مدونة حلمي العلق

كيف نفهم القرآن

 | مقدمة

مقدمة

إذا كنت آمنت بالقرآن بالتجربة و عشت الإيمان الحقيقي ولمست بقلبك أن هذا كلام الله، فأنت مدان لهذا الكتاب، ويجب أن نعلم أن هذا الكتاب غيور ولا يريد أن يرى منافسًا له في قلبك، صاحب هذا الكتاب يريد أن يراك مملوك له بالكامل ويريد أن يرى هذه الملكة متجسدة في تمسكك بالكتاب، وتمام تلك الملكية أن لا يراك تطيع أحدًا غيره، وتجسيد ذلك أن لا يرى في قلبك قداسة لكتاب غيره.

بعد أن دخلنا القرآن من باب الإيمان، ثم علمنا موقعه في الدين نتحدث حول طريقة فهمه ولكن بعد أن نذكر بالقاعدة التي أخذناها سابقًا:

1- اخلع نعليك

خذ القرآن بلا خلفية مسبقة، يجب أن نسمح للقرآن أن يؤثر فينا ويغيّرنا، أن يبدّل أفكارنا، أن يصححنا، وعلينا أن لا نجعل للأفكار التي اكتسبناها قبل أن نصل إلى محطة الإيمان بالكتاب الغلبة، أن ننطلق منه حتى يبيّن لنا الطريق الصحيح، بلا خوف من النتائج التي سنحصل عليها من خلال اتباعنا له، بلا شك في أنه خير دليل، بلا ارتياب في أنه سيصل بنا إلى الهدى الذي نحمد الله عليه في الدنيا قبل الآخرة. فإذا دخلنا إليه بشروط أن يتحدث بما نريد وما نشاء، هذا يعني أننا قيدناه ليكون تابعًا لنا لا متبوعاً، مقودًا لنا لا قائدا، بل يجب أن نضعه موضع القيادة وموضع الإمامة حتى يؤمنا إلى خيرنا وسعادتنا.

2- حين تعلم أسلم

في أي علم وفي أي قضية مالم يتحرك الإنسان بالعلم الذي علمه لن يتطور فيه ولن يصل إلى مرحلة أعلى، كذلك مع القرآن، لابد وأن نعمل بما علمنا حتى نحصل على الدرجة التالية وحتى نستزيد من العلم، الحركة تفتح آفاق الهدى، والإسلام لكلماته دليل على رغبتنا الجادة في المواصلة.

لماذا ندرس القرآن ونتدبره؟

على المؤمن بهذا الكتاب أن يضع هذا السؤال نصب عينيه قبل أن يبدأ في رحلة البحث عن معاني ومضامين القرآن الكريم، هل من أجل أن نتميز على أقراننا بعلم مختلف؟ أو حتى نبرز قوانا العلمية أمام الناس؟ أو للتباهي والاستعراض؟ ندرس القرآن لأن دراسته مسؤولية أمام الله، ونتدبره لأن الله أمرنا بتدبره والعمل بمقتضاه وأن لا نخالفه، ندرس القرآن لأنه حبل الله من النجاة من النار، ففيه السلوكيات والأوامر التي يأمر بها الله عباده. ؟

ثم إذا درسناه بنية صالحة، ما هو توجه الدراسة؟ هل هو الوصول إلى المعاني الإعجازية في البلاغة؟ أو للتحقق من موافقة هذا الكتاب مع العلوم الطبيعية؟

لقد وجدنا أن القرآن الكريم رسالة وهذه الرسالة لها مضمون يجب أن يصل للإنسان، وحين ندرك الغرض من الرسالة ندرك ماذا نريد نحن من هذه الرسالة؟ ولنضع المثال التالي: زيد وصلته رسالة من عمر، استقبلها زيد من ساعي البريد ودخل بها إلى المنزل مهتم بها ومشتاق لمعرفة مضمون الرسالة التي أرسلها له عمر ، عمر أرسل إلى زيد رسالة يحذره فيها من اقتراب انفجار البركان القريب من قريتهم، زيد أخذ الرسالة وأخذ يتأمل في جماليات صياغة عمر للجمل، والصور البلاغية التي فيها، ثم أخذ يشرح لأبناءه الرسالة ليبين لهم سعة مدارك عمر وفهمه الشامل للعلوم والجلوجيا، ثم قال لأبناءه كم أنا أحب هذا الشخص إنه انسان عظيم. هل أدرك زيد هدف الرسالة؟

هل سعى لتطبيق شيء منها؟ هل سينجيه حبه لعمر من الكارثة القادمة؟ هل نفعه إدراكه للجوانب البلاغية الموجودة في الرسالة؟ لا ، لكنه لو سعى في الحركة والابتعاد عن منطقة الخطر، ثم جلس ليتدارس كل تلك الجوانب فلا عتب ولا مشكلة في تلك المدارسة، ولكن أن ينشغل بالمهم عن الأهم، أن ينشغل بالعلوم عن النجاة وعن طريق الهدى نقول حينها أن زيد لم يأخذ بمضمون الرسالة.

