مدونة حلمي العلق

لا أحب الآفلين

 | prayer

مقدمة

خلال الحلقات الثمان السابقة، حاولنا تعريف الصلاة من القرآن الكريم ، ومختصر ذلك التعريف بأنه قيام لإجلال الله بذكر مخصص لإحداث الصلة بين العبد وربه، وقد وجدنا ميزة مهمة في هذا التعريف وهي أن الصلاة دائمة غير منقطعة وتتدرج من مرحلة عدم النسيان لتصل إلى أعلى حالاتها بالانقطاع لله من خلال القنوت.

نصل اليوم إلى محطة مهمة في موضوع الصلاة وهي محطة البحث عن إله، ونريد أن نفهم الصلاة بميزاتها وصفاتها من خلال هذا البحث.

يعرض لنا القرآن الكريم نموذجًا راقيًا يبرز هذا الموضوع، وهو نموذج نبي الله إبراهيم الذي – وكما يعرضه القرآن الكريم – كان فتًى يبحث عن الحقيقة.

لا أحب الآفلين

يقول الله عز وجل بهذا الخصوص :

﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ ۝وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ ۝ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ۝ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ۝ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ۝إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾الأنعام (74) – (79)

تعرض هذه الآيات المراحل التي عاشها نبي الله إبراهيم (ع) أثناء رحلة البحث عن إله، مرحلة بعد مرحلة، حتى وصل إلى الحقيقة التي تيقن منها، واطمأن لها قلبه، وهي أن كل مظاهر الصنمية أو التوجه للمخلوقات المرأية ماهي إلا حالات من الشرك، وأن الحقيقة تكمن في التوجه الخالص لله عز وجل.

نريد أن نقرأ هذه الآيات قراءة متأنية ثم نربطها بموضوع بالصلاة، ولكن في الحلقات القادمة بإذن الله.

1- ﴿وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ﴾ الأنعام (74)

هذه الآية تعرض نبي الله إبراهيم وهو فتىً في مقتبل العمر كما بيّنت آيات سورة الأنبياء: "سمعنا فتى يَذكرهم يقال له إبراهيم" يطرح التساؤلات أمام قومه وأمام أقرب الناس إليه: " أتتخذ أصنامًا آلهة" ؟ ما يظهر في هذا العرض القرآني أن القرآن يُعزز هذا الطرح وخصوصًا في هذه المسائل الكبرى! ويعزز مسألة النظر للواقع بعينٍ فاحصة متأملة، إبراهيم هو واحد من فتيان ذلك الزمان، كان أقرانه يستلمون الدين والعقائد والأفكار والعادات من آباءهم دون أن يبحثوا فيها ودون أن يطرحوا التساؤلات، يأخذون صندوق الدين بلا تفكر، ويستلمون العقائد بلا تمحيص، ولكن إبراهيم المختلف عنهم يطرح السؤال، والقرآن يسلط الضوء على هذا المختلف، ليوصل رسالة مضمونها : هاهنا إنسان مختلف يبحث عن الحقيقة!

إنه يطرح السؤال الجريء والهام في كل زمان: ماهذا؟ ولماذا؟ سؤال يجلب المعرفة من أصولها، وقد صاغه القرآن : " أتتخذ أصنامًا آله"، لماذا تتوجه لهذه الأصنام وتقدسها وتبجلها؟

التصنيم هو تصوير الشيء، فالأصنام ما هي إلا صور لشخصيات ميتة يحاول الذين يقدسون تلك الشخوص أن يعيدوا تجسيدها، لأنهم يتصورون أنها خالدة وباقية لم تمت، ويريدون من خلال ذلك التجسيد أن يستمدوا منها العون والخير والبركة، والآية دقيقة في التعبير حيث أنها تقول على لسان نبي الله إبراهيم: " أتتخذ"، فليس بالضرورة أن يصرح العابد المتقرب للأصنام أنها آلهته التي يعبدها من دون الله، ولكنه يتعامل معها على ذلك الأساس بالاعتبار، ونبي الله إبراهيم يستنكر هذا الأمر ويقول لقد عظمتم هذه التماثيل -التي تجسد أشخاصًا قد ماتت منذ زمن- تعظيم آلهة، فلماذا تجعلونها كذلك؟

