مدونة حلمي العلق

دوام التسبيح

 | prayer

مقدمة

تحدثنا في الحلقة السابقة عن وجوب دوام الاتصال الذي تتحدث عنه آيات كثيرة، وتبين لنا كيف أن القرآن الكريم يرفض من المؤمن أن يكون توجهه لله متقطعًا ومقتصرًا على حالات الضر فقط، بل المطلوب أن يكون دائم الاتصال بالله بالدعاء والذكر والرجاء في السراء كما هو في الضراء.

وتبين لنا أن المؤمن يصل إلى حالة من العبودية التامة بعد تأمله في الكون وفي نفسه، ليجد نفسه بعد ذلك التأمل مفتقرًا لرحمة الله في جميع الحالات فلا يغتر بقوته ولا بإمكاناته المادية والجسدية، وختمنا بالقول بأنه لاينبغي للمؤمن في الصلاة أن يطبق أوامرها دون أن يدرك معنى العبودية، فالعبودية هي المعنى العام الذي تتضح فيه بقية معاني الصلاة، هذا المعنى الذي يشتمل على الإقامة في الفقر الدائم والحاجة الدائمة.

نكمل الحديث عن ذات الموضوع وتحت عنوان دوام التسبيح، وندرس علاقة المؤمن بالتسبيح، ونستعرض ومن خلال 3 مواضع في القرآن الكريم ما يؤكد وجوب أن يبقى المؤمن دائم التسبيح في جميع أوقاته وارتباط ذلك بالعبادة، ثم نؤكد من خلال آية أخرى على أن الدعاء عبادة أيضًا، ونختم بآية خامسة تذكر وبشكل صريح أن الصلاة عبادة دائمة لا انقطاع لها لنصل إلى نتيجة وهي وجوب دوام التسبيح والدعاء والصلاة.

دوام التسبيح

نبدأ في الآية الأولى في سورة الأنبياء

﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ۝ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ﴾ الأنبياء (19)-(20)

الانحسار هو التراجع بعد قوة في أمر ما، فقد يبدأ المؤمن في الذكر والتسبيح ولكنه شيئًا فشيئًا يتراجع بالتدريج حتى يختفي ذكره وتسبيحه، ويكون بذلك قد انحسر،في المقابل فإن الآية تصف الملائكة بأنهم لا يستكبرون عن عبادة الله ولا يستحسرون، وفي كلمة "الاستحسار" دلالة على أن الذاكر وهو يتراجع في ذكره وتسبيحه يعلم أنه يتراجع بل بفعل منه وإرادة، والآية تنفي عن الملائكة أن تعتريهم هذه الحالة.

ثم يأتي وصف الملائكة أنهم دائمي التسبيح ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ﴾ فهم على ذلك الحال في الليل والنهار دون انقطاع، ﴿ لا يَفْتُرُونَ ﴾ والفتور هو حالة البرود والتراخي بعد التحرك بقوة وحرارة في أمر ما، ولكن سرعان ما يتراجع ويبرد حماسه فيبطأ فيما مضى عليه من البداية. والآية ترفض ضمنًا أن يكون المؤمن في حالة من التذبذب في الذكر والتسبيح، وتنتقد أن يكون بعيدًا عن تسبيح الملائكة. والمطلوب أن يبقى ذاكرًا لله مسبحًا له في كل أوقاته وفي كل أوضاعه بنفس الحماسة وبنفس الاندفاع فلا يفتر ولا يسأم.

الآية التالية تؤكد على نفس هذا المعنى:

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ۝ فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ﴾ فصلت(37)-(38).

الآية الأولى تحدثت عن حالة خاصة عند البعض وهي حالة التوجه للأجرام السماوية وبالخصوص للشمس أو القمر بالسجود، والمقصود من هذا السجود هو تعظيم هذا الجرم السماوي اعتقادًا بأنه يجلب الخير أو يدفع الضر عن الإنسان، والآية توجه بأن هذا السجود لا يصح إلا للذي خلق هذه المخلوقات وهو الله تبارك وتعالى.

أما الآية التالية آية (38) فتعقب على ذلك بقولها ﴿فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا﴾ أي إن استكبر أولئك الذين دُعوا للسجود لله عن السجود له ﴿فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّك﴾ ويُقصد بهم الملائكة ﴿يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ﴾، وهذا يشير إلى دوام تسبيحهم لله عز وجل ليلًا ونهارًا دون انقطاع، ودون سأم. وقوله ﴿وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ﴾ يشير إلى ما قد يعتري المؤمن من سأم أثناء التسبيح.