يجب أن يكون الهدف من تعلم القرآن هو الحصول على الهدى، ولن نحصل على الهدى إلا إذا كنا بحاجة له، وكانت -تلك الحاجة - هي المحرك للبحث عن طريق النجاة، أما إذا مات ذلك الدافع، وقتلت تلك الحاجة فستتحول دراسة القرآن إلى شيء محبب ليس أكثر .

كيف نفهم القرآن؟

دع القرآن يجيب، إذا انطلقنا من القرآن من قاعدة إيماننا أنه من عند الله وأنه رسالة الخالق للمخلوق، لا ينبغي أن نسبقه في إجابة سؤال إذا كان القرآن قد أجاب لنا فيها، لأنه جاء ليهدينا ويرشدنا ويضع عنا الإصر والأغلال. يجب أن نوجه سؤال: كيف نفهم القرآن الكريم للقرآن نفسه، دع القرآن يتحدث عن نفسه، هو من يشترط علينا الشرائط في فهمه وهو من يضع الأدوات والسبل، بعد أن تحدد الهدف واتضح الغرض من دراسته وفهمه نتقدم للخطوة التالية وهي أن نسأل القرآن عن سبل فهمه، وسبل اكتساب الهدى منه.

بداية سورة البقرة

في واجهة القرآن الكريم ومن بدايته ومن فاتحة سورة البقرة نجد هذه الآيات الكريمة، وهذه الآيات تحدثنا عن هدف فهم القرآن وكيفية فهمه:

(بسم الله الرحمن الرحيم)

﴿ الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالآخرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُوْلَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ (5) ﴾ البقرة

1- "ذلك الكتاب"

يعني أنه بعيد رفيع عن الجميع، عال لكنه هدى للمتقين،

2- " لا ريب فيه"

الريب موضوع كبير ومهم في القرآن، المؤمن لا يرتاب في أحكام ولا عقائد الكتاب.

3- " هدى "

المتقون لا يرتابون في الكتاب، وهو بعيد لا ينال هداه أحد إلا المتقين. ومن هنا نستشعر القواعد التالية:

أ- أن صاحب الكتاب متحكم في أفهام الناس حسب التقوى

ب- التقوى هي التي تبعد الريب في الكتاب، وهناك من يرتاب فيه.

ج- اسم القرآن هنا الكتاب، والمتقي يعتبر أن هذا القرآن كتب عليه أوامر وهو ملزم بها.

د- هدف دراسة القرآن هي الحصول على الهدى.

4- "المتقين * الذين"

الله سبحانه وتعالى في موضوع التقوى أعطى صفات، لا يكفي أن تعرّف التقوى باللغة فتقول أنها من الوقاية، بل يجب أن تعرفها وتميزها عمليًا، كلمة تعريف يعني أن تعرف الآخرين بالألفاظ، أما كلمة تعرف يعني أن تميز أنت. لا يكفي أن نعرّف سمكة محددة كسمكة الصافي، بل لابد من أن نراها بأعيننا ونقول هذه هي السمكة، تخيل أن أحد يعرف لك سمكة مثل الصافي بكل تفاصيلها، ثم يقال له هل هي هذه؟ فيقول: ربما؟ لا أعلم ؟ ما فائدة الحديث المطول عن تلك السمكة؟ فالله سيسأل عن العمل يوم القيامة ولن يسأل عن التعريف اللغوي الذي تحفظه في ذهنك. فإن كان تعريفك اللغوي قد زاد في عملك فهذا خير وإلا فلن تكون منه أي فائدة. وهنا يجب أن ننتقل من التعريف النظري إلى المعرفة العملية. والآيات تريد منا أن نعرف التقوى في أنفسنا وليس في الآخرين.

﴿ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمْ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ ﴾ سورة البقرة.

