لا ريب فيه
| faith# مقدمة
يقول الله عز وجل وفي بداية سورة البقرة : ﴿ الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ البقرة (1)-(2)، ما يعطل فاعلية القرآن ويوقفه عن التأثير هو أن نحكم عليه بدلًا من أن نتخذه حاكمًا، وأن نضع له الحدود والمقاييس التي يتحدث فيها حسب الموروث، ونؤطره بأطر لا يخرج عنها، حينها تكون مفاهيم القرآن سجينة الأفكار والحدود التي وضعناه فيها.
ما فائدة أن نستخرج شتى العلوم من القرآن، لكننا لا نرى أنفسنا من خلال مرآته، وما فائدة أن نعلم كل شيء منه لكن لا نهتدي به إلى سبل السلام التي يُخرج الله بها الناس من الظلمات إلى النور. ما ينفعنا هو أن نفهم رسالة الله إلينا وأن لا نتهرب من الاتهام الذي توجهه الآيات للإنسان، لأن ذلك التهرب إعراض يتسبب في حجب حقائق القرآن الذي يريدها الله من عباده.
نتحدث في هذه الحلقة عن الارتياب في الكتاب والذي أشارت إليه بداية سورة البقرة المباركة، نتناول هذا الموضوع لما له من أهمية ولما له من انعكاسات في واقعنا الإيماني وطبيعة تعاملنا مع هذا الكتاب العزيز. تتمركز هذه الحلقة حول أربع محاور : الأول فهم الارتياب، الثاني علامات الارتياب، الثالث المتقون والتعرف عليهم من بداية سورة البقرة؟ أما المحور الرابع والأخير فهو محاولة لوضع الارتياب كمقياس قرآني لقياس الواقع. يتم تفصيل هذه المحاور من خلال عرض عدة أسئلة وعناوين متدرجة ومتسلسلة مرتبة بما يخدم الوصول للهدف، يتم عرض الإجابة عليها من خلال الآيات الكريمة إن شاء الله.
# الارتياب في الكتاب
# المحور الأول : فهم الارتياب
لفهم الارتياب في الكتاب نسأل السؤال التالي:
# ما موقع المرتابون؟
ما موقع المرتابون على خارطة التصديق والتكذيب بالرسل؟ هل هم الذين كذّبوا الرسل ولم يؤمنوا برسالات السماء؟ أم هم من المؤمنين الذين أنزل الله عليهم كتابًا سماويًا وصدقوا به؟ من هم المرتابون الذين تقصدهم آيات القرآن؟
يقول الله عز وجل :
﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ﴾ الحجرات (15)
الآية الكريمة تحدد أن المرتاب هو واحد من المؤمنين، الجميع منهم صدّق و آمن بالرسالة، ولكن هناك فئة سقطت في الارتياب بالرسالة بعد أن آمنت بها، وهذه الآية تحدد أن موقع المرتابون ليس خارج المؤمنين، وإنما هم منهم وبينهم، ولا علاقة للارتياب بتغيير الانتماء، إذ يظل المؤمن مؤمنًا ولكن إيمانه يصاب بالارتياب. بل وقد يصاب الأغلبية منهم بذلك.
# هل يقع الارتياب في زمن الرسالة فقط؟
هل هي حالة يقع فيها المؤمنون الذين آمنوا في زمن الرسالة وحسب؟ أم يصاب بها المؤمنون في كل زمان من بعد الرسالة؟
يقول الله سبحانه وتعالى في آية أخرى:
﴿ وَمَا تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمْ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾ الشورى (14)
أولًا يتأكد لنا أن المرتابون هم من المؤمنين بالرسالات، فالآية لا تتحدث عن فئة لم تصدق بالرسالات، لكنها تتحدث عن مؤمنين مصدقين بنبوة موسى عليه السلام وهم أهل الكتاب، الذين تفرقوا من بعد ما جاءهم العلم بغيًا بينهم، وأنهم في شك من كتابهم مريب.
وتتضح أيضًا الإجابة على السؤال فالآية تتحدث عن أهل الكتاب الذين ورثوا الكتاب من بعد الأمم الأولى (من بعدهم) أي بعد الأمم الأولى التي أخذت كتابها من نبي الله موسى (ع)، إذًا مشكلة الارتياب ليست مخصوصة في زمن الرسالة، ومن الممكن أن تقع فيها الأمم الكتابية في كل زمان.
