مدونة حلمي العلق

التسبيح بالحمد

 | prayer

مقدمة

تعلمنا من الحلقة السابقة أن للتسبيح أثر كبير في حياة المؤمن فهو مسار يتحرك فيه من القلق إلى الطمأنينة، ويبعث إيمانه من الضعف إلى القوة، ويدفع صلته بالله من البعد إلى الاقتراب، وقد تأكد لنا أن التسبيح هو أن لا نرى غير الله فاعلًا ولا مؤثرا في هذه الحياة، بعد نفي كل أحاسيس القوة عن النفس وعن غيرها في أن يكون لها التأثير. ولقد وجدنا سابقا أن هناك تسبيح بالمعنى يسبق لفظة التسبيح نفسها، واليوم نتحدث عن تسبيح الله بالحمد، الذي أمر الله به في أكثر من موضع في القرآن، وقد مر بنا آية (سبح بحمد ربك قبل طلوع الشمس) فما هو التسبيح بالحمد؟.

عندما نحمد الله فإننا نثني على أفعاله الحسنة، وهذا يعني وجود مرحلة تسبق هذا القول، وهي ملاحظة النعم ورؤية الفعل الحسن، ثم الاعتراف أنه صادر من عنده، ثم الثناء عليه عز وجل، والثناء عليه يكون بقولنا "الحمد لله" أو بذكرنا أنه صاحب المواهب السنية والفعل الحسن الجميل، بما ينفي الفضل عن غيره، فهو المتفضل لاسواه، وعبارة الحمد لله، تحصر المحامد لله وبالتالي تنسب كل النعم التي من حولنا إليه وحده، فالحمد له هي نسبة إلى جهة واحدة.

كثير من النعم من حولنا نفقد الإحساس بها لا بسبب عدم وجودها، وليس لكون النعمة ليست حاضرة بصورة قوية، ولكن بسبب عدم التفات الإنسان لها، ذلك لأنه مشدود على الدوام لعالمه المادي، فلا يستيقظ من تلك الغفلة إلا برحمة من الله، فيغفل بسبب ذلك الإنشداد عن نعم كثيرة منّ الله بها عليