مدونة حلمي العلق

قيمة القرآن

 | مقدمة

مقدمة

﴿ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (49)﴾ سورة القصص.

عشنا بالأمس تجربة إيمانية مع كتاب الله، كنا قد سألنا أنفسنا ونحن نستمع إلى آيات القرآن من هذا المتحدث من خلف هذه السطور؟ كانت الإجابة من أعماق قلوبنا إنه الله. هذه الإجابة هي الإيمان بالغيب الذي يتحدث عنه القرآن ويقول فيه أن الذين سيأخذون بهذا الكتاب هم الذين يخشون ربهم بالغيب

﴿ إِنَّمَا تُنذِرُ مَنْ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11)﴾ سورة يس.

لماذا آمنا بالقرآن؟ لأن القلوب صدقته واستجابت لإنذاره، هذه التجربة هي حياة المؤمن مع هذا الكتاب، هو في تواصل دائم معه، ولا ينقطع عنه الشعور بأن المتحدث خلف هذه السطور هو ربه الذي يمده بالمغفرة والرحمة والهداية على الدوام، إن الإحساس بإيمان الهوية خادع، بسببه قد نتجاوز مرحلة هامة نفترض أنها بدهية ولكنها هامة وأساسية، ولا يصح البدء في دراسة وفهم القرآن الكريم من نقطة متقدمة والقفز على مرحلة أساسية كهذه، ولا يكفي في موضوع الإيمان أن ننتمي للأمة المؤمنة، بل لابد وأن نتصف بصفة الإيمان. الإيمان بالقرآن هو البوابة الصحيحة للدخول لدراسة القرآن وتدبره، هذه القاعدة يبنى عليها مفاهيم أخرى لذا لابد من التحقق من وجودها وعدم القفز عليها.

عنوان حلقتنا لهذا اليوم هو : موقع القرآن، وهو استكمال للحلقة السابقة، اليوم وبعد أن عشنا بالأمس حقيقة ما شعر به المؤمنون الأوائل نفهم قيمة هذا القرآن ونقترب منه أكثر فأكثر، القرآن يمتلك قوة الكلمة وقوة الحقيقة التي يواجه بها للإنسان، إنه يخاطب ذلك الإنسان الساكن في ضمائرنا يخاطب تلك الفطرة المغروسة في أعماقنا. وبعد فإننا بحاجة لوضع هذا الكتاب في موقعه الصحيح.

نحاول أن نعطي بعض العناوين لخصائص هذا الكتاب حتى ندرك كماله ومكانته ونضعه فيها ولا ننزله عنها، ونستعرض بعض جوانب القرآن الهامة:

موقع القرآن

1- لغة المتحدث:

القرآن الكريم يتحدث بلغة عالية، صاحب الكتاب يتحدث على أنه هو القادر الذي سيعيد خلق الناس من التراب إلى خلق جديد ليحاسبهم على أفعالهم في هذه الدنيا، القرآن يتحدث بلغة لا يمكن لأحد أن يكذبها، لأنه لم يدع إلا للصلاح والإيمان بالآخرة بعد الموت، هو يتحدث بلغة يحاصر فيها المتلقي بأن لا مفر لك ولا مجال لديك للتكذيب.

﴿ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَاراً كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)﴾ سورة النساء

هذا الكتاب الذي استشعرنا صدقه بقلوبنا، نراه ينذر من لا يؤمن به، ينذر بنار تصلي الأجساد وعذاب لا تطيقه النفوس فقط لمن يبتعد عن هذه الحقائق. ثم هو يعد الذين آمنوا وعملوا الصالحات بالجنة وبالخلد في النعيم والحياة الكريمة والطيبة، وماذا يريد منا؟ يريد منا أن نعمل الصالحات، أن نعمل بالآيات، وماتحوي هذه الآيات غير الخير والرحمة للإنسان؟ وما حقيقة الابتعاد عنها إلا عناد وتكبر.

2- التوحيد

القرآن الكريم يقدس خالق الكون فقط لا يقدس غيره، هو رسالة من الخالق لكي يسبحه الناس وحده ويمجده وحده ولا يشاركه في هذا المجد وهذا العلو أحد، فهي رسالة خالصة من الشرك، لأن وراء الشرك مستفيدون على الأرض، ولكن بالتوحيد لا يوجد مستفيد، فهو دعوة خالصة تنزع الصلاحية من المتمصلحين بالشرك لتعود الناس لعلاقتهم التوحيدية الخالصة بالله.

﴿ وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)﴾ سورة الزمر

﴿ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً (46)﴾ سورة الإسراء

لماذا ينفرون، لأنها دعوة خالصة لله، وهم ماذا يريدون؟ يريدون دعوة لغير الله؟ وكما تكون دعوة القرآن الخالصة سبب في نفور أولئك المشركين، تكون سبب في انجذاب الموحدين لهذه الدعوة. القرآن الكريم لا يدعو لشخص أو لطائفة ولا لحزب، بل يدعو لأن يكون خالص التوجه له وحده بلا تعصب لأي جهة، وينبذ الطبقية التي يصطنعها الإنسان من أجل العلو في الأرض.

3- التسبيح

﴿ سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِ وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3) ﴾ سورة الحديد

القرآن مليء بتسبيح الله وتقديسه وتمجيده وذكر أفعاله، والتسبيح هو جوهر الصلاة وجوهر الإيمان وعدم الشرك بالله.