5- " يؤمنون بالغيب"

الله سبحانه وتعالى يقول أن الإيمان مبني على الغيب، ولقد عشنا تجربة غيبية مع القرآن الكريم في الحلقة الثانية من هذه الجلسات، وهنا يجب أن تسأل نفسك عدة أسئلة متعلقة بهذا الغيب: هل تؤمن أن هذا الكتاب جاء عن طريق الغيب؟ أي أن الذي أوصله هم الملائكة للنبي محمد(ص) ثم تلاه النبي على قومه؟ هل تؤمن بالملائكة؟ هل تؤمن بأن الملائكة تحضرك إذا تلوت القرآن، هل تؤمن أن الملائكة تحف بمن يتدارس القرآن ويلهمونه الحق إذا شاء الله له ذلك :

﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43)﴾ سورة الأحزاب

لابد حتى نحقق التقوى أن نحقق هذا الإيمان

6- " ويقيمون الصلاة"

وهذا عنوان مهم، هنا شرط مهم للحصول على التقوى، وهو إقامة الصلاة إقامة كما يتحدث عنها القرآن أنه إقامة، ومن هنا يجب أن نذكر بضرورة الاهتمام بالصلاة بأدائها في أوقاتها، بعدم التعجل في إقامتها، بإكثار قراءة القرآن فيها وعدم الاكتفاء بالسور القصار، بعدم هدم الصلاة عند الانتهاء من أدائها بالصورة الشكلية، بل ابق على تواصل مع الله بالتسبيح والذكر والحمد حتى حلول الصلاة الأخرى، توسل إلى الله في الصلاة بأن يلهمك الهدى: قل اهدنا الصراط المستقيم بنية الرغبة الحقيقية في الهداية، لا تتصور أنك انتهيت من موضوع الهداية، بل لازلت محتاج لها وأمامك الكثير كي تحققه.

7- " ومما رزقناهم ينفقون "

الانفاق عنوان ملازم للصلاة، هو التصديق الحقيقي للإيمان، الإنفاق هو باب من أبواب الهدى ويجب التنبه لهذا العنوان الهام، والإنفاق للجهات التي حددها الله سبحانه وتعالى.

8- " والذين يؤمنون بما أنزل إليك"

ما أنزل على النبي محمد (ص) هو القرآن الكريم، وهنا إشارة إلى الإيمان الذي لا يزعزعه ارتياب، الذين يعملون بما فيه، الذين لايبدلون أحكامه ولا عقائده.

9- "وما أنزل من قبلك "

الذي أنزل من قبل النبي محمد (ص) هي الكتب السماوية السابقة وهي التوراة والإنجيل، وهنا نحن مطالبون أن نؤمن بهذه الكتب، ولا ننكر أنها من عند الله، ونؤمن أننا على ملة واحدة وأنها كلها أرسلت من رب واحد ولا نفرق بينها.

10- "وبالآخرة هم يوقنون "

هو الهدف الأكبر من التقوى، والله هنا يقول اليقين بالآخرة، وهو الوصول إلى اليقين وليس مجرد الاعتقاد أو التصديق بالآخرة، وعندما نقول الآخرة يعني كما نص عليها الكتاب وليس أي آخرة! كل أمة صاغت آخرة كما تهوى ولكن الكتاب يتحدث عن الحقيقة والمتقي هو الذي يأخذ بآخرة الكتاب وليس آخرة الأمم.

الهدف من دراسة الكتاب هو الهدى الذي يقود إلى النجاة من الآخرة، ووسيلة ذلك الهدى هو الوصول للتقوى.

التقوى شرط الهداية

يتحدث القرآن الكريم على أن تقوى الإنسان هي التي تفتح له أبواب الفهم وهي التي ترسم له سبل الهدى التي يريدها، ولا يمكن لأحد أن يتحصل على هذه الهداية لمجرد انتماءه لطائفة أو لجماعة أو فقط لأنه أقر بأن هذا الكتاب من عند الله، بل لابد وأن يأخذ بهذا الكتاب لنفسه كمشروع لصناعة إنسان مهتد متبع لتعاليم الله متمثل لشرائط الأخلاق التي فرضها القرآن.

دروس من سورة البقرة

1- أول (5) آيات : هي شرائط فهم الكتاب ونيل الهدى منه.

2- الصفحة التالية : موانع الفهم وأسباب الابتعاد عن الهدى

3- الصفحات التالية: تاريخ الإنسان وتاريخ الرسالة

4- آخر صفحة : استلام الكتاب والإقرار النهائي بعدم مخالفته.