الأنداد
| faith# مقدمة
وجدنا في آية مثل البعوضة أن السياق يتحدث بالخصوص لأهل الكتاب الذين كان من المفترض أن يكونوا أول من يؤمن برسالة القرآن الكريم ولكن وجود الغلو في قلوبهم منعهم من ذلك، ثم ومن خلال هذا السياق رأينا كيف أن آية مثل البعوضة تضرب مثلًا يوضح قيمة الإنسان أنه مخلوق أمام خالق والخلق كلهم أمام الله واحد لا ميزة لأحد على آخر، أما قول الذين كفروا "ماذا أراد الله بهذا مثلًا" إنما هو بسبب أنهم لا يريدون أن يقروا بحقيقة هذا المثل، ولا يريدون أن يروا أنفسهم وقد ابتعدوا عن حقائق الكون وحقائق الكتاب، ذلك لأنهم اتخذوا من دون الله أندادًا فضلوا عن سبيل الله.
نعلم أن الكتاب المنزل هو منطلق الإيمان، وعلى المؤمن أن يؤمن بالكتاب كله فلا يؤمن ببعض ويكفر ببعض، على أن وجود الغلو في الدين يسبب الكفر ببعض الكتاب لأن عقيدة الأنداد تخالف الكتب السماوية، وهي ما تتسبب في الكفر ببعض الكتاب وهو ما يقود أصحاب تلك العقائد إلى مرض القلب، فلا هم مؤمنون بالكتاب كله ولا هم كافرون به بل يريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلًا. وبهذا نفهم الارتباط بين الكفر الجزئي بالكتاب وبين وجود عقيدة الأنداد.
قبل الرجوع لبداية سورة البقرة نحاول فهم مشكلة عقيدة الأنداد وعلاقتها بالكفر بالكتاب من خلال دراسة آيات من سورة سبأ.
# الأنداد
يقول الله عز وجل :
﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ سبأ (31)-(33)
الآيات المباركة تنقل حوار يدور يوم القيامة بين فئتين، فئة يسميها القرآن الكريم المستضعفين والفئة الأخرى يسميها المستكبرون، وفي هذا الحوار يتقاذف الطرفان اللوم والبراءة من بعضهم البعض. نبدأ بدراسة الآيات.
# دراسة الآيات
1- ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ﴾
أصل موضوع هذا المقطع من الآيات هو الكفر بالقرآن الكريم، هم يقولون لن نؤمن بهذا القرآن، ليس لأنهم لا يؤمنون بأصل موضوع الألوهية، هم مؤمنون بوجود الله، لكنهم لا يريدون أن يذعنوا للقرآن لأنه لا يتوافق مع أهوائهم. " ولا بالذي بين يديه" أي الرسول الكريم محمد (ص).
2- ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ ﴾
الظلم هو الشرك لأنه ظلم عظيم كما تصفه الآيات، وهنا تعرض الآية صورة من صور يوم القيامة لهؤلاء وهم في ساعة الوقوف بين يدي الله سبحانه وتعالى للمحاسبة، "موقوفون عند ربهم" مامورون بالوقوف من أجل حسابهم على ماكانوا عليه، "يرجع بعضهم إلى بعض القول" يتقاذفون الاتهامات، كل فئة ترجع القول للفئة الأخرى أي ترده عليها.
3- ﴿ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ ﴾
وفي هذا المقطع يبدأ تصنيف الذين كفروا ورفضوا الإيمان بالقرآن إلى فئتين الأولى المستضعفون، والثانية المستكبرون، ويتبين قول إحداهما واتهامها للأخرى وفي رغبة منها لإثبات براءتها من عدم التوجه للقرآن، حيث يوجه الذين استضعفوا الاتهام للذين استكبروا بأنهم السبب في منعهم من الأخذ بالقرآن والإيمان به "لولا أنتم لكنا مؤمنين" لولا أنتم لكنا مؤمنين بما أنزل الله من قرآن وآيات بينات الذي هو فاتحة الآية وموضوعها الرئيس.
4- ﴿ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنْ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُجْرِمِينَ ﴾
وهنا يأتي الرد من قبل المستكبرين في ذلك اليوم كبراءة منهم للاتهام الذي وجه لهم: لسنا السبب في كفركم بل أنتم السبب! لأنكم في الأصل كنتم مجرمين، وليس المقصود بالإجرام هنا الإجرام الجنائي ولكن الإجرام الإيماني بحق القرآن والمتعلق بالحكم والعقيدة.