4- يبين هدف الحياة:

القرآن الكريم يتحدث مبينًا هدف الحياة وأنها لم تخلق عبثًا، وأن هذه الحياة معبر وهدفها هو استخلاص الصالحين حتى يكونوا هم أهل الجنة، ويضع للإنسان هدف وهو أن يزكي نفسه ويخلصها من كل معتقد باطل وكل سلوك لا يؤهله لتلك الحياة السعيدة.

﴿ أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)﴾ سورة المؤمنون

﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)﴾ سورة الشمس

تبيين هدف الحياة هو إجابة لأسئلة الإنسان الكبرى، والذي يتساءل بفطرة عن هدف الحياة ومآلها، من أين أتينا وإلى أين سنذهب، كل تلك الأسئلة هي هاجس حقيقي في الفطرة السليمة، والقرآن الكريم يجيب عن تلك التساؤلات، وإجابة تلك التساؤلات هي شفاء للإنسان، وراحة نفسية له، لأن الإنسان في هذه الدنيا بلا هدف يشعر بالتيه والضياع.

6- القرآن يدعو للأخلاق

القرآن الكريم يدعو للأخلاق العالية التي تحتاج إلى جهاد للنفس، وقد جعل العقاب في الآخرة على مخالفة تلك الأخلاق، أوصى بالزوج والزوجة، أوصى بالأبناء أوصى بالعدل والقسط والتعامل بالحسنى وقول الحسنى في أصعب الظروف وطلب من المؤمن أن يجاهد نفسه بالصبر والصلاة حتى يصل إلى أعلى درجات الأخلاق. وقد جعل أساس الدين وهي الوصايا العشر في ملة إبراهيم قيم أخلاقية تصنع إنسان ذو خلق عال ويتحمل مسؤوليته.

﴿ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)﴾ سورة الأنعام

تساؤل

﴿ قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ (49)﴾ سورة القصص.

الله سبحانه وتعالى يرشد النبي ويرشدنا أيضًا إلى قيمة القرآن ومن أي زاوية ندرك هذه القيمة، وذلك من خلال طرح سؤال الفطرة وسؤال العقل والمنطق، يخاطب في هذه الآية الذين يريدون أن يتوجهوا لغير ما أنزل الله، أن قل لهم هل هناك كتاب أهدى من هذا الكتاب؟ فأنا على استعداد لاتباع الهدى. تأمل كيف يبين ماذا يريد من المؤمن من استعدادات لتلقي كتبه السماوية، يريد منهم التأمل والبحث عن الهدى، وهكذا تظهر عظمة القرآن في القلوب حين نطرح أسئلة التمحيص فنراه لا يبارح أبصارنا ولا يبارح قلوبنا بل نزداد به يقينًا وتمسكًا وتعلقا. والسؤال الآن:

1- هل يوجد كتاب غير القرآن الكريم يملك هذه القوة؟

يملك هذا النفوذ ويملك مثل هذه الحقائق التي يدركها الإنسان بقلبه؟ هل يوجد كتاب آخر له وحدة موضوع ودعوة واحدة هي الدعوة الخالصة للخالق؟

2- ثم، هل يوجد للإسلام رسالة غير القرآن؟

هل يوجد كتاب آخر يمكن أن نعتبره رسالة الإسلام؟ هل جاء النبي محمد بكتاب آخر من عند الله حتى يوصله إلى الناس؟ هذا الكتاب يحمل مضمون الإسلام ومضمون الدين؟ وهل توجد رسالة أخرى غير هذا الكتاب؟ هل يوجد لهذا الكتاب أجزاء أخرى؟ هل يوجد لهذا الكتاب ملاحق في أماكن أخرى؟ هل يوجد لهذا الكتاب مستدركات؟ هل هناك من أضاف على هذا الكتاب بعد وفاة النبي؟ هل أدى النبي رسالته كاملة قبل موته؟

القرآن هو الرسالة الربانية التي تمثل دين الإسلام ولا يوجد ممثل آخر له غير هذه الرسالة، وموقع هذا القرآن هو موقع السيد إلى العبيد، موقع المرجعية العليا في شؤون الدين لكل فرد منا. وإذا كان رسالة ربانية لكل فرد منا وجب أن نستوعب ومن خلال الرسالة كيف نفهم بقية شؤون الدين؟ وإلى من نتوجه؟ وكيف نفسر الواقع الذي نعيشه؟ وماهو المطلوب؟ لأنه المرجعية العليا للإسلام.

خاتمة

هل انتهى دور القرآن الكريم عند لحظة التأسيس، بمعنى هل المعجزة القرآنية جاءت من أجل أن تعطي النبي موقع القيادة ومن خلال هذه القيادة يقوم الرسول بتأسيس كيان الإسلام وتأتي الأجيال اللاحقة لتسير خلف هذا الكيان دون أن تنظر إلى رسالة الله؟ أم أن القرآن هو رسالة الله إلى كل الأجيال اللاحقة؟ رسالة القرآن هي لكل فرد منا.

إذا بدأنا بتطبيق ما في هذا الكتاب فقد بدأنا بالتسليم، وبعد التسليم يزداد الإيمان، وبازدياد الإيمان يزداد اليقين بأن القائل هو الله ويزداد اليقين بحقائقه التي أنزلها وبالآخرة، وإذا ازداد اليقين ازداد العلم الذي نبحث عنه لأنه سيكون علم منجي وليس علم ترف ولا علم مزايدات ولا مناكفات، ولا علم استظهار ولا تعالي ولا تباهي بل علم حقيقة، وتلك هي ضالة المؤمن.