مدونة حلمي العلق

من نفس واحدة

 | meanings-of-marriage

مقدمة

العلاقة الزوجية واحدة من أهم العلاقات الإنسانية وأقواها، كونها هي الأساس لهذه البشرية جمعاء، وصلاح هذه العلاقة هو من صلاح المجتمع، لأنها تعد اللبنة الأساسية في تكوينه.

عقد الزواج يبنى على لفظ في غاية الأهمية، وهو قولنا حين إجراء عقد النكاح ( على كتاب الله ) والذي نقصد به أننا نبرم هذا العقد على أساس ما أنزل الله من عقائد وأحكام، ولا ينبغي إذ ذاك أن تقال هذه الكلمة اعتباطًا وبلا علم ولا دراية، بل ينبغي على المقبل على الزواج أن يتعلم من كتاب الله ما هو الحكم الذي على أساسه بنى هذه العلاقة، وما هي الأحكام التي عاهد الطرفان أنفسهما عليها.

نتحدث في هذه الحلقات – إن شاء الله - عن هذه العلاقة الهامة بتدبر موضوعي للقرآن الكريم، سائلين المولى عز وجل أن نخرج من جلساتنا التدبرية بفائدة عملية، وأن نتعلم من القرآن الكريم كيف ننجح في التقوى في هذه العلاقة وهذا المشروع الإنساني الكبير.

ندرس في هذه الحلقات من الآيات ما يساعد على فهم طبيعة هذه العلاقة الهامة، ولأن المفاهيم القرآنية بنائية، بحيث نبني مفهوم جديد على مفهوم أساس، والفكرة الأساسية تبنى عليها أفكار، لذا وجب التأني وأخذ المواضيع بتسلسل وتدرج.

القرآن لا يعطي في هذا الموضوع أحكامًا مجردة، إنه يؤسس للفهم وإدراك المعاني والعقائد الكبرى المتعلقة بالإنسان ومفاهيم الذكر والأنثى ليبني على ذلك الحكم الشرعي الذي يحافظ على هذا الكيان ويحقق فيه النجاح المطلوب، قبل البدء في حلقة اليوم نحتاج إلى المقدمة التالية:

﴿ يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعْ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً حَكِيماً ۝ وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً ۝ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلاً ﴾ الأحزاب (1)-(3)

ثم تكمل الآيات

﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمْ اللاَّئِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ﴾ الأحزاب (4)

الآيات السابقة توجه الخطاب للنبي باتباع ما يوحى إليه من ربه، ثم تكمل هذه الآية بقولها ماجعل الله لرجل من قلبين في جوفه، ثم تتحدث عن قضايا خلافية في الأحكام ينظر لها المجتمع بطريقة مغايرة عن الحقيقة، ويتأثر بها الإنسان نتيجة للضغط الاجتماعي من حوله، وتقول له:

﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ ﴾

ما يتأثر به الإنسان ويتحرك على أساسه هو ما يختزنه في هذا القلب، قد نقتنع بفكرة ما عقلًا، ولكن تجاوبنا وتفاعلنا وردود أفعالنا ينبني على أساس ما نعتقده في القلب، تأثر الإنسان بما حوله وبما يقوله الناس كبير جدًا وقد يدفعه ذلك لتغيير بعض الحقائق المنزلة في قلبه.

الآية تعلمنا أن القرآن وأحكامه تتنزل على القلب، ولا يكفي أن نقتنع بها عقلًا، ومن أجل أن يكون لهذه الأحكام تأثيرها الحقيقي يجب أن يفرغ القلب تمامًا لأحكام القرآن ومفاهيمه، فالقرآن ليس مجرد أفكار تستقر في نطاق العقل فقط، بل إن مقره الأهم هو القلب، ويجب أن يتواجد فيه وحيدًا لا يزاحمه ولا ينازعه في هذا المكان أحد، وخصوصًا تلك المفاهيم التي يكون للمجتمع تأثيره الكبير عليه، كما تتحدث سورة الأحزاب.