المستكبرون يقولون للمستضعفين: "أنحن صددناكم عن الهدى بعد إذ جاءكم" الكفر هو خياركم، ولم يكن لنا دور في ذلك الخيار، كان بإمكانكم أن تذهبوا للهدى وتأخذوا منه وتتبعوه لكنكم رفضتم واخترتم الباطل، فلا تحملوننا مسؤولية أفعالكم. المستكبرون في هذه المرحلة وفي يوم القيامة يتعاملون بتعقل على خلاف ماكانوا عليه في الحياة الدنيا لأنهم أدركوا أن حساب الله حق، وأن الإيمان بالقرآن يجسد الإيمان الحقيقي بالله فلا ينبغي أن تؤخذ آياته باستهزاء، ويصفونه بالهدى بعد أن كانوا ينكرونه ويبعدون الناس عنه في الحياة الدنيا، ولا يريدون أن يحملوا أوزار الذين أضلوهم من قبل، وقولهم هذا هو بمثابة اعلان براءة ممن اتبعهم.
5- ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً ﴾
وهنا يوضح المستضعفون عنوان مهم وهو ما سعى المستكبرون في العمل عليه وهو اتخاذ الأنداد، "إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا" هذا هو المكر وهذه هي الخديعة التي تحركوا بها وتمكنوا من خلالها استضعاف المستضعفين وإخضاعهم لما يأمرون، هنا يكشف المستضعفون أن المستكبرين كانون يأمرونهم بالكفر بالله وحقيقة هذا الكفر هو كفر بالقرآن، فالكفر بالله لا يعني بالضرورة إنكار وجوده سبحانه، والكفر بالكتب السماوية هو أحد أشكاله، وهو أصل موضوع الآيات، هم يقولون أن سبب عدم أخذنا بالهدى الذي جاءنا من القرآن الكريم هو أنكم كنتم تمكرون باسم الأنداد، تستغلون أسماء الأنداد حتى نلتفت لكم ونترك ما أنزل الله. ويتضح أن الأنداد ليسوا هم الفاعلين الحقيقيين لعملية إحراف الناس عن كتاب الله، ولكنهم المستكبرون.
6- ﴿ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوْا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الأَغْلالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾
أسروا الندامة لما رأوا العذاب لأنهم أقروا بالإجرام وشعروا أنهم مستحقون لهذا العقاب، وبدأت الملائكة تضع الأغلال في أعناقهم لسحبهم نحو جهنم.
# علاقة الكفر بالآيات بجعل الأنداد
تبرز الآيات الكريمة علاقة بين الندية وبين الكفر بالكتاب، لقد كان الحديث في بداية الآيات عن الكفر بالكتاب، ثم انتقل إلى إبراز سبب هذا الكفر وعدم الأخذ بالهدى وهو وجود الأنداد، فقد وجه المستضعفون الاتهام للمستكبرين يوم القيامة بأنهم هم المسؤولون عن جعل الأنداد لله، ويبدو من هذا الاتهام أن لهؤلاء المستكبرين مكانة والناس تستمع لهم وتأخذ برأيهم، وبسبب اعتقادهم بالند كفروا بالقرآن الكريم. فما هو الند؟ وما العلاقة بين الاعتقاد بالأنداد والكفر بالآيات؟ أو عدم الإيمان بالكتاب كله؟
الند هو المساوي في الدرجة والمقام والمكانة، وجعل الأنداد لله لا يعني الكفر بالله ولكن يعني أنه ومع وجود الاعتقاد بالله يضمر الاعتقاد بوجود أحد من البشر يملك بعض الأفعال التي هي مخصصة لله، أما عن علاقة هذا المعتقد بالكتاب المنزل، فالكتاب المنزل هو مجموعة من الحقائق والأوامر والتعليمات، وعلى الناس أن لا يأخذوا تعليماتهم إلا منه لأنه من خالقهم، ولهذا يسمى كلام الله كتاب مقدس، إذ لا كلام يأخذ المكانة العليا سواه، هو فوق كلام البشر، فإذا صدر كلام من بشر وأخذ بالقوة والانصياع الذي يجب أن يوجه لله كان ذلك البشر ندًا لله لأنه أخذ نفس الموقع والمكانة التي هي مخصصة لله وحده ويكون ذلك بالخصوص إذا كان الكلام المنسوب له يخالف كلام الله.