# كيف يقع الارتياب؟
ماهي الريبة؟ وكيف يقع الإنسان فيها؟ الريبة هي التوهم بالشيء، ويقع الإنسان فيها عندما تتزعزع ثقته في شيء أو جهة ما فلا يراها ثابتة ولا واضحة، وقد يقع في هذه الحالة بسبب وجود ما يشككه في تلك الجهة، والمشكك في شيء هو عنصر مادي محسوس يُوجد حالة من التعادل بين جهتين أو قضيتين بحيث يضع كل قضية في أحد كفتين متناقضتين يصعب الترجيح في صوابية أحدهما، ووجود ذلك التعادل في تساوي الطرفين قد يوجد حالة الارتياب في قلب من كان يثق في صوابية أحدهما، فتتراجع ثقته فيه. فالمشكك مادي والارتياب نفسي قلبي.
لنضرب لذلك مثالاً: لو كنت تثق في أمانة رجل وقدّم لك أحدهم ما يشكك في نزاهته، فقلبك أمام خيارين إما أن يرتاب فيه، أو لا يرتاب وهذا مبني على ثبات الثقة التي تحملها في قلبك له. فالمشككات تعمل كالمطرقة التي تهدم الثقة، أما الثقة فتتلقى ضربات التشكيك وكأنها قاعدة يعتمد عليها في البناء فإن كانت القاعدة ضعيفة تأثرت، وإن تأثرت فلن تصلح بعدها للبناء.
# ما هو الارتياب في الكتاب؟
هو حالة ضعف الثقة في الكتاب ، يتحدث القرآن عن حالات الريبة في الكتاب لمن يراودهم الشك في أنه منزّل من عند الله، وهنا يطرح السؤال الأهم : كيف يمكن لمن ورثوا الكتاب من بعد أن أنزل على آباءهم أن يصلوا إلى مرحلة الريبة فيه؟
# ما سبب الوقوع في الارتياب في الكتاب؟
كيف يقع أتباع الكتب السماوية في الريبة في كتابهم وهم مؤمنون به في ذات الوقت؟ يقول الله عز وجل
﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنْ الْمُمْتَرِينَ ﴾ الأنعام (112)-(114)
لقد أذن الله لشياطين الإنس والجن أعداء القرآن والكتب السماوية أن يبثوا كلمات ما أنزل الله بها من سلطان تشد أسماع الناس وانتباههم حتى لا يذهبوا للاستجابة لكتاب الله. ولقد أذن الله بذلك حتى يميّز الموقن بكتابه من غير الموقن، والقرآن يوصي المؤمنين أن لا يبتغوا غير الكتاب حكمًا وهو الذي أنزل الكتاب مفصلًا، ويأمر النبي الكريم والمؤمنين أن يأخذوا بهذا التفصيل ولا يكونوا من الممترين.
إذًا سبب الوقوع في الارتياب في الكتب السماوية هو وجود ما يشكك المؤمن فيه، هو وجود أحكام وحقائق أخرى تخالف ما أنزل الله، ويتشتت من خلالها المؤمن بين الكتاب وغير الكتاب، وحين يكون مشدودًا لغير ما أنزل الله وبأحكام ومفاهيم مغايرة يدفعه ضعف إيمانه واهتزاز ثقته بالكتاب للريبة فيما أنزل الله. فيكون بمثابة من يرتاب من أنه منزل من عند الله سبحانه وتعالى.
ننتقل للمحور الثاني وهو علامات الارتياب.
