نتوجه لأنفسنا بغية تفعيل هذا الأمر في واقعنا وفي حياتنا، وأن نحيي دعوة السلم من جديد.

رابعًا : السلم من جديد

إذا كان الأمر هو الدخول في السلم مع الكتاب، فلابد على المؤمنين أن ينزعوا من قلوبهم أي توجه لغيره حتى يسلموا لكتاب ربهم:

(ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً )

﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ۝ فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمْ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ۝ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ۝ سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ سورة البقرة 208 - 211

تعبير الدخول تعبير معنوي وجداني له دلالة هامة، فهو تعبير عن الحركة وعن تغير الإنسان، لذا فإن القرآن هو مشروع تغيير، وهو تغيير جذري ينطلق من داخل الإنسان ليتغير فكره وعقله وقلبه أيضًا.

الدخول في السلم تعبير يجعل المؤمنين في حذر من الخروج منه، وهذا يتطلب استشعار مستمر عن مدى التزامنا بتعاليم القرآن، ويعني كذلك التخلي عن العزة وخلع رداء الكبر والتعالي اللذان يمنعان من رؤية الإنسان حقيقة نفسه.

خاتمة

إذا كنا نؤمن أن القرآن وهداه محكومان من قبل الله، وأنه هو من يهدي من يشاء والمتحكم في إظهار الحقيقة وليسوا هم البشر ولا عقولهم، فالحاكم يأمر الجميع بالدخول في السلم حتى يوصل لهم هداه، فهذا الدخول يعد أحد اشتراطات الحاكم، وإذا حققها العبد سيوصله الله إلى الهدى وفهم الكتاب.