مدونة حلمي العلق

مثل البعوضة

 | faith

مقدمة

لقد علمنا في الحلقة السابقة من مفهوم الإيمان في القرآن الكريم، أن كتاب الله وآياته هي العروة الوثقى التي يجب على المؤمن أن يتعلق بها أشد التعلق خوفًا، ولقد علمنا من الآيات أن عدو هذا الكتاب الذي توعد بأن يعترض للناس صراطهم المستقيم هو الشيطان الرجيم، هو الذي يفتعل سبلًا أخرى غير سبيل الله حتى يحرف الناس عن كتاب الله.

نقف أمام مشكلة تعترض إيمان المؤمن في كتاب الله وعند عنوان مهم وهو تأسيس الأنداد، هذا التأسيس الذي يستطيع الشيطان من خلاله أن ينفذ للجماعة المؤمنة ويغير سبيلها وطريقتها وبالتالي يحرفها عن جادة الصراط المستقيم، ويبدأ الشيطان في تأسيس الأنداد من خلال العبث في عقيدة يمكن أن نسميها ( عقيدة مثل البعوضة ) والتسمية قرآنية مأخوذة من آية مثل البعوضة في بداية سورة البقرة.

لهذه العقيدة أهمية إذ تبنى عليها حقائق الإيمان، وتنطلق منها العقائد ، إذ يمكن للشيطان أن يؤسس للأنداد من خلال العبث في حقيقة تلك العقيدة، ويمكنه بعد أن يؤسس للأنداد أن يغيّر في الطريقة كما يريد. يبدأ أولًا في العبث في عقيدة (الأنا)، وبعدها يتمكن من صناعة الند ويغير في الشريعة والأحكام.

آية مثل البعوضة

بدأت سورة البقرة المباركة بالحديث عن مراتب الناس في الإيمان بالكتاب، ثم أعقبت ذلك بمثل مهم هو محط بحثنا في هذه الحلقة وهو مثل البعوضة، نتعرف على حقيقة هذا المثل ثم بعد ذلك نتعرف ومن خلال الحلقات القادمة إن شاء الله على أثر ذلك المثل في العقائد وكيف آلت الأقوام السابقة إلى الابتعاد عن كتبها بسبب الوقوع في حقيقة هذا المثل. يقول الله سبحانه وتعالى:

﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفَاسِقِينَ ۝ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ ﴾ البقرة (26)-(27)

المعنى العام للآية

1- هل المقصود من الحياء في الآية هو الله؟ أم البشر ؟

الحياء يعتري البشر، ولكن لا يصل إلى الله سبحانه وتعالى، فإذا ذكر الحياء في قضية، فهي تشير إلى الإنسان لا تشير إلى الله، ولكنها تنسب إلى الله مجازًا كما في الآية الشريفة ( فيسحيي منكم ولكن الله لا يستحي من الحق) والتي تحدثت عن دخول المؤمنين لبيوت النبي والمكوث فيه بعد الطعام في الوقت الذي كان النبي يحتاج فيه للراحة، ولكن النبي يستحيي من أن يخبر المؤمنين بذلك، ولكن الله أخبرهم لأن الله لا يستحي من الحق. فالحياء لا يطال الله، سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرا.

فالمقصود من الحياء في الآية الشريفة هم البشر، هم الذين يستحيون من أن يضربوا هذا المثل الذي تذكره الآية، ولكن الله لا يستحيي.