# المحور الثاني: علامات الارتياب
وقبل أن نتعرف على علامات الارتياب نسأل السؤال التالي:
# هل يعترف المرتابون بارتيابهم؟
هل يقولون أنهم مرتابون في كتابهم؟ هل هذا الارتياب مكشوف معلن أو أن القرآن هو الذي يكشفه ويعلن عنه؟ لا يعترف المرتابون بريبتهم، وقد لا يعلمون أو لا يريدون أن يعلموا، ولكن القرآن هو الذي يكشف عنه، فهو الذي أخبر بارتياب أهل الكتاب بكتبهم، القرآن له مقاييسه الغيبية التي يكشف من خلالها للمؤمن عن وجود أمراض القلوب، يقول الله سبحانه وتعالى في آية أخرى:
﴿يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمْ الأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ الحديد(14)
في يوم القيامة يمتاز المؤمنون حقًا عن المرتابين، ويفصل الله بينهم ويذهب كل واحد منهم في طريق، على الرغم من أنهم كانوا معًا جميعهم. وهذا ما يدفعنا للسؤال عن علامات الارتياب، فقد لا يرى الإنسان نفسه مرتاب ولكن قد يفاجأ يوم القيامة أنه منهم.
# علامات الارتياب
هل يمكننا أن نشخص حالة الارتياب في الكتاب من خلال علامات محددة؟
# 1- الاختلاف والتفرق
واحدة من أبرز علامات الريبة هي الفرقة، فعندما تغزو الريبة أوساط المؤمنين بكتابهم السماوي يختلفوا في الدين ومن ثم يتفرقوا ويتباعدوا ويتباغضوا، وكلما اقتربوا من كتابهم كلما تقاربوا وتوحدوا وتحابوا، والارتياب دافع للابتعاد عن أحكام الكتاب وبيناته إلى غيره، ولأن غيره مشتت متفرق وليس واحد، تتفرق الأمة الواحدة عن أصلها وعن كتابها وتتشعب إلى شعب متباعدة.
يقول الله عز وجل عن أتباع نبي الله موسى الذين ورثوا الكتاب من بعده أنهم اختلفوا في الكتاب، ثم يبين سبب ذلك الاختلاف أنه الريب في الكتاب:
﴿ وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ ﴾ هود (45)
# 2- التردد في التعامل
من علامات الارتياب في الكتاب التردد في الأخذ به وببيناته وأحكامه، وبروز ملامح عدم الثقة في التعامل معه لأن الريبة تدفع لعدم الثقة فيه ويصبح القرآن مصدرًا غير موثوق به ولا يعمل على أساسه. يقول الله سبحانه وتعالى:
﴿ إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ﴾ التوبة (45)
الآية تتحدث عن فئة من ذات المجتمع المؤمن تتردد في تنفيذ الأوامر، وتبيّن أن سبب ذلك التردد هو ماهم عليه من ارتياب من رسالة النبي، يترددون في استجابتهم للأوامر الصادرة من الله عن طريق النبي، وهو ذاته حال المرتاب في الكتاب حيث يعيش حالة التردد في تطبيق أوامره والالتزام بها.
# المحور الثالث: المتقون
من هم المتقون الذين تحدثت عنهم بداية سورة البقرة؟ وما علاقة ذلك بالارتياب والهدى؟
# من هم المتقون؟
نريد أن نتأمل في هذه الآيات الكريمة ثم نسأل :
﴿الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ﴾ البقرة (1)-(5)
من هم المتقون؟ هل هم كل الذين صدّقوا بدعوى الرسل ودخلوا ضمن دائرة المؤمنين بالرسالات؟ بحيث يكون غيرهم ممن لم يؤمن بالرسل ولم يؤمن بالكتب السماوية ليس منهم؟ أم أنهم صنف من المؤمنين؟ أي أن الآيات تصنّف المؤمنين من حيث إيمانهم إلى صنفين، أحدهما وصل للتقوى وتميّز بصفاتها، والبقية لم تصل؟ في أي الاتجاهين تتحدث الآيات؟
بالتأمل في الآيات نجد أنها تصنف المؤمنين إلى صنفين متقون وغير متقين، المتقون هم مؤمنون ولكن ليسوا كبقية المؤمنين، بما امتازوا به من صفات وهي الإيمان بالغيب وإقامة الصلاة والإنفاق ثم الإيمان بالكتب واليقين بالآخرة.
تضع الآية (2) وفي المقدمة أهم صفة تميز المتقين عن غيرهم وهي عدم الارتياب في الكتاب، ليكون معنى أنهم ( يؤمنون بما أنزل إليك) التي وردت في الآية (4) أنه إيمان يقين لا ارتياب فيه، وليس إيمان تصديق وحسب، هو إيمان يمتاز بالقوة والثبات، فالكل من المؤمنين مصدّق بالرسالة، ولكن ليس الكل موقن بها.
