سورة فصلت من آية (30) إلى آية (36)
| ayat | fussilat﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ (30)
﴿ إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾ هؤلاء هم المؤمنون الذين يقولون ربنا الله في قبال من نسب الربوبية لغير الله قولًا أو عملًا، وهؤلاء نسبوا الربوبية لله عز وجل إخلاصًا له، وبالنظر في الآيات السابقة نفهم أنهم يُخلصون الربوبية لله في قبال من أعرض عن آيات الله وحاول أن يُلغيها باللغو، وفي هذا تبيان لارتباط الربوبية باتباع الآيات قولًا وعملًا، فأما القول فقولهم ﴿رَبُّنَا اللَّهُ ﴾ وأما العمل فهو الذي أدى بهم للاستقامة على ما أنزل الله ﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾
أما الحرف (ثم) في قوله تعالى ﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا ﴾ ففيها دلالة على أن الخطوة الأولى وهي الاعتراف لله بالربوبية لابد منها ولكنها لا تكفي، فالقول بربوبية الله متيسر للجميع، ولكن الأغلبية لا تستقيم بعد هذا الاعتراف، ولا تطبق ما أنزل الله.
﴿ تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ ﴾ هذه إشارة لما سيؤول إليه حالهم يوم القيامة، فهذه هي بشراهم للآخرة أن الملائكة تَتنزل عليهم لتطمينهم في يوم الفزع الأكبر أن لا تخافوا ولا تحزنوا، فكل ما يظهر في ذلك اليوم يثير في القلب القلق ولكنهم في حال آخر ﴿أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ ﴾ ولقد كانوا يوعدون في الدنيا أن من استقام على تعاليم السماء يحظى بالجنة والسعادة والرضوان، وفي الآية تحضيض للمؤمن للعمل على أساس ما أنزل الله.
﴿ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾ فصلت (31) -(32)
﴿ نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ ﴾ هؤلاء الملائكة يَظهرون في يوم القيامة كأولياء للمؤمنين بصورة مكشوفة، وهم يتولون المؤمنين في ذلك اليوم، بحيث يقومون بتطمينهم والأخذ بهم والحفاظ عليهم من أهوال القيامة، الآية تُبين ماقبل ذلك، فقد سبقت هذه الولاية - في الآخرة - ولاية خفية في الدنيا، فقد كانوا أولياءَ للمؤمنين الذين تَمسكوا بأوامر الله في الحياة الدنيا، وما تلك الولاية إلا لعلاقتهم بكتاب الله وتمسكهم بآياته وسيرهم على تعاليمه، فمن سار على نهج الكتاب تتولاه الملائكة لتهديه وتخرجه من الظلمات إلى النور في الدنيا قبل أن تتولاه في الآخرة.
تتواصل تلك الولاية لتكون ظاهرة مكشوفة وبصورة مباشرة يوم القيامة حتى يصلون بهم إلى جنة النعيم، ليتلبى لهم كل ما يتمنونه وكل ماتشتيه أنفسهم من ملذات، وكل ما يدّعون به ﴿ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ ﴾
﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ (33)
تنتقل الآية (33) للحديث عن أحسن القول وهو الدعوة إلى الله ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ ﴾ وأضافت العمل الصالح ثم أضافت الآية صفة الإسلام، ﴿ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾، وفي هذه الآية تبيان لأفضل وظيفة يقوم بها المؤمن ولعمله الذي يقوم به وصفته التي يعلن عنها.
وفي هذا بيان لطبيعة المؤمنين الذين تحدثت عنهما الآياتان السابقتان، وقد قدمت الآياتان البشرى لتوضح بعدها من يستحق هذه البشرى؟ هم أولئك الذين دعو إلى الله قولًا وعملًا وهوية، وكل ذلك مرتبط بالكتاب المنزل وآياته البينات، فالحديث في الآيات السابقة كان عن الإعراض عن الآيات من قبل من حاول مغالبة المؤمنين باللغو فيها من أجل الوصول إلى الغلبة، والمقصود من الغلبة هو أن يكسب الناس في صفة فيصبح في نظرهم أنه هو الغالب بعقائده التي يعتقد بها. أما هؤلاء المؤمنون فهم يواصلون في التزامهم بكتاب الله والدعوة إليه، وهذا هو مصداق للدعوة إلى الله، أما العمل الصالح فهو تطبيق ما أمر الله به في كتابه، وأما الإسلام فمنسوب للكتاب أيضًا، فالمسلم عكس المعاند لأوامر الله والذي يحاول أن يلغي ما أمر الله به.
﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ (34)
الآية تتحدث عن التعامل الحسن والتعامل السيء، بدلالة ذكر كلمة (العدواة)، والله عز وجل يؤكد على المؤمن الذي التزم بكتابه أن يلتزم بالتعامل الحسن حتى مع من يكن له العداوة لأنه ﴿ وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ﴾ فالذي يتعامل بالحسنى لا يستوي عند الله مع الذي يتعامل بالسيئة، والآية ترمي لهدف أعلى من مجرد التعامل مع الناس التعامل العادي، لأنها تتحدث عن دفع السئية ﴿ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾، فالمؤمن هنا يتعرض إلى إساءة من غيره، فكيف سيتعامل؟ هل سيدفع السيئة بالسيئة أم يدفعها بالحسنة؟ والآية ترشد المؤمن إلى عدم تساوي ردتي الفعل هتين! مرجحة التعامل بالحسنة بطبيعة الحال.