والمطلوب من الآية هو : أن يكون الإنسان دائم التسبيح متجاوزًا بذلك سأمه وتكاسله في هذا الأمر، نقرأ في دعاء أبوحمزة الشكوى من سأم اللسان في الدعاء والتسبيح ( أفبلساني هذا الكال لأشكرك ) ؟ واصفًا فيه اللسان بالكلل عن ذكر الله، وهو يصف بذلك تراجع اللسان عن التسبيح الدائم ويشير ضمنًا إلى أن حق الله أكبر من ذلك وهو دوام التسبيح.

عبادة التسبيح

والآن نريد أن نلحظ من الآيتين السابقتين ارتباط العبادة بالتسبيح، في آيتي الأنبياء يقول الله عز وجل :

﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ ۝ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ﴾الأنبياء (19)-(20)

تبين الآية الأولى آية (19) أن من هم عند الله – الملائكة – لا يستكبرون عن عبادة الله، ثم تعقب على تلك العبادة في الآية التالية بقولها ﴿يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ﴾ ، ونلحظ أن هذه الآية استبدلت لفظة العبادة بالتسبيح، وهذا الاستبدال يأتي على أساس المصداق الواضح للعبادة.

ثم نلحظ نفس الشيء في آيتي سورة فصلت :

﴿وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ ۝ فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لا يَسْأَمُونَ﴾َ فصلت (37)-(38)

الآية الأولى تأمر بالعبادة من خلال السجود، من هنا يتبين أن السجود لله عبادة، والسجود لله يتضمن تسبيح لله بالحمد، وهو في حد ذاته تسيبح لله بالجسد، ثم تأتي الآية التالية لتؤكد على ذلك – أي على أنه تسبيح – بقولها : ﴿ فَإِنْ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ ﴾ فلم تقل أنهم يسجدون أو يعبدون، بل عقبت بأنهم يسبحون لله على الدوام، وهذا يدل على أن التسبيح عبادة لله، وكذا يدل على أن السجود هو نوع من أنواع التسبيح.

وقت التسبيح

قد فهمنا من الآيات السابقة أن التسبيح عبادة ويجب أن تكون دائمة بلا انقطاع، والآن نؤكد هذا التواصل بتحديد أوقاته في القرآن ومن خلال الآية الكريمة التالية:

﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى﴾ طه (130)

وجهت هذه الآية الأمر بشكل مباشر وليس بصورة ضمنية -كما حدث في الآيات السابقة - فهي هنا تأمر بالتسبيح في أوقات محددة في البداية حين قالت: ﴿ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا ﴾، فهي تخصص التسبيح في هذين الوقتين، ولكنها حين أكملت شملت جميع أوقات اليوم وخلال الأربع والعشرين ساعة دون استثناء، حين قالت: ﴿ وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ ﴾، فأناء الليل هي أوقاته المختلفة، وأطراف النهار هي كذلك، وبهذا شملت جميع أوقات اليوم بما فيها وقتي ما قبل طلوع الشمس وقبل غروبها، وكأنها قدمت الحديث عن وقتين بالخصوص لتأكد أهمية التسبيح فيهما وتخصهما بالاهتمام عن بقية الأوقات، ولا يعني ذلك أن يخلو وقت من أوقات اليوم بلا ذكر .

هذه الآية جاءت بصيغة الأمر، وعطفته على الصبر على صعوبات الحياة، وبيّنت أن لهذا التسبيح أثرًا في وصول المؤمن لحالة الرضى حين يواجه تلك الصعوبات، وهذا المعنى منسجم تمامًا مع مبدأ الاستعانة بالصبر والصلاة في الآية الكريمة المعروفة: ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾ البقرة (45).

وبهذا نصل إلى أن التسبيح هو عبادة وهذه العبادة متصلة لا انقطاع لها تشمل جميع أوقات اليوم، فهي دائمة عملًا ووقتًا والآن نراجع موضوع الدعاء، هل أسماه القرآن الكريم عبادة أيضًا؟

عبادة الدعاء

والآن كما فهمنا أن التسبيح عبادة، نريد أن نؤكد على أن الدعاء عبادة

﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ غافر (60)

الآية تأمر المؤمن أن يكون من دائمي الدعاء لله وبلا انقطاع ﴿وَقَالَ رَبُّكُمْ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ ، والله عز وجل يعده بالإجابة، ثم تعقب نفس الآية بقولها: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي ﴾ والتي تعني أن الدعاء عبادة وعدم ممارسته يعد استكبارا عن عبادة الله ليتضح لنا أيضًا أن الدعاء من أكبر مصاديق العبادة.