إذًا المتقون هم الفئة من المؤمنين الذين لم يرتابوا في الكتاب، الذين اتقوا الله في كتابهم وآخرتهم، وهم الذين لا يبعضون في الأخذ منه أي لا يؤمنون ببعض ويكفرون ببعض، وإنما يؤمنون بالكتاب كله. وهذا يجعلنا أمام حقيقة هامة يمكننا أن نسميها خصوصية الهدى.
# خصوصية الهدى
نقصد بخصوصية الهدى هو أنه علم خاص لفئة محددة من المؤمنين يعلّمه الله للمتقين فقط من كتبه المنزلة، يقول الله سبحانه وتعالى :
﴿ الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ البقرة (1)-(2)
1- ﴿ذَلِكَ الْكِتَابُ ﴾
ذلك، اسم اشارة للبعيد، أي أنه بعيد المنال لا تناله الأفهام ولا العقول، لكنه (لا ريب فيه، هدى للمتقين) يناله غير المرتابون فيه، أما غيرهم فلا ينال من هداه شيء، هذا الذي يؤكد أننا أمام معايير قرآنية دقيقة جدًا، تتحكم في نيل المؤمن من هذا الكتاب.
2- ﴿ لا رَيْبَ فِيهِ ﴾
عندما تفتتح سورة البقرة بقوله تعالى (ذلك الكتاب لاريب فيه هدى للمتقين)، فما دلالة هذه الافتتاحية؟ وما أهميتها؟ إنها تصنّف المؤمنين قارئي القرآن ودارسي علومه إلى مرتاب وغير مرتاب، فما دلالة هذا التصنيف؟ هي تعطي شرائط دراسة الكتاب ونيل الحق والهدى منه في واجهة الكتاب.
3- ﴿ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾
الآية الكريمة تخص الهدى لفئة من المؤمنين أسمتهم المتقين، ولقد استأهلوا هذا الهدى بسبب اتصافهم بأهم صفة وهي عدم الارتياب في الكتاب.
الآيات هي خزائن العلم - الهدى - والله متحكم في تلك الخزائن لا يخرج منها شيء لأحد إلا بإذنه وحسب المواصفات التي يشترطها من المؤمنين، يمكن لأي إنسان أن يدرس القرآن ويستخرج منه ما يشاء من علوم الطبيعة واللغة وتركيب الآيات، ولكن هناك علم خاص لا تفتّح أبوابه للمرتابين.
تكشف لنا بداية سورة البقرة حقيقة مفادها أن هذا الكتاب محجوب بالارتياب، فمادام أهله مرتابون فيه فالله حاجب هداه عنهم، وهذا يعني أن الله متحكم في توجيه أفهام الناس لهذا القرآن، وميسر لاستخراج حقائقه وأحكامه منه لمن يشاء، ولا يمكن أن يصل المرتابون إلى هداه، هو علم محجوب ليس عن عموم الناس وحسب، بل وحتى عن عامة المؤمنين الذين لم يأخذوه بقوة وزاغت أبصارهم لغيره.
لو تأملنا سياق الآيات التالية لتأكد لنا نفس هذا المعنى: (وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8)) فهي تشير هنا إلى الفئة الأخرى من المؤمنين الذين لم يصلوا في إيمانهم إلى الدرجة المطلوبة من الإيمان، وضعف إيمانهم هذا أدى بهم إلى التنازل عن آيات الله واستبدالها بغير ما أنزل الله (أُوْلَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوْا الضَّلالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16))، لم يخلصوا في اتباعهم لكتاب الله ولكنهم ارتابوا فيه ولذلك حرموا من الهدى.
# المحور الرابع : محاسبة النفس
يعرض القرآن الكريم مقياسًا إيمانيًا هاماً يوجب علينا محاسبة أنفسنا على أساسه.