بدأت الآية بالمقارنة بين ردتي الفعل بترجيح الدفع الحسن على الدفع بالسيئة، وانتهت مبينة أن نتيجة الدفع الحسن هو أمر حسن أيضًا ﴿ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾، فالدفع الحسن سيقود إلى انقلاب العلاقة وتحولها من عداوة إلى عكسها، وقد عبرت الآية الكريمة عن انقلابها بالتعبير الهام ﴿ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾ وعكس العداوة هي المودة والمحبة وهي معاني مشتملة ضمن الولاية، أما الولاية فأوسع من ذلك فتشتمل على أخذ الدين من هذا المؤمن الذي كان محط استهجان ورفض.
﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ (35)
الآية الكريمة بهذا الوصف إنما تدعو المؤمن للتمسك بالصبر حتى يصل إلى هذه المرتبة الإيمانية التي تؤهله لأن يتعامل مع الأعداء بروح عالية، وتعقيبًا على الآية السابقة التي أشارت إلى ضرورة رد السيئة بالحسنة، جاءت لتشير إلى متطلب أساسي يؤهل المؤمن للوصول إلى هذه المرتبة، فهذا السمت وهذه القدرة ليست قرار فحسب وإنما هي نتيجة لعمل سابق قدمه المؤمن وهو الصبر، والصبر يشتمل على الصبر في العبادة والصبر على الملذات والصبر على المكاره، كل أنواع الصبر تلك تؤهل المؤمن لأن يصل إلى أن يتحلى بصفة الدفع الحسن
الآية تعبّر عن الحصول على ذلك التأهيل بالتلقي ﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا ﴾، فإذا قلنا أن المؤمن تلقى، فما الذي تلقاه؟ ومن الذي ألقى إليه؟ المؤمن يلقى الحكمة من عند الله عز وجل جزاء على عبادته وصبره، لأننا في التعاملات وخصوصًا تلك التي تحتاج إلى صبر فإننا نصف الثابت فيها بالحكيم، وهذه الحكمة هي حكمة عملية، فقد يتعلم الإنسان الحكمة بأقوالها وألفاظها دون أن يطبق منها شيئًا لأنه لا يمتلك قوة التنفيذ بسبب فقدان الصبر، ولكن حين يلقى المؤمن الحكمة من عند الله فهو يلقى التصرف الحسن ويتلقى الصبر المؤازرة واللازمة لتطبيق لتلك الحكمة .
﴿ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ ﴾ هذا التعبير القرآني مقارب للتعبير الذي رافق عبارة إيتاء الحكمة في آية ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾ البقرة (269)، فمن أوتي الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا، ومن أوتي الخير الكثير فقد حظي بحظ عظيم.
﴿ وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ (36)
تحدثت الآيات في البداية عن الدعوة إلى الله وذلك من خلال الدعوة للتمسك بالكتاب في قبال دعوة أخرى يتبناها فريق آخر معادي لكلمات الله ولما أنزل الله من آيات بيّنات، وبيّنت مآل الفريق المتمسك بكتاب الله والداعي إليه، ثم تحوّل الحديث عن دفع السيئة بالحسنة، ذلك التعامل الذي يحول العلاقة ومن العداوة إلى الولاية الحميمية، فما علاقة الدعوة بالعداوة؟
الآيات الكريمة تبيّن الطريقة المثلى للتعامل مع أعداء الكتاب، هي تبيّن لأتباع الكتاب والمتسمكين به - ضمنًا - أن طريقكم ليس محفوفًا بالورود بل هو طريقُ ذات الشوكة، وعليكم أن تتهيأوا لعداوة من يرفض هذه الدعوة الخالصة لله، الآية الكريمة تبيّن ذلك أثناء حديثها عن التعامل الذي يرتضيه الله عز وجل من المؤمن في التعامل مع العلاقات السيئة التي تسيء للإنسان، فهي تقول : أنتم تقولون أحسن القول وتعملون أفضل الأعمال بدعوتكم إلى الله عز وجل، ولكن هذا الأمر لا يُرضي كثير من الناس، فالبعض قد يتعامل معكم بالسوء حتى تتراجعوا عن دعوتكم، فهاهنا يجب عليكم أن تعلموا أن لا تساوي عند الله بين من يدفع السيئة بالحسنة وبين من يدفعها بالسوء، فلا تدفعوا السوء بالسوء فنتيجته سيئة، ولكن ادفعوا السوء بالحسنة لأن نتيجته حسنه.
وعلى الرغم من أن الآيات السابقة وصفت من يدفع نحو إفساد الدعوة لله والدعوة لكلماته بوصف العداوة لله ﴿ أَعْدَاءِ اللَّهِ ﴾ إلا أنه عز وجل يوجه المؤمنين للتعامل مع أعداءه بالحسنى، علهم يكفون أذاهم ويرجعون إلى الإيمان من خلال تعامل المؤمنين الحسن معهم، وإن أتقن المؤمنون الدفع الحسن فالنتيجة هي أن العدو سيتحول إلى ﴿ وَلِيٌّ حَمِيمٌ ﴾، وهي غاية المقصود فتولي المؤمن يقود إلى الأخذ بالإيمان والاقتراب من الكتاب.
في الآيات الكريمة توجيه إلى ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن الداعي إلى الله والداعي إلى كلمات الله، فيجب على المؤمن أن يتحلى بالصبر على المكاره والأذى من قبل من يعادي هذه الدعوة، وتبين كذلك أنه لن يصل إلى هذا التأهيل مالم يتحلى بالصبر ، فالصبر هو قنطرة العبور ووسيلة للوصول لأهم وظيفة وأفضل قول وهو الدعوة إلى الله عز وجل.