الله ينزّل كتابًا ويأمرنا أن نأخذه بقوة فلا منافس لكلماته ولا لقوله، ويضعف التمسك بهذا الكتاب حين يكون في قلب التابعين للرسالة كلام مساوٍ له في قدره، وهذه المنافسة قد تكون لصالح كلام غير الله فيخفت نور هذا الكلام المقدس وتتراجع أهميته وقد يصل الأمر إلى إنكاره، وهذا ما حصل لهذه الفئة التي تتحدث عنها الآيات في سورة سبأ فهؤلاء يقولون لن نؤمن بهذا القرآن، لأن مافيه يخالف ما هم عليه من أفكار وعقائد وأحكام، ثم يتضح ومن خلال الآيات أن المانع هو وجود أنداد ، وهذا ما يعني أن لؤلئك الأنداد كلمات وأحكام تخالف ما أنزل الله، فهم يرفضون الانصياع لأمر القرآن لأنهم منصاعون لأمر غير الله، والمستكبرين يعملون على أن يعتقد الناس بالأنداد وهذا يعني أن يتعبدوا على أساس مقولاتهم. أما الأنداد – وهم بشر – فلا علاقة لهم بما ينسب إليهم من أقوال وكلمات لأنهم عباد صالحون أو أنبياء ورسل تُقُوِل عليهم بعد أن غيبهم الموت.
# المكر
ذكرت الآيات الكريمة كلمة المكر حيث نسبها المستضعفون إلى المستكبرين "بل مكر الليل والنهار"، فما دلالة هذه الكلمة في هذا الموضوع وفي طبيعة العلاقة بين الفئتين؟ المكر في الدين هو وسيلة للغلبة وفرض القوة، والمستكبرين إنما فرضوا هيمنتهم على المستضعفين من خلال المكر، الآن وفي لحظة انكشاف الحقائق وبيان الحق يتضح للمستضعفين المتضررين من هذه التبعية أنهم انساقوا وراء هذه الطغمة المستكبرة بالمكر والخديعة.
وكيف تم خداعهم؟ لقد خَدع المستكبرون المستضعفين وجعلوهم أتباعًا لهم وفرضوا عليهم الهيمنة باستخدام الأنداد، " إذ تأمروننا أن نكفر بالله ونجعل له أندادا"، المستضعفون يقولون لهم أنتم من فرضتم هذا المعتقد، أنتم من جعلتمونا نعتقد في الأنبياء والصالحين بأنهم فوق البشر وفرضتم أنفسكم كممثلين رسميين ومتحدثين عنهم فأصبح كلامكم عندنا مسموع ومتبع، ولا رأي في ما يعرض علينا من هدى. أما كلمتي "الليل والنهار" اللتان جاءتا بعد كلمة المكر فلهما دلالة هامة وهي استمرارية بث الفكرة والسعي الدؤوب في زرعها في القلوب دون كلل أو ملل حتى لا يكون لغيرهم الغلبة.
# المستكبرين والمستضعفين
الآية فصلت الكافرين إلى فئتين ولتسميتهما دلالة هامة في فهم موضوع علاقة الكفر بالكتاب والأنداد، الفئة الأولى تسمى "المستضعفين" وهم فئة مورس ضدها الاستضعاف، ومن خلال فهم السياق الذي تتحدث عنه الآية والذي هو الأخذ بالقرآن الكريم نفهم أنه استضعاف في الرأي، فهم يسفَّهون في رأيهم، ونفهم - ومن خلال النتيجة التي وصلوا إليها يوم القيامة - أنهم قبلوا بهذا التسفيه حيث أضعفهم وأقنعهم بضرورة التبعية وعملوا على أساسه فلم يتجرأ أحد منهم على أن يأخذ قراره بنفسه والنتيجة أنهم لم يتمكنوا من الذهاب إلى كتاب الله والتعامل معه والأخذ بآياته.
أما الفئة الثانية فهم المستكبرون، والمستكبر هو من طلب العلو ومارس التكبر في سلوكه كصفة ملازمة اعتقادًا بهذا الكبر وعلى أساس أنه حق من حقوقه، ويمكن أن نفهم طبيعة التكبر من خلال السياق أنه على جهتين: الأولى على الناس، والثانية على الحق، ويبدو من خلال العلاقة بين الفئتين أن المستكبرين هم الذين استضعفوا الفئة الأولى لدرجة أنهم تمكنوا من سلبهم القدرة على اتخاذ القرار في مواضيعهم المصيرية الإيمانية، وهم الذين تكبروا على الحق الذي صدر من القرآن الكريم.
# خاتمة
إذا افتعل المستكبرون وبواسطة الأنداد كيان وهمي يخدعون به أتباعهم ويصدونهم عن الحق وعن كتاب الله، صنعوا نظام حماية عن التفكير وعن التأمل في القرآن الكريم وصدوا الناس عن كلام الله حتى تبقى لهم الغلبة والهيمنة، ولقد تبين من خلال دراسة هذه الآيات المباركة علاقة جعل الأنداد والكفر بالآيات، و يبقى أن نعود إلى آيات بداية سورة البقرة والتي ذكرت مثل البعوضة من أجل تحطيم هذا الكيان الكاذب وإعادة الناس إلى الإيمان بكلمات الله ورفض الأنداد.