# أين نقع من الارتياب؟
كيف نستفيد من هذا الكشف القرآني؟ وكيف نفعل مافهمناه الارتياب على أنفسنا؟ ما لم يضع المؤمنون كتبهم السماوية كمقياس لهم فلن يتعرفوا على موقعهم منه، ومن منطلق بداية سورة البقرة يجب أن نضع الارتياب كأحد أهم المقاييس التي نكتشف من خلالها أنفسنا:
﴿ الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ ﴾ البقرة (1)-(2)
يمكن أن ننظر للآية من زاوية أخرى فهي تحذّر المؤمنين من خطورة مرض الارتياب، وهي مقياس قرآني يفرضه القرآن على كل ساع لمعرفة الدين وتعلمه ودراسته، فإن كان هذا المؤمن مصاب بفقر الثقة في كتابه فقد حرم نفسه من دخول حرم القرآن، وعليه فلا يصح للمؤمن أن يبارح هذه الآية حتى يحدد موقعه الحقيقي منها. يحذر القرآن الكريم المؤمنين قبل غيرهم من الاعراض عن آياته وعدم الاستجابة لبيناته، يقول عز من قائل:
﴿ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً ﴾ الكهف(57)
هي آية تؤكد معنى أن الله متحكم في الأفهام، وهو الذي يصرف هذه القلوب وهذه العقول حسب مشيئته وحسب سننه وقوانينه التي سنها في كتابه:
﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً ﴾ الإسراء(46)
إن النظر إلى القرآن من موقع صوابية ماوجدنا عليه أنفسنا من حقائق يجعله تابعًا خادمًا لأفكارنا ومناهجنا ليس أكثر ، وبدلًا من اعتبار أن الواقع هو نقطتنا المرجعية، علينا أن نعتبر القرآن هو نقطتنا المرجعية، فليس بالضرورة أن كل ماوجدنا عليه أنفسنا هو ذات الصواب، ولكن كل ما وجدناه في القرآن هو الحق فهو النقطة المرجعية العليا للحق، وبدلًا من أن نرتاب فيه، وجب أن نرتاب في غيره الذي لا ينسجم مع أوامره وروحيته العالية.
لذا فإن الخوف من الآخرة يحتم على المؤمن أن يفهم ذاته أكثر وأن يواجه نفسه ويحاسبها خوفًا من مخالفة المعايير القرآنية للإيمان، على المؤمن أن يحاسب نفسه على أساس آيات القرآن، فلا يركن لنفسه، ولا يقف عن البحث والتمحيص للتحقق من أن عمله مطابق لكتاب الله، والارتياب في الكتاب مقياس قرآني هام يواجهنا في بداية سورة البقرة، وعليه يجب التعرف على الواقع بشفافية للسعي نحو مصلحة الذات لا من أجل حسابات دنيوية.
# كيف ندرس القرآن؟
يجب أن نؤسس دراستنا لكتاب الله على أساس اليقين بما تنص عليه هذه الآية :
﴿ وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ ﴾ النحل (89)
الله نزل القرآن الكريم تبيانًا لكل شيء، فهل نرتاب في هذا؟ وهل يحق أن نقف موقف المشترط على القرآن، فنقول إن أعطانا القرآن تبيانًا وإلا سنلجأ لغيره؟ والحق أن القرآن هو الذي يشترط علينا ويقول إن لم تتقوا الله في عدم الارتياب فلا هدى لك عندي.
نعم القرآن حمال أوجه، هو كذلك، فلا يصلح للمحاججة ولا للاستدلال، ولكن مع من؟ لا يصح للمحاججة مع مرضى القلوب، مع المرتابين فيه لا مع المؤمنين المتقين الذين لا يرتابون فيه. فلماذا نتخذ من قواعد مرضى القلوب قواعد لنا للتعامل مع كتاب الله؟ وننظر إليه بنظرة المرتاب فيه ونرضى بذلك؟
# خاتمة
ينطلق القرآن وفي مقدمته في سورة البقرة من توجيه الاتهام للناس الذين ضعف إيمانهم بالكتاب، ويشدد أن ضعفهم هذا سيكون سببًا في وصد الأبواب أمامهم لفهم علومه الخاصة وتفاصيله وبيناته، وهذا يعني أن مادة الكتاب من ألفاظ وكلمات لن تتغير، لكن الذي سيتغير هو نيل الهدى منه حسب يقين كل واحد، فالبعض سيكون لهم هدى وشفاء أما البعض الآخر هو عليهم عمى ولن يروا ما يريد الله منه. وهذه نقطة غاية في الخطورة.