وفي موضوع الزواج، وقبل أن نبدأ في تفاصيل هذه العلاقة من القرآن، نبدأ بالسؤال التالي المتعلق بالذكر والأنثى:

ما هو تصور الرجل حول قدر المرأة بالنسبة له؟ هل هي متساوية معه في الخلق والقدر أم أنها ناقصة وأقل منه؟ وما هو التصور الذي يريد منا القرآن أن نحمله عن هذه الطبيعة؟ نحاول أن نستشرف الإجابة من القرآن الكريم وبالتحديد من بداية سورة النساء.

من نفس واحدة

يقول الله عز وجل في بداية سورة النساء :

﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً ﴾ النساء(1)

أولًا: فهم الآية

نفهم الآية بتفاصيلها، ثم نذهب للإجابة على السؤال، تبدأ الآية الكريمة بمخاطبة الناس خطابًا سماويًا :

1- (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ )

منبع التقوى هو الخوف من الله في عدم الانصياع للأوامر، أما الرب فهو صاحب الأمر والنهي فيما يملك هو رب المخلوق.

2- (الَّذِي خَلَقَكُمْ )

علينا أن نتذكر أننا مخلوقون وليس لنا من الأمر من شيء، وفي هذا تذكير إلى ملكية الرب لما خلق، فله الحق في أن يطاع، وهو الخالق فهو العالم بما ينفعهم.

3- ﴿ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ﴾

كلنا أبناء آدم، ولا فضل لأحد على أحد في الخلقة، فنحن سلالة واحدة، وهذا مفهوم مهم تتأسس عليه التقوى وتتأسس عليه الأحكام بين الذكر والأنثى التي تذكرها سورة النساء.

4- ( وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا )

النفس البشرية زوج وليست فرد، خلقنا الله أزواج من ذكر وأنثى، الزوج هو المماثل للشيء من نفس الجنس ويقرن به مع اختلاف بينهما، عندما خلق الله سبحانه وتعالى آدم لم يخلقه بصفة الفرد الذي لا يحتاج إلى زوج ، وإنما خلقه زوج محتاج إلى زوج مماثل له من نفس الجنس، وانتشار الناس لم يكن من آدم فقط، بل من نفسين هما آدم وزوجه، وهذا يعني أننا يجب أن نفهم عبارة "من نفس واحدة" على أنها تعني من سنخ واحد، بما يلغي التمايز بين بني البشر، ثم بعد أن ساوى بين الناس، كونهم من نفس واحدة، هنا يساوي بين الجنسين الذكر والأنثى في القدر أيضًا، لأنهما مخلوقان من نفس واحدة، فلا درجة أعلى لأحد على الآخر.

5- ﴿ وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً ﴾

بث من الزوجين اللذان خلقهما الله من نفس واحدة رجالًا كثيرًا والبث هو الانتشار في الأرض، وهي آية من آيات الله.

6- ﴿ تَسَاءَلُونَ بِهِ والأرحام ﴾

تساءلون بالله، السؤال هو الطلب الذي تنتظر عليه الإجابة، السؤال يعبر عن الحاجة، السائل هو طالب الحاجة، والناس تطلب من بعضها البعض بناءًا على الرحم الذي بينهم باسم الله، لأننا جميعًا عيال الله، ووصية الله لبعضنا البعض أن يعين بعضنا بعضا، ويساعد بعضنا بعضا وخصوصًا إذا كانت بينهم قرابة أو نسب. وهنا يتجلى كون النسب الذي بين الناس هو رحم، لأنه باب من أبواب رحمة الله في العون، فقد جعل الله هذه العلاقات بابًا من أبواب رحمته للناس على بعضهم البعض.

7- ﴿ إن الله كان عليكم رقيبا ﴾

يراقب ما تفعلون في هذه النعم وكيف تتصرفون مع بعضكم البعض.

ثانيًا: من نفس واحدة

ما الرسالة التي تريد أن توصلها هذه الآية للإنسان بصورة عامة وللمؤمن بصورة خاصة؟ ولماذا هذه المقدمة في سورة النساء؟

أولًا نسأل : عن ماذا تحدثت بداية سورة النساء؟ اشتملت سورة النساء وفي بدايتها على العديد من الأحكام بين الذكر والأنثى، والتي تطالب فيها الرجل وخصوصًا في المقدمة بالحفاظ على حقوق المستضعفين، حيث تحدثت الآيات بعد هذه الآية عن رعاية حقوق اليتامى ونساء اليتامى، وحقوق المرأة في التركة، وفي المقدمة يأمر بالتقوى، بهذه الصيغة.

