الدخول في السلم دعوة متجددة
يقول الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه العزيز:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ البقرة(208).
للفظة (السلم) في الآية الشريفة حضورها اللافت والذي لا تلبث أن تتأمله حتى تُخرج لك الكلمة من مكنوناتها البعد الآخر والخفي من انتظام المؤمنين في شرع الله وعدم خروجهم عن كتابه العزيز إلى مصدر آخر، وهو (السلم والسلام).
تستخدم كلمة (السلم) ككلمة مضادة لكلمة (الحرب)، وإذا أخذنا الكلمة كمفهوم شامل في الدين نجد أنها تنطبق على ثلاثة مستويات: في الغيب والنفس والواقع، أما في انطباق السلم على مستوى الغيب فإن طاعة أوامر الله الواردة في كتابه العزيز هو استسلام خاشع لقوة غيبية لا تدركها الأبصار، وأما انطباقها على مستوى النفس فالاستسلام لأوامر الله يروضها على عدم التكبر، وأن تميل بحسن ثقتها بالله إلى لين الجانب وحسن العريكة، الأمر الذي يقود إلى بلوغ الإنسان إلى حالة من السلم الداخلي والتصافي مع النفس ومن ثم مع الآخرين. وأما في انطباق مفهوم السلمية في واقع الحياة، فإن الاستجابة إلى أوامر الله الحقيقية يقود إلى السلم الأهلي والاجتماعي والأممي (إن شئت).
فكل الأحزاب الدينية الذين شرّعوا باسم الدين أخرجوه من السلمية العالمية إلى الدموية وضيق التحزب، فمشركو مكة مثلاً كانوا على دين، لكنه دين متحزب يقتل وينتقم ويسفك الدماء، دين لا يعترف بالتعددية ويرى الفساد في أن لا يكونوا هم بالتحديد سادة الأمم، وبالمثل كذلك هي كل الأحزاب الدينية في أوانهم وفي كل أوان.
لقد جاءت هذه الآية الشريفة في أعقاب الحديث عن آيات الحج في سورة البقرة، وآيات الحج هذه جاءت في سياق الحديث عن الحرب مع المشركين المعتدين، تقول آية الحج: ﴿وأتموا الحج والعمرة لله ﴾ (البقرة ـ 196) والذي يكون أحد مصاديقه هو دخول المسلم للبيت الحرام وهو في حالة سلم مع البشر والحجر والمخلوقات، وأن لا يستهدف بدخوله هذا عزة لنفسه أو رغبة في إعلاء ذاته بالخصومة والحمية والجاهلية، وإنما يدخل للبيت ليتم هذا الحج لله وحسب. وفي الحديث عن الدخول في السلم كافة عقب آيات الحج دلالة وصفية على الشكل العام الذي يتم فيه دخول البيت الحرام، فدخول البيت بأفواج من الحجيج متنوعة الألوان والطوائف تتساوى فيه مقاديرهم أمام قدر الإله العظيم، وتتلاشى فيه مقاماتهم الدنيوية التي تمايز بين الأمم، ويسعون فيه لرب واحد وتخشع فيه رقابهم أمام جبروته، يقفون أمامه كعبيد لا فرق بينهم، فيناديهم سبحانه فيقول:(ادخلوا في السلم كافة)، إذ إنه من المفترض أن يلازم هذا الدخول الظاهري الشكلي، دخول آخر على مستوى النفس والقلب والغيب، دخول يخالجه الخشوع والهبوط لحقيقة الإنسان لدرجة لا تخرجه من السلمية إلى العدوانية إطلاقاً، وأن لا ينظر إلى أن يأتي الله في ظلل من الغمام والملائكة من أجل إجباره على الوصول لهذا الخشوع، كما تقول الآية التالية:﴿ هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمْ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنْ الْغَمَامِ وَالْمَلائِكَةُ وَقُضِيَ الأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الأُمُورُ ﴾ البقرة (210)، فكل معتدٍ أو متعالٍ على غير الذي لا ينتمي إلى دائرته يثبت باعتدائه أنه خارج هذه الأفواج الداخلة في سلمية بيت الله الحرام و شرعه وهداه. الدخول في السلم لا يتحصل من خلال المعرفة وحسب، بل يتطلب جهاد النفس وكبح جماح الطغيان فيها وإيقاف رغبتها في العلو على الآخر الذي يتمثل في الشخص الآخر أو الطائفة الأخرى أو الأمة الأخرى، والمشكلة ذاتها تجملها آية لاحقة لهذه الآية بقولها: ﴿ كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ..﴾ إلى أن تقول:﴿ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمْ الْبَيِّنَاتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ﴾ البقرة (213)، والبغي هو خروج عن سلمية النفس وصفائها مع الآخر ورغبة في الانتصار والعلو، وهذا الاضطراب الداخلي يؤثر بالنتيجة على السلوك الخارجي ويضر بالهدى الذي أنزله رب السماء، والذي لا يمسه ويلامس حقيقته إلا المطهرون. أما الحرب فهي مستويات، فمنها ما يبدأ بالمناكفة ويتدرج إلى البغي اللفظي والمعنوي، وينتهي إلى أشد حالاته حين يصل إلى الرغبة الجامحة في سفك الدماء، وكل ذلك هو ملامح الدين الباطل مهما تظاهر بالحقيقة، والله سبحانه وتعالى ينادي في هذه الآية نداءً عجيباً فيقول:﴿ادخلوا في السلم كافة ﴾ وهو نداء يوازي في طبيعته نداء الدعوة للإيمان بالله وكتبه ورسله، ولكنه مربوط هنا بالسلمية التي هي بداية الدين ومنتهاه، وإن تعجب لذلك الربط (بين دين الحق والسلمية) فالآية (119) من سورة آل عمران تنبؤك عن سر ذلك الرابط:﴿ هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ، قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ، إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾، حيث تشير الآية الشريفة إلى أن للإيمان ببعض الكتاب علاقة وطيدة بالحقد الذي يدفنه من يساير أهل الإيمان بالكتاب كله، وللسر كشف آخر، فتى تصافى المرء مع نفسه بسلمية تامة فلا يميل به الهوى إلى حيث يتحزب، فيُسلم للحقيقة الربانية في الكتاب دون قيد أو شرط فيعيش السلام مع الآخر كما عاشه مع نفسه. أما من قاوم الحقيقة في داخله فقد أضر بنفسه، لذا فهو يُسكت الآخر ويخرسه تماماً كما يفعل حين يُخرس قلبه الذي يريد الاستجابة للحقيقة الربانية الناصعة البينة في الكتاب لحساب الحزب والطائفة، وحين يموت القلب ويستسلم لغرائزه بدلاً من استسلامه للحقائق الربانية يتنامى فيه الحقد تجاه كل مخالف ويذهب به الغلوه والعصبية إلى منطقة أخرى خارج منطقة السلم التي ينادي الله سبحانه وتعالى المؤمنين لدخولها. نداء الله لدخول السلم قائم متجدد لكافة الطوائف وفي كل زمان، ويبقى على المؤمن أن يتجاوز عقبته الكبرى في أن يضع استسلامه لله أقوى من لغواء العصبية وقيود الأنا واعتلاء الطائفة أو الحزب وأن يدخل حرم الله مسلماً بالقلب والنفس والجسد.