أما الطرف الآخر الذي يتقرب ويتزلف لتلك الأصنام فهو يقول: أنا لا أعبد الحجر، وإنما هذا الحجر يجسد لي شخصية مقدسة، بها تحل البركة، وأنا أتقرب لتلك الشخصية، لأنها هي من تهبني كل تلك البركات، لكن إبراهيم يواجه ذلك المقدس الزائف بكل جرأة ويقول: " إني أراك وقومك في ضلال مبين" ، وأول مايلفتنا في هذه العبارة قوله: " إني أرى". وأول ما يلفت نظر القوم هو من هو القائل؟ من هذا الذي يتحدث؟ إنه ذلك الفتى الناشيء، إنه يقول ويدعي أن له رأي، وهو لازال "بادي الرأي"، إلا أن القرآن يعرض هذا الرأي على أنه رأي معتبر، لأنه نابع من الفطرة التي لم يخالطها الشك والشرك وتنطلق بكل بساطة في عرض الواقع.

يتحدث نبي الله ابراهيم بثقة لأنه يرغب في الحقيقة، " إني أراك وقومك في ضلال مبين"، من البداية تتضح ملامح البراءة من الشرك والانحراف و التبعية العمياء، إذ إنه لم يقل إني أراك وقومي، بل قال وقومك، وكأنه يشعر أنه ليس منهم، يشعر بأنه لا ينتمي إلى هذا الكيان المنحرف الضال، لأن ما يراه هو ضلال واضح مبين.

2- ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ﴾ الأنعام (75)

"كذلك نري إبراهيم" كما أن إبراهيم بدأ بالتساؤل وهو شاب غض طري، وكسر طوق التفكير، وحطم حاجز الأصنام النفسي، وتجاوز فتنتها التي تشد الأنظار وتضل العقول عن الحقيقة، كما اقتحم بنفسه هذه العقبة، أراه الله ما يبحث عنه، وكأن اليد الربانية تنتشل ذلك الذي يسعى ويمد يده نحو الغيب متطلعًا نحو الحقيقة، ذلك الإنسان الذي يقول بكل صدق وبكل رغبة: أين هي الحقيقة؟ ويد الغيب تمتد لهذا الفتى من بين كل أولئك المنغمسون في الشرك لتنتشله من ذلك الظلام، لأنه يستحق بسعيه الجاد أن يهتدي للحقيقة بعد أن جاء ربه بقلب سليم.

لقد حقق نبي الله إبراهيم الشرط الأول للدخول في عالم الحقيقة، لقد بدأ بالحنفية والميلان عن الواقع المليء بالتناقضات والانحرافات عن أصل الحقيقة، من هنا مال عن الشرك، وحين يبدأ الإنسان في الميلان عن كل ضلالة، يأخذ الله بيده، ولا نتصور أن ذلك الميلان هو أمر هين، فالكثرة الغالبة والمسيطرة والتي لها التأثير البالغ على الأجيال والفتيان هي مع ذلك الضلال، ورغم ذلك فقد كان ابراهيم الفتى قادرٌ على كسر القيود والخروج عن التيار المنحرف عن الجادة والتحرر من هيمنة السائد.

" وكذلك نري ابراهيم ملكوت السماوات والأرض"، كانت البداية في أن فتح الله عز وجل بصيرة قلبه نحو الملكوت، والملكوت هو ملك الله، ما في السماوات من أجرام وما على الأرض من مخلوقات، هذا ملكه وهذا خلقه. لكن التساؤل هو: إن كان مطلب إبراهيم هو معرفة الحقيقة ومعرفة الإله الذي يستحق التوجه والعبادة، فلماذا يريه الله عز وجل الملكوت؟ لم يكن مطلبه أن يرى ما في السماوات من أجرام ولا مافي الأرض من مخلوقات؟ الآية ترشدنا إلى مسلك المعرفة ومنهج اليقين، حتى ننظر في الملكوت بالبصيرة ونبصر بقلوبنا من وراء ذلك مالك الملك، فإذا رأينا بأعيننا المظاهر أبصرنا بقلوبنا المالك الظاهر القوي العزيز، سبحانه وتعالى.