وتبدأ وفي المقدمة في الحديث عن التقوى، ذلك لأن ما يتحدث به القرآن لن يكون حلًا لمشاكل الإنسان في هذه العلاقة ما لم تتأسس على التقوى، فمهما كانت الأحكام عادلة ومقسطة، لن يظهر نتاجها الطيب على أرض الواقع إلا بالتقوى ومخافة الله. والذي لا يخاف الله قد يتلاعب بأقوى قانون، وينفذ إلى ما يريد بتلون، والله سبحانه وتعالى يخاطب الناس والمؤمنين بصورة أخص كي يؤسسوا حياتهم على أساس من التقوى والإيمان.

أحد أسس ظلم الإنسان لأخيه الإنسان مبني على توهم اختلاف الدرجة في القدر، والديانات التي حكمت بالظلم وحكمت بغير ما أنزل الله في التعاملات، أسست ذلك بإنقاص حق الآخرين على مبدأ أن غيرهم أقل درجة منهم، والذين ظلموا المرأة بالدين أسسوا لذلك على مبدأ أن المرأة أقل درجة من الرجل، ومن هذه القاعدة ومن خلال هذا الجذر الباطل تفرعت شجرة التعاملات الباطلة فأثمرت الظلم والفساد في حق المرأة.

في الآية أمر بالتقوى مرتين، حين قالت الآية : اتقوا الله، بذكر اسم الجلالة لأنكم تطلبون حوائجكم فيما بينكم باسمه، فاتقوه، اتقوا الله الذي جعل بينكم الأنساب والذي كان سببًا في الرحمة والتراحم بينكم، وفي مقدمة الآية قالت "اتقوا ربكم" أي : اتقوا صاحب الحق في أن يأمركم وينهاكم ثم ذكرت " الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها" ليذكر التعادل بين الناس وبين الذكر والأنثى كأساس للتقوى الذي سيتحدث عنها في هذه السورة.

ثالثًا: رسالة الآية

الآية تتحدث عن مفهوم تتأسس عليه التقوى، وهو أن الذكر والأنثى في مقام واحد لأنهما من نفس واحدة، أي من مرتبة واحدة ومن قدر واحد، ليصحح بذلك توهم نقص المرأة في أذهان الرجال الذين يمسكون بزمام الأمور وقد يتسبب ذلك التوهم في إنقاص حق المرأة بأي شكل من الأشكال.

الرجل والمرأة مخلوقان من نفس الصنف، وجعل الله البشرية زوجين لحكمة منه سبحانه، أحد ملامحها هذا التراحم بين الناس بالأنساب. عندما تحدثت الآية أننا مخلوقون من نفس واحدة، ثم عطفت ذلك بأن الزوجين من نفس واحدة، فلا يوجد ما يبرر التعالي على أي أحد أو استصغار الناس واستضعافهم وتضييع حقوقهم ، فالناس والنساء محترموا الحقوق على أساس قدم المساواة في القدر.

خاتمة

بدأنا موضوع الزواج الذي هو بين الذكر والأنثى بطرح سؤال القدْر بينهما، فسألنا: ما هو تصور الرجل حول قدر المرأة بالنسبة له؟ هل هي متساوية معه في الخلق والقدر أم أنها ناقصة وأقل منه؟ وما هو التصور الذي يريد منا القرآن أن نحمله عن هذه الطبيعة؟

ووجدنا في هذه الآية، كما سنجد في آيات أخر أنه قد يتصور الرجل بما ملكه الله سبحانه وتعالى من موقع قيادي في هذه الحياة أن في المرأة نقص عنه، والقرآن يؤكد أنهما من نفس واحدة ومن مرتبة واحدة فلا فرق بينهما في القدر أمام الله، ولا يوجد نقص في المرأة لا في القدر ولا في الخلقة، وإنما يوجد اختلاف في الأدوار ليس أكثر، والمرأة مسؤولة أمام الله كما هو الرجل ولا فرق بينهما إلا بالتقوى.