2- هل يصح أن نقول أن معنى الآية هو أن الله لا يستحيي أن يضرب أي مثل؟ حتى ولو كان هذا المثل بالبعوضة؟ على أنها كائن حقير؟ وهل يستحيي المؤمنون من المثل لأنه مثال استهجان من قبل الكفار؟ ولأنهم لا يقبلون به؟ فهل يقف القرآن الكريم في قضية لإرضاء الكفار في طريقة وأسلوب القرآن في عرض القضايا الإيمانية ؟

مقاطع الآية

1- " إن الله لا يستحيي "

الحياء هو شعور داخلي يمنع الإنسان من قول أو فعل، والإنسان حي بشعوره الذي قد يكون سببا في انقباضه عن فعل شيء ما. وإذا قل الحياء انطلقت أفعال الإنسان وأقواله بلا قابض ولا مانع لها. تذكر لنا سورة القصص وفي إطار قصة نبي الله موسى قصة إحدى الفتاتين اللتان سقا لهما، ثم جاءته لتخبره أن أباها يريد أن يجزيه حسن صنيعه، تقول الآية الشريفة (فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا) آية 25 سورة القصص. يصف القرآن مشيتها أثناء قدومها إلى موسى بالاستحياء، أي أن حياءها يمنعها من التقدم لإخبار موسى بهذا الأمر. تلك المشاعر الداخلية كونها أنثى هي التي كانت تمنعها من التقدم نحو نبي الله موسى (ع).

مشاعر الحياء تعتري البشر، لكنها لاتعتري خالق البشر سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرا، وحين تقول الآية الشريفة: " إن الله لا يستحيي " فلأن ما في هذه الآية من مضمون يجعل الإنسان في حرج الحياء من الحديث عنه أو البوح به، ومشاعر الحياء تلك تشمل الإنسان لكنها لا تشمله سبحانه وتعالى، أنتم تستحون من ضرب هذا المثل، لكن الله لا يستحيي.

2- " أن يضرب مثلًا "

الأمثال تضرب دون حياء، ولكن في الآية تخصيص إلى مثل محدد يستحيي الإنسان أن يضربه، وخصوصًا أولئك المعنيين به، ولكن الله يضربه في كتابه من أجل تصحيح عقيدة باطلة هي التي أدخلت الحرج في النفوس والامتناع من سماعه أو الحديث به، والضرب هو التثبيت، والمثل يضرب من أجل توضيح الفكرة وتثبيتها فلا تشبته بغيرها.

3- "ما بعوضة فما فوقها"

هل هذا هو المثل؟ أم أن هذا تعليق عليه؟ هذه العبارة تتحدث تعليقًا عن المثل الذي يفترض أنه ضرب قبلها، ومن هذا يجب أن نبحث ومن خلال هذه الكلمات البسيطة عن المقدر المحذوف في هذه الآية الشريفة حتى نعلم ما هو المثل؟ ويمكن فهم هذه العبارة من خلال السياق.

سياق الآية

1- "فأما الذين آمنوا فيعلمون أنه الحق من ربهم"

الذين آمنوا يعلمون أن هذا المثل وما يحويه من مضامين هو الحق، وهذا ما يؤكد أن الموضوع عقائدي، وإلا كيف يعلمه الذين آمنوا؟

2- " وأما الذين كفروا فيقولون ماذا أراد الله بهذا مثلًا"

الذين كفروا لا يقولون ما معنى المثل! هم يعرفون ماهو معنى المثل، ولكنهم لا يعرفون ما هو الغرض من ضربه، هم لا يدكون لماذا ضرب الله هذا المثل؟ هل يقصدهم في شيء من عقائدهم؟ هل يقصد أنهم أخطأوا في جزئية من جزئيات دينهم؟ هم لا يعلمون؟ وهنا نقف أمام مشكلة في التعامل مع القرآن الكريم وهي أن المعرفة في ذاتها لا تغني، إذ لابد من الوقوف عند المصاديق لها.

3- "يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا"

من فهم حقيقة المثل فقد اهتدى، ومن لم يعرف حقيقته فقد ضل، المؤمنون اهتدوا به، وعلى عكسهم الكافرون الذين ضلوا به، وهذا يؤكد أن هذا المثل يتضمن مفهوم عقائدي هام، وله علاقة وطيدة بإيمان المؤمن، وكأن الاية تحذر من الوقوع ضمن الذين لا يعلمون حقيقة هذا المثل، والحقيقة العقدية التي تتضمنه.