ما فهمناه سابقًا من كون التسبيح والدعاء هما عبادة دائمة، منسجم تمامًا مع مافهمناه من كون الصلاة عبادة دائمة أيضًا، فالتسبيح والدعاء هما دعامتا الصلاة، وهما أول مراتب الصلاة قبل أن يؤديهما المؤمن في صلاته بالقنوت. وهذه العبادة الدائمة – الصلاة – مذكورة في القرآن الكريم بشكل واضح وبين.

﴿فَإِذَا قَضَيْتُمْ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَاباً مَوْقُوتاً﴾ النساء (103)

الصلاة الدائمة

نصل أخيرًا إلى آية تجعل من الصلاة شيئًا أساسيًا في حياة المؤمن

﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ۝ وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾ الشرح (8)-(9)

﴿فَإِذَا فَرَغْتَ ﴾ من شؤون الحياة وأشغالها، ﴿ فَانصَبْ ﴾ للقيام بالذكر والتسبيح، ﴿وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ ﴾ أقبل على ربك بالعبادة والدعاء، بالرغبة لما عنده من الأجر والمثوبة وغفران الذنوب، لا شيء يعيقك عن تحقيق هذا الهدف بعد أن فرغت من أشغال الدنيا وهمومها.

هذه الآية تتمم فهم دوام التسبيح، فالآية لا تخصص وقتًا محددًا للقيام ولكنها تشرطه بوجود الفراغ، ووجود الفراغ يختلف من شخص لآخر، ومتى ما حصلت للمؤمن فرصة الفراغ فهو أمام فرصة للقيام لله، والقيام لله هو تجسيد لأفضل حالات التسبيح لله بالانقطاع له، فالمؤمن الذي يسبح أناء الليل وأطراف النهار، تارة يسبحه باللسان أثناء انشغالات الحياة، وتارة أخرى يسبحه بالقيام حين يفرغ لله عز وجل، وهذا ما وجدناه في مثلث الصلاة في الحلقات السابقة.

خاتمة

كنا قد فهمنا من الحلقة السابقة وجوب دوام الاتصال بالله في جميع الحالات والأوضاع، قاعدًا أو قائمًا أو على جنبه، أما الآيات التي درسناها في هذه الحلقة فهي تؤكد على وجوب دوام التسبيح، آيات دوام الاتصال تتحدث بالدرجة الأولى على التوجه لله بالدعاء، أما آيات دوام التسبيح فتؤكد على وجوب تسبيح الله بذكره، وكلاهما يعني الصلاة، فالصلاة هي ذكر يشتمل على الدعاء والتسبيح. وهذا بدوره يؤكد على ما فهمناه من أن الصلاة دائمة لا تنقطع.

أما الآية الأخيرة آية ﴿فَإِذَا فَرَغْتَ فَانصَبْ ﴾ فتؤكد على وجوب تلك الصلاة الدائمة بشكل صريح ومباشر، فلا وجود للفراغ في حياة المؤمن، فهو لا يفرغ من شؤون الحياة وأعمالها ليلهو وإنما ليتوجه لله بالعبادة، هذه الآية المباركة تجعل من الصلاة أساسًا في حياة المؤمن لا استثناءًا، تمامًا كما هو الدعاء والتسبيح.

وأخيرًا وجدنا ارتباطًا بين التسبيح والدعاء والعبادة، وفهمنا أن هذا الارتباط قائم على أساس أن التسبيح عبادة لله والدعاء كذلك، وكلاهما يعتبران من أساسيات الصلاة. وفي كل ما درسناه من دوام الاتصال ودوام التسبيح ودوام الصلاة تأكيد على فهمنا من أن نبي الله إبراهيم توصل بفطرته إلى إقامة الصلاة مع إله لا يأفل، لأن الأفول يجعل من الصلاة منقطعة لا اتصال لها وبذلك ينتفي عن ذلك الإله ربوبيته التي تشمل الإنسان بالرعاية الدائمة.

بدأنا في هذا الفصل والمعنون بعنوان (رحلة البحث عن الإله ) بفهم رحلة نبي الله ابراهيم، واقتربنا من معنى (لا أحب الآفلين) لنفهم دوام الاتصال بالله عز وجل والذي يعني دوام الدعاء، ثم انتقلنا في هذه الحلقة إلى دوام التسبيح، ووجدنا أن التسبيح والدعاء عبادة، وهذا يؤكد أن الصلاة تبدأ في المرحلة الأولى بهما، ثم تتجسد بالقيام والقنوت، وانتهينا إلى آية (فإذا فرغت فانصب) لتكون الصلاة – كما إبراهيم – دائمة متصلة لا انقطاع لها.

اللهم اجعلنا ممن ناديته فأجابك ولحظته فصعق لجلالك ، ياذا الجلال والإكرام والفضل والإنعام والحمد لله رب العالمين

لهذا الحديث تتمة إن شاء الله.