في الأثر في دعاء عرفة للإمام الحسين (ع) : " تعرفت إلي في كل شئ فرأيتك ظاهرا في كل شئ، فأنت الظاهر لكل شئ " ، ويقول : "كيف يستدل عليك بما هو في وجوده مفتقر إليك، أيكون لغيرك من الظهور ما ليس لك، حتى يكون هو المظهر لك، متى غبت حتى تحتاج إلى دليل يدل عليك ومتى بَعدت حتى تكون الآثار هي التي توصل إليك، عَميت عين لا تراك عليها رقيبا، وخسرت صفقة عبد لم تجعل له من حبك نصيبا" (1)

إذًا هذا المقطع يكشف النتيجة التي يصل لها المتأمل على هذا المنهج الرباني الذي أرشد الله به عز وجل إلى نبيه إبراهيم (ع) ، " وليكون من الموقنين" يبدأ الإنسان بالسؤال والتحرر بالنية الصادقة والقلب السليم، فيسحبه الله نحوه ليريه الحقيقة، ويدخله في مشوار المعرفة، ليصل لليقين بالله، هذه هي رحلة البحث عن إله، رحلة اليقين، أما مشكلة قوم إبراهيم ليست في أنهم لا يعرفون الله ولكنها في كونهم لا يوقنون به وبأفعاله وهيمنتة، ذلك لأنهم لم يطرحوا السؤال الذي يحررهم من الواقع ليذهبوا لذلك اليقين الذي لاريب فيه.

ومن هنا تبدأ رحلة المعرفة..

3- ﴿فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ﴾ الأنعام (76)

تبدأ الآيات الكريمة في الحديث عن كيف عاش نبي الله إبراهيم مراحل رؤية هذا الملكوت، بدأت الرحلة حين غطى الظلام الأرجاء، " فلما جن عليه الليل بدأ في التأمل في السماء "رأى كوكبًا"، لقد انتقل من موجودات الأرض ومخلوقاتها وأطلق بصره نحو السماء، نحو الأعلى، لم ينظر في الأرض! لم يَنظر لأشجارها الضخمة! ولا لجبالها الشاهقة ولا لأنهار الطويلة! فهناك من يعبد هذه الموجودات، لقد هجر الأرض وماعليها وأنتقل إلى السماء في أول بحثه.

انتقال إبراهيم من الأرض إلى السماء هو انتقال من الأدنى إلى الأعلى والأسمى، وهذه النقلة تقود المؤمن إلى اليقين بالغيب، لقد قال : "هذا ربي"، الرب يشمل بالرعاية والتربية ويحيط بالهداية والإرشاد والرحمة، وهو يشعر أن ذلك البَعيد الأعلى الذي يعلو على كل شيء، من الممكن أن تكون إحاطته ورعايته شاملة ودائمة، على خلاف الأصنام أو الموجودات على الأرض فهي محصورة في المكان التي تكون فيه.

"فلما أفل" فلما بدأ هذا الكوكب بالاختفاء شيئًا فشيئًا، وبدأ ضُوءه ينحسر بالتدريج، قال ابراهيم (ع): " لا أحب الآفلين"، إذًا لم يكن قوله : " هذا ربي " قرارًا نهائيًا، ولكنها تجربة إيمانية عقائدية فكرية، والقرآن يعزز هذا الانموذج، فلا خوف من خوض غمار التجربة، فلن يصح في النهاية إلا الصحيح، فلم الحذر ولم الخوف؟

إبراهيم يشير إلى الكوكب قائلًا "هذا ربي"، فهل تصمد هذه الجهة في تحقيق الربوبية التي ينشدها إبراهيم؟ لقد أخضع إبراهيم (ع) هذا الجرم السماوي للاختبار، فكان يراقب و يعيش التجربة، لكن الكوكب لم يصمد ولم يحقق المطلوب، لأنه يأفل! وينحسر ويغيب.

