نبتة الإسلام التي أينعت في كربلاء
لم تكن كلمة الحسين (ع) في العاشر من المحرم (هيهات منا الذلة) إلا صدىً لصوت جده النبي الأكرم (ص) في زقاق مكة حين قال : ( والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته)، فالحسين بهذا يكمل خط الإباء المنطلق من مسؤولية تحمل الموقف الذي لا تزعزعه الأحداث ليبقى ثابتاً على رسالته ومبدأه.
حارب مشركو مكة وعلى رأسهم أبو سفيان النبي محمداً (ص) منذ بدء دعوته، وحارب معاوية ابن أبي سفيان الإمام علي (ع) ، وحين قتل يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الإمام الحسين بن علي (ع) أنشد قائلاً : (ليت أشياخي ببدر شهدوا). إذاً هي حرب دارت رحاها على مر السنين وعبر الأجيال مصداقاً لقوله تعالى : ﴿ وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ البقرة (217)، لكن هذه الحرب أخذت منعطفاً خطيراً حين أضاف أعداء الرسالة لسلاح السيف في حربهم سلاح النفاق والكذب والذي تجسد في أنصع صوره يوم رفع المصاحف في صفين.
لقد أسقط الله سبحانه وتعالى إمامة مشركي مكة وآل سفيان عن قلوب الناس بالحقيقة، وتبرأ منهم ومن دينهم الكاذب، لكنهم في يوم كربلاء أرادوا إعادته وخطف رداء الإمامة بالقوة والغلبة والترهيب والخداع والكذب، ولأن الإمام الحسين كان يمثل الامتداد الطبيعي لإمامة الدين كان لا بد (في نظر يزيد) من قتله ، وكان لا بد من تشويه صورته وطمس حقيقته.
رفضُ الحسين يومذاك للبيعة هو ثباتٌ على حقيقة قرآنية مفادها ﴿ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ﴾ التوبة (28) ، وهو تصديق لقوله تعالى:﴿ وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمْ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ﴾ الأنفال (34)، وقد قام الإمام الحسين وهو صاحب الحقيقة بدوره على أكمل وجه حين رفض الباطل، لكن في المقابل لم يكن في سعة يزيد بن معاوية الدعي ابن الدعي والمدعي للحقيقة أن يقبل الرفض، ذلك لأن بقاء الإمامة المزورة رهين بسكوت الحقيقة أو إسكاتها، وما محاصرة الإمام الحسين في كربلاء إلا محاصرة للحقيقة وخوفٌ منها، بل إن يزيد بمحاصرته للإمام الحسين مطالباً إياه البيعة قهراً هو اعتراف ضمني أن تنازل من هو أحق بها هو ضمان لاستمرار إمامته الباطلة.
لقد رفض الحسين أن يقبل الحقيقة مزورة، وهذا أمر متوقع منه فهو سليل الرسالة التي تجاوزت كل خطوط الخوف الحمراء من صناديد مكة المشركين, ولكن ما أبهر القلوب منذ ذلك الزمان وحتى يومنا هذا، هو موقف الصمود والثبات الذي تجاوز في مداه كل القوانين الطبيعية البشرية التي يمكن تصورها، فبعد كل ذلك الحصار والتهديد ، وبعد أن قدم الحسين خيرة أصحابه بين يديه، أدار ظهره عن حريمه وعياله مواجهاً سيوف الموت دون أن تنطق شفته كلمة الاستسلام للباطل، وما ذاك إلا شاهد على ما يملكه من خزان صبر لا يملكه إلا الربانيون المؤمنون بمآل الدنيا وحقيقة الآخرة.
إن صيحة الهيهات لم تكن شعاراً عابراً فرضته الحماسة وقتذاك ، ولم تك تكتيكاً سياسياً من أجل مساومة شيء من حطام الدنيا ، فقد تأكد لعبيد الدنيا في ذلك الزمان والأزمنة اللاحقة من بعده أن الحسين حامل رسالة جده النبي محمد، ليس خارج معادلة الدرهم والدينار فحسب ، بل خارج معادلة الروح والجسد أيضا.