مدونة حلمي العلق

غلبت علينا شقوتنا

استوقفتني كلمة في أحد أدعية الصحيفة السجادية بالتحديد في دعاء الاستعاذة من المكاره وسيء الأخلاق ومذام الفعال، كلمة ذات دلالة هامة في موضوع تربية النفس وتهذيبها يقول (ع) في بداية هذا الدعاء:

"اللهم إني أعوذ بك من هيجان الحرص وسورة الغضب وغلبة الحسد وضعف الصبر وقلة القناعة وشكاسة الخلق"

الكلمة المعنية هي كلمة (الغلبة) حين قال "وغلبة الحسد "، كلمة توضح أن الحسد المتوغل في صدر الإنسان قد يَغلب فيقضي على صاحبه فتكون النتيجة كما هي نتائج المعارك في الحروب الدمار والخراب ولكن في عالم لا تراه العين، هو عالم النفس التي تسكن في عالم الغيب لا الشهادة، ثم استذكرت ما يُنقل عن الرسول حين بَعث بسرية فلما رجعوا قال :

"مرحبًا بقوم قضوا الجهاد الأصغر وبقي عليهم الجهاد الأكبر، قيل يارسول الله وما الجهاد الأكبر؟ قال : جهاد النفس، ثم قال (ص) : أفضل الجهاد من جاهد نفسه التي بين جنبيه"

وتذكرت كذلك ما ينقل في الحديث عن الرسول في ذات موضوع الحسد :

إِيَّاكُمْ وَالْحَسَدَ، فَإِنَّ الْحَسَدَ يَأْكُلُ الْحَسَنَاتِ كَمَا تَأْكُلُ النَّارُ الْحَطَبَ

كلمة "الغلبة" التي وردت في الدعاء، نقلت موضوع الدعاء إلى ساحة الجهاد الأكبر، ساحة لا تختلف فيها القواعد عن أي حرب نعيشها في واقع الحياة، ولكن صعوبة هذه الحرب هي أن الإنسان يجاهد فيها نفسه، يغالب فيها هواه، هي حرب داخلية عميقة يخوضها الإنسان ضد أهوائه، ولكن انعكاساتها في واقع الحياة لا تقف عند حدود الإنسان ولا أسرته ولا مجتمعه، بل قد تمتد لتصل ليكون واقعها الحرب والدمار وسفك الدماء.

الدعاء يتحدث عن خصلة واحدة وهي " الحسد " إن غلب لا يبقى في إيمان المرء حجر على حجر، بل يهوي كيان إيمانه وينتقض غزله بعد قوة أنكاثًا، هذه خصلة واحدة من الخصال التي يجب على المؤمن أن يجاهد في اقتلاعها من صدره وإلا كان مصيره الخسران.

وذات مرة وحين كنت أقرأ القرآن وقفت مرة أخرى أمام ذات الكلمة التي صادفتها في الدعاء والتي أعطت دلالة الجهاد والحرب الداخلية ، فادركت أن ذلك الدعاء وتلك الأحاديث إنما أتت بجذوة من نور هذا الكتاب وهداه، تظهر هذه الكلمة في آية (106) من سورة المؤمنون:

﴿ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ۝ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ ﴾ المؤمنون (105)-(106)

السؤال يطرح في يوم القيامة لأولئك الذين كان مصيرهم النار، ويحتج عليهم بتلاوة الآيات، ألم تكن آيات القرآن تتلى عليكم، تستمعون لها تفهمون معانيها فكنتم بعد ذلك السماع تكذبون؟ أما الرد فهو يعبر عن سبب ذلك التكذيب، وجوهر الإجابة يؤول إلى تلك "الغلبة":﴿ غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا ﴾ لقد هُزموا في معركة النفس، لربما كانوا أقوياء عند النزال، ولكنهم ضعفاء في معاركهم الداخلية ومع أنفسهم، في الجهاد الأكبر، غلبهم الحسد والتكبر وحب العلو والجاه والسلطة، غلبهم حب الدنيا، كانوا ضعفاء أمام كل أولئك الأعداء فانهزموا أمامها وأطاعوها وانصاعوا لها فكان عاقبة أمرهم خسرا.

هاتان الآيتان تأتيان ضمن مقطع مترابط في الموضوع يبدأ من آية (99)

﴿ حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمْ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ ۝ لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ۝ فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ ۝ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ۝ وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ ۝ تَلْفَحُ وُجُوهَهُمْ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ ۝ أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ ۝ قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَالِّينَ ۝ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ ۝ قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ ۝ إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ ۝ فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيّاً حَتَّى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ ۝ إِنِّي جَزَيْتُهُمْ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمْ الْفَائِزُونَ ﴾ المؤمنون (99)-(111)

الآيات الكريمة تدعوا في مضمونها للتغير من الحالة السلبية في إهمال النفس وعدم إصلاح عيوبها إلى الحالة الإيجابية التي يتغير فيها المؤمن فلا يتساوى يوماه، فهو في حالة من الصعود حتى يصل إلى الدرجة العظمى من التكامل الذي يؤهله لأن يكون في مصاف أهل الجنة.