" قال لا أحب الآفلين" ، نقف متسائلين أمام هذه العبارة الهامة، فإبراهيم يدير بوجهه عن هذا الكوكب، والسبب أنه لا يحب الآفلين! فكيف تكون العلة أنه لا يحب؟! أليس موضوع البحث عن الإله والرب مسألة عقلية؟ وهل عدم الحب سبب لإلغاء القناعة بهذه الجهة؟ ذكر الحب يعني أن مدار الموضوع هو المشاعر وليس العقل! فهل تُدار هذه القضية بالعقل، أم بالمشاعر والوجدان؟

هذا يقودنا لضرورة معرفة الحب، فمنبع الحب هو العطاء، ولأن ابراهيم يبحث عن مصدر العطاء والجهة التي تُغدق عليه بكل النعم التي يراها في نفسه ومن حوله، فهو يبحث عن مصدر تلك النعم، هو يبحث بوجدانه ومشاعره عن تلك الجهة، ولأنه استشعر تلك الحقائق وتلك المنن بقلبه ومشاعره ووجدانه، فلابد حين يُفرغ تلك المشاعر إلى جهة ما، أن تكون منسجمة مع ما يشعر.

لقد أنكر نبي الله إبراهيم على قومه مايعبدون، ثم إنه لم يتوقف عند النكران والرفض فحسب، بل تحرك نحو البحث والتحري والتجربة؟ ولكل حركة دافع، فما الذي دفعه للسير في هذا الاتجاه والمضي في البحث عن إله؟ وما الذي دفعه للسؤال والتحري وعيش هذه التجارب الإيمانية؟

إنها الحاجة الماسة التي يعيشها في قلبه، كالطفل الذي يبحث عن أحد والديه، فالطفل يبحث عنهما لأنه بحاجة كبيرة لوجودهما ولأن يكون بالقرب منهما، لأنهما مصدر كل العطاء، وذلك العطاء هو مصدر الحب، فالطفل لا يبحث عن والديه كي يجيب عن سؤال عقلي محير! ولكنه يبحث عنهما لأنه "يشعر" أنه بحاجة لهما، لأنهما مصدر الرحمة والمنن التي تشمله، فوجوده مقترن بهما، فالدافع هو الحاجة، هو الفقر، وما لم يشعر الإنسان بهذه الحاجة وهذا الفقر فلن يبحث عن ما يسد تلك الحاجة وما يغطي ذلك العجز والنقص والفقر، " إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى ".

لقد شعر إبراهيم بالعطاء الدائم والمستمر والرعاية الشاملة والدائمة، فكيف تكون تلك الرعاية المستمرة صادرة من جهة تظهر حينًا ثم تأفل حينًا آخر؟ شعور استمرارية النعم واستمرارية الحاجة لا ينسجم مع انقطاع الظهور، لأن هذا الانقطاع يترتب عليه انقطاع ما يصدر من هذه الجهة من رعاية ونعم، لكن مشاعر إبراهيم تقول أن الرعاية لا تنقطع وحاجته دائمة، فإذًا هذا الكوكب لا يستحق هذه الربوبية.

الآية تتحدث حاجة ابراهيم لإله دائم الوجود والحضور، ونستشعر ذلك من خلال التدقيق في كلمات الآية الكريمة :

" فلما جن عليه الليل رأى كوكبًا قال هذا ربي فلما أفل قال لا أحب الآفلين" ، لا أحب الآفلين لأن حاجتي للإله أكبر من حجم هذا الكوكب وأكبر من ظهوره المؤقت، لذا صلتي به يجب أن تكون أطول من الوقت الذي يتيحه في الفترة المؤقتة التي يظهر فيها، فبمقدار حاجة الإنسان يقبل أو يرفض، يقبل أن يستقر على هذا الإله، أو أن يتحول عنه إلى جهة أخرى، ولأن حاجة ابراهيم كانت كبيرة وماسة لم يستقر على هذا الكوكب، لذا قال : " لا أحب الآفلين".


(1) دعاء عرفة للإمام الحسين (ع)