مدونة حلمي العلق

ليس الذكر كالأنثى

 | meanings-of-marriage

مقدمة

أي نوع من أنواع التقدم أهم؟ تقدم الإنسان أم تقدم الآلة؟ تقدم الآلة يعني السرعة والإتقان والإنجاز، وتقدم الإنسان يعني الإحسان في استخدام كل شيء وأولها الآلة، وهل تبنى الحضارة بالآلة وحدها؟ قيم الإنسان العليا هي التي تصنع الحضارة، وقبل أن ننبهر بالآلة التي تسير الإنسان إلى الأعالي خارج مدار الكرة الأرضية، علينا أن نلتفت منبهرين للنماذج الإيمانية التي صنعت الإنسان وبلغت به إلى أعلى مراتب القيم والإنسانية والخلوص من الدنيا والإخلاص في التوجه لله وحده.

أهمية حضارة الإنسان لا تلغي أهمية حضارة الآلة، ولاتلغي قيمة التقدم في شتى النواحي، لكننا في إعادة ترتيب الأولويات، نقول إن حضارة الإنسان أولى وأهم، ولا يمكننا أن نقول أننا في حضارة وخير وازدهار فقط لأننا أتقنا صنع الآلة، ولكننا سنكون كذلك حين نقول أننا صنعنا الإنسان قبل أن نصنع الآلة.

ليس الذكر كالأنثى

يعرض القرآن الكريم لنا واحدة من أهم النماذج التي أتقنت صنع الإنسان وبلغت به أعلى المراتب، صنعته في مصنع محراب الإيمان، وفي صومعة الذكر والسجود والقنوت لله.. إنها مريم ابنة عمران، وكان نتاجها كلمة الله .. عيسى ابن مريم(ع).

تحدثت سورة آل عمران عن قصة هذا الإنسان المعجزة، فماذا كانت البداية؟ البداية كانت عند امرأت عمران حين نذرت لربها مافي بطنها محررا من كل مطلب لها فيه، ليكون خالصًا له وحده:

﴿ إِذْ قَالَتْ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ آل عمران (35)

امرأت عمران تحمل حملها، وتشعر بآلامه وأتعابه، وفي هذه الأثناء وبدلًا من أن تمني نفسها بالمستقبل مع هذا المولود القادم، تتوجه لربها ليقبله منها نذرًا محررا: ( محررًا) ، فيصبح ملك لله محرر من قيد والديه ليس لهما منه شيء. وهذا يعني أن يعيش هذا الابن طيلة حياته في خدمة الله، ولربما احتاجت هذه المهمة إلى قوة وصلابة ومواصلة في تحمل الأعباء، والمؤهل لتلك الأعباء هم الذكور أكثر من الإناث، وحين وضعت امرأة عمران مولودها قالت:

﴿ فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ آل عمران (36)

حين رأت امرأت عمران أن مولودها أنثى توجهت لله وقالت:

﴿ رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى ﴾

هذه الكلمات تحمل معنى المفاجأة، وكأن امرأت عمران تدرك الآن أن المولود لا يتوافق مع النذر الذي نذرته كون الأنثى لا تقوى على مهام النذر لأن طبيعتها لا تساعدها على ذلك، وكأنها كانت تحسب أن يخرج المولود ذكرًا بدلًا من الأنثى ليتحقق فيه النذر حسب المهمة الموكلة إليه، ليس الذكر كالأنثى هي حقيقة، لأن طبيعة الأنثى تختلف عن طبيعة الذكر في صفات كثيرة. ولكن هل هذه الصفات تقلل من فرصة قبولها عند الله؟

﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ آل عمران (37)

1-(فتقبلها ربها بقبول حسن)

تعرف امرأة عمران أن مولودها الأنثى لا ينفع لطبيعة النذر الذي نذرته، لذا ظنت أن قدوم الإنثى قد أوقف المشروع، إلا أن خيوط الغيب تنسج قصة أخرى، فقد تقبله الله منها، ولم يتقبله تقبلًا عاديًا ، بل تقبله بقبول حسن.

2-(وأنبتها نباتًا حسنا)

الإنثى نبتة تحتاج للرعاية والمداراة والاهتمام حتى تنمو وتزهر ومن ثم تثمر الثمر الطيب، لقد صُنعت مريم بعين الله فقد تربت في أجواء طاهرة ونشأت في بيئة الإيمان والتوجه الخالص لله، وقد توجهت لله بالاعتكاف والعبادة حتى بلغت بإيمانها إلى مراتب عالية رغم حداثة سنها، لتبهر نبي الله زكريا بما وصلت إليه.

3- (كلما دخل عليها زكريا المحراب وجد عندها رزقا)

يدخل عليها نبي الله زكريا المحراب ليرعى احتياجاتها فيجد عندها طعامًا، فيسألها: كيف وصل لك هذا الطعام وأنا الذي أكفلك، فلا أحد يأتي به إليك غيري؟

4- (قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)

فوصلت بإيمانها لدرجة أن يأتيها رزقها من عند الله بغير حساب، بغير واسطة مادية، فأي إيمان هذا؟ وأي مرتبة وصلت إليها مريم؟ هذا عطاء الله في التنشئة والتربية، فسبحانه.

هذه الأنثى هي مريم ابنة عمران، التي تقبلها الله كنذر خالصة له محررة من الأبوين، فأحسن الله تربيتها ورفادتها، ولكن القصة لم تنته بعد! فهي الأنثى التي ستأتي بمعجزة ربانية خالدة، هي الأم الوحيدة في هذه الدنيا التي ستحمل ولدًا بدون أب لتكون هي وابنها آية للعالمين.