4- "وما يضل به إلا الفاسقين"

وهنا يتم تحديد الفئة التي تنحرف وتضل بسبب عدم فهمها لحقيقة تطبيق المصداق عليه في حياتها الإيمانية، هي الفئة التي فسقت عن أمر الله، والفسق هو معصية الله بعد تبديل الحكم في كتابه، وما يؤكد هذا المعنى هو ما ذهبت إليه الآية التالية التي قالت:

سياق الآية التالية

﴿ الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ ﴾ البقرة (27)

1- " الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ "

ميثاق الله هو كتابه المنزل، وهؤلاء لديهم كتاب من عند الله لكنهم لا يمتثلون لأوامره، ونقض الميثاق يأتي بعد إبرامه، فإذا لم يلتزم الإنسان بعد أن تواثق على شيء يقال عنه أنه نقض الميثاق.

2- " وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَل"

وهم هنا مأمورون أن يوصولوا شيئًا للناس، ولكنهم لم يوصلوه، فاصبحوا قاطعين له، لماذا؟ وما الذي أمر الله به أن يوصل؟ هي أوامره التي أنزلها في كتابه، هي التي يجب أن تصل إلى الناس كما هي، لكن المؤتمنين على كتاب الله لم يوصولوها، وبدلًا من ذلك بدلوها وأوصلوا ما يخالفها، لأنهم وكما توضح تتمة الآية :

3- "وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ"

عدم إيصال كلام الله للناس هو قطع لما أمر الله به أن يوصل، والإفساد في الأرض هو إيصال ما يخالفه، فالرسل إنما يأتون للناس مصلحين بأوامر الله، ومن يبدلها فقد أفسد في الأرض ( لا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها).

والآن بعد التعرف على هذا السياق نحاول أن نقدر المثل الذي ضربته الآية الكريمة.

تقدير المثل

المقدر المحذوف

﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا﴾

القرآن الكريم يتحدث باختصار، وهذا الأمر يتطلب من متدبر القرآن أن يكون واعيًا لكل المختصرات المتضمنة في الآية، فيخرج بعد أن يتعرف على السياق المعارف المخبوءة فيها والتي لا تخرجها عن أصل موضوعها وسياقها الذي وردت فيه. وهنا نسأل: ما هو المقدر المحذوف في هذه العبارة؟ العبارة ( ما بعوضة فما فوقها ) هي تعقيب على المثل، هكذا يتحدث القرآن باختصار، وعلينا هنا أن ندرك ما الذي قيل حتى يُعَقب عليه بهذه العبارة؟ (ما بعوضة فما فوقها).

لقد أدركنا من خلال سياق الآيات التالية أنه موضوع عقائدي، لنتأمل إذًا في كلمة "فوقها"، هل يمكن أن يؤخذ معنى هذه الكلمة على أساس أن الآية تتحدث عن ما فوق ظهر البعوضة؟ كيف وهو أمر لا يرى بالنسبة للأقوام السابقة، والذين بينت الآية أن منهم فئة مؤمنة يعلمون أنه الحق من ربهم؟! فهذا التوجه في فهم هذه الكلمة مستبعد ولا يقود إلى كشف أمر عقائدي يعلمه المؤمنون الأوائل! ولكن يمكن أن نحدد اتجاه آخر للكلمة، أن الفوقية التي تعنيها الآية هي الترتيب التصاعدي للخلق حسب أقدارهم، ويمكننا أن ندرك معنى العبارة بالشكل التالي : ماقدر بعوضة فما فوقها؟ يقول الله سبحانه وتعالى :

﴿ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ الأنعام (165)