لقد وقع أهل الكتاب في الارتياب في كتابهم بسبب تأثرهم بأحكام غيره فضعف تمسكهم بأحكامه، فوجود حكم آخر غير ما أنزل الله أصبح مصدر شك، وذلك الشك يبعث الارتياب في قلب ضعيف الإيمان فيضعف التمسك به، أما قوي الإيمان والموقن من أن ما بين يديه من عند الله لا يتخلى عن حرف من حروفه، ولو كان أولئك الذين ورثوا الكتاب يثقون كل الثقة من أنه منزّل من عند الله ما بدلوا حكم من أحكامه ولا شرع من شرائعه.
إذًا يقع المؤمن في الارتياب حين يستجيب للأدلة الأخرى التي تشكك في مصداقية الكتاب، فهناك مقوضات لقيم وأحكام الكتاب المنزل، هي أحكام أخرى وجدت لها موقعًا لتظهر أمام الناس وكأنها من الدين لكنها ليست من الدين في شيء، تشكك الناس في دينهم من الكتاب، ولقد سمح الله بتواجدها حتى يختار المؤمن بين اليقين بكتابه أو الارتياب فيه، فيمتاز المؤمنون حقًا عن غيرهم.
(اهدنا الصراط المستقيم ) هي فاتحة الاعتراف بالنقص والافتقار للهدى أمام الله، هكذا يجب أن نفتح قلوبنا أمام القرآن، أما حين نستقبله بعكس هذا المنطوق وبالجمود واتباع كل أمر مستقر تستقر بنا قاطرة القرآن لأننا نكون قد أوقفنا عجلتها بعصا نزاهة الذات من الخطأ.
عند دراسة القرآن يجب أن نتحرك من إيمان تام وثقة كاملة بالله بأنه هو القادر على إظهار الهدى، وأن هذا الكتاب قطعي الدلالة لا ريب فيه، هو الكامل الذي لا يتهم بنقص، والاتهام علينا والنقص فينا لا فيه، وأحكامه هي الحق الذي يجب أن يطبق، فإذا جاء القرآن بقضية وجاء كتاب آخر بقضية مخالفة يجب أن نتق الله ونرتاب في غيره لا فيه، أن نضرب بغيره عرض الجدار، لا أن نقلل من ثقتنا به.
التحذير من الارتياب جاء في المقدمة، ليواجه المؤمنين بهذه الحقيقة حتى تتبين لهم مشكلة النقص التي قد يشتكي منها دارس القرآن ومتعلمه، هي تقول لهم ما ترونه نقصًا في الهدى في أحكام الدين في هذا الكتاب سببه أنتم، وليس الكتاب. والقرآن الكريم يخبرنا عن أقوام سابقة ظلت مرتابة في كتابها على الرغم من أنهم ورثوا الكتاب، ورثوه رسمًا لكنهم لم يرثوا هداه ولا معانيه، وأصبح عليهم عمًى، وأصبحوا يقرأونه وقد يدرسونه دون أن يصلوا إلى مراد الله.
من طبائع الإنسان التي تحجبه عن الهدى هي حبه للجمود و رغبته في أن يبقى على ما هو عليه، وعدم رغبته في التغيير ولا اكتشاف الأخطاء، ويرغب في ذات الوقت أن يحتفظ بمسمى المؤمن بالكتاب، ومن أجل أن يعيش هذا التناقض يتهم كتابه المنزل بالنقص بدلًا من أن يتغير على أساسه، ويأخذ من غيره الذي يؤيده على ما هو عليه ويترك الكتاب. ﴿ وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ ﴾ القمر(3).
الأسوأ من الوقوع في الارتياب هو تأسيسه ليكون قاعدة التعامل مع هذا الكتاب العزيز، ذلك حين نقول وفي بدء دراستنا للقرآن أنه لايحمل تفاصيل الدين، ولهذا فنحن مضطرون لسد هذا النقص للجوء لغيره، أليس هذا اتهام للقرآن بالنقص، اتهام يوقعنا في الارتياب فيه؟ إذا كنا نعاني من نقص في الهداية من القرآن فهذا يعني أننا لازلنا نعاني من الارتياب فيه ولا يعني أبدًا أنه ناقص.