﴿ إِذْ قَالَتْ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنْ الْمُقَرَّبِينَ ﴾ آل عمران(45)

هاهو ابن مريم يخرج للدنيا من غير أب ومثله في ذلك مثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون، وكان كلمة الله عيسى (ع).

﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ۝ وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ ‎وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً ۝ وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً ۝ وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيّاً ﴾ مريم (30)-(33)

لقد قالت امرأة عمران حين رأت مولودها " ليس الذكر كالأنثى" وهي تعلم ماهي صفات النذر؟ هي صفات الذكور، وليست صفات الإناث، ولكن الله عز وجل يعلم ما وضعت، ويعلم ما الذي سيكون من أمر مريم(ع) فهي البطن الذي سيحمل ذاك الذي سيكون نذرًا لله ليتحقق مادعت به امرأت عمران.

حين نكمل قصة مريم ابنة عمران نفهم كيف اكتمل النذر! لقد جعل الله سبحانه وتعالى العذراء مريم (ع) سببًا في تحقق نذر أمها بعد حين، وذاك حين أنجبت نبي الله عيسى (ع) من غير أب في آية كبرى لبني إسرائيل، فكان نبيًا ورسولًا لهم، فقام بمهمته وتحمل أعباءها وواجه كفر بني إسرائيل وجحودهم وتجبرهم حتى طهره الله ورفعه إليه، وقد عاش عبدًا لله محررًا.

هاهو عيسى ابن مريم، يدشن نذر امرأت عمران من أول يوم في حياته، يعرّف عن نفسه وعن وظيفته وهو في المهد، وينطق بالتوحيد ويدعو له، ويدعو للصلاة والزكاة مادام حيا، ليعيش السلام من أول لحظة في حياته وحتى آخر يوم في فيها، هذه هي قصة الإنسان الذي صنعه المحراب، هو صنيع امرأتان، امرأت عمران ومريم ابنة عمران.

﴿ قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِي الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً ﴾

عندما قالت امرأة عمران ( ليس الذكر كالأنثى) هي تتحدث عن طبيعة توقف النذر، أما قوله تعالى " والله أعلم بما وضعت" ففيه إشارة إلى أن ذلك التوقف هو أمر ظاهري ولكن الحقيقة غير ذلك لأنها بداية تحقق النذر، نعم هي أنثى ولكن ليست كأي أنثى، لأنها ستكون تحت عين الله ورعايته، وسيدرك العالم ماالذي يعنيه أن يصنع الله أنثى، نعم "ليس الذكر كالأنثى" ، ولكن الرجل الصالح الذي تكون حياته نذرًا لله يكون من أنثى صالحة قد نذرت حياتها لله، فإذا كان المرجو هو كلمة الله عيسى، فلابد وأن تكون الأم هي مريم التي تربت حسب إرادة الله.

الزواج

في القصة درس إيماني عظيم في أن وعود الله تتحقق ولو بعد حين، ودرس إيماني آخر كبير في فهم العلاقة بين الذكر والأنثى، على أنها علاقة تكامل وليست تنافس، فهذه القوة التي يتمتع بها الذكر والتي نحتاجها في المواجهة والخصومة من أجل الدعوة لله، مكنون في هذا الضعف، في هذه الأنثى التي تنشأ في الحلية وهي في الخصام لا تكاد تبين. فكما أن الحياة تحتاج إلى قوة، تحتاج إلى ضعف أيضًا، ففي الضعف بعض الأحيان قوة.

الأنثى لا تخرج من معادلة صناعة الإنسان، بل هي محوره الأساس، فإن كان الرجل خلق لمواجهة الصعاب بقوته، فالأنثى هي من تصنع تلك القوة بضعفها. وإذا كانت حضارة الآلة تخرج في مصانع العقول والمختبرات، فإن حضارة الإنسان تصنع في كنف امرأة تربت في محراب الإيمان والقنوت والصلاة، وفي أجواء من التقوى والصلاح.

الزواج هو رباط بين الذكر والأنثى هو نقطة انطلاق حضارة القيم والمبادئ والأخلاق ودعوة الإخلاص لله عز وجل، حضارة يمكن أن تتأسس عليها حضارة الفكر والآلة والتقدم بشتى صوره وأشكاله، وبدونها لا يمكن أن نعيش تلك الحضارة إلا بصورة زائفة خالية من المعنى، وجوهر تأسيس حضارة الإنسان يكمن في أن يعرف كلا من الذكر والأنثى موقعه ومكمن القوة فيه.

ألهم الله عز وجل الإنسان صنع الآلة بالقلم والتجربة، وأنزل له كتابًا ليهديه حتى يتقن بناء نفسه وصناعتها من الداخل، حين أمر الله الرجل والمرأة بالتقوى، ذكّرهما بتساوي الخلقة والقدر، وحين أراد أن يضع كل واحد منهما في موقعه ذكرهما بعدم التساوي في الإمكانات والصفات، حتى يسيرا معًا بصورة تكاملية لا تنافسية، وحتى يكون إنتاجهما الصلاح. لقد تقبل الله سبحانه وتعالى الأنثى كما يتقبل الذكر في القرب منه ولا ينقصها في ذلك عن الذكر شيء. لكن الذكر ليس كالأنثى في المهمة والوظيفة فلكل واحد منهما له مهمته التي يتحملها حسب ما يسر في طبيعة خلقته.