الآية تتحدث عن درجات البشر، وتقول " بعضكم فوق بعض" وكل درجة تأتي من بعدها درجة أخرى هي فوقها. وهذا هو ما يمكن أن نفهمه في آية ( ما بعوضة فما فوقها ) أنها تتحدث عن ترتيب للخلق بدءً من أحقرها بالنسبة لما يشاهده الإنسان ولما يعتبره أنه حقير، فالمخلوقات درجات، أما الإنسان فقدر البعوضة حقير جدًا بالنسبة له، وحتى بالنسبة لبقية المخلوقات، وآية مثل البعوضة لا تجعل النسبة بين المخلوقات أنفسهم ولكنها تجعل المخلوقات في نسبة مع الله سبحانه وتعالى، لذا شملت كل المخلوقات بكل درجاتها في قدر واحد وكأنها تسأل: (ماقدرهم كلهم) ؟ لتكون الإجابة هي : كلهم مخلوقات أمام خالق، كلهم واحد.

إذًا هو تساؤل يستجلي حقيقة الخلق قاطبة، لأن الإجابة عليه واحدة، هي أن قدر المخلوقات واحد بدءً من أحقرها وهو البعوضة. وعلى ذلك يمكننا أن نستنتج المثل المضمر في الآية، ونقرأها بالشكل التالي : ( إن الله لا يستحيي أن يضرب بعوضة مثلًا للإنسان ) ليكون التعقيب عليه بالعبارة ( ما قدر بعوضة فما فوقها) تعقيب ملائم له.

قدر الإنسان

المثل يكشف حقيقة قدر الإنسان كصنف من البشر أمام الله سبحانه وتعالى، على أساس القاعدة ( من عرف قدر نفسه عرف قدر ربه ) ، فالإنسان يعتبر من أعلى أصناف المخلوقات كرامة لما يتمتع به من إمكانيات وميزات ميزه الله بها، لكن هذه الميزات لا تخرجه عن إطار المخلوقات، فهو بالنسبة لبقية المخلوقات أفضلها وأكرمها وأذكاها، ولكن الجميع أمام الله مخلوق. وكأن الآية تعالج مشكلة الغرور الذي يحصل للإنسان حين ينظر لما يمتاز به على غيره، فيظن أن له عند الله امتيازًا ، وقد يأخذه الاعتقاد في هذا المنحى إلى أن الله يعامله معاملة خاصة دونًا عن بقية المبشر أو بقية المخلوقات، وخصوصًا في موضوع الحساب يوم القيامة.

العبارة تحدد قدر المخلوقات قاطبة لتعيد للإنسان تعريف خلقه بعد أن اعتراه التغيير، فهو كائن مخلوق مقرون بغيره من المخلوقات لا يخرج عن إطارها، لأنه واحد منها، ولأنه كذلك فقدره لن يتجاوز هذا التعريف (مخلوق)، والذي خلقه هو الذي خلق البعوضة، وإقرانه بالبعوضة أمر يدركه الإنسان بحواسه كونها كائن حقير تسحقه الأيدي في لحظة، هذه المقارنة هي الصدمة التي قد يتعالى عليها الإنسان ولا يرغب في إدراكها.

يقول الله سبحانه وتعالى :

﴿ يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ ۝ الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ ۝ فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ ﴾ الانفطار (6)-(8)

هذه الآيات الكريمة تتحدث في ذات السياق الذي تحدثت فيه آية البعوضة، وتحذر الإنسان أن يقع في الغرور في اعتقاده في نفسه بسبب أن الله كرمه على بقية البشر، فلا معنى لهذا التكريم وهذا التميز غير أن الله يختبر الإنسان ويمتحنه .وإن وقوعه في الغرور يؤثر عليه عقائديًا، وآية مثل البعوضة هي آية عقائدية، هي تتحدث عن أمر يستحي أن يتحدث عنه الإنسان، ويمتنع من البوح به وهو أن يشبهه كمخلوق بالبعوضة.

لهذا المعنى بعده على مستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي كما سنلاحظ ذلك في الحلقة القادمة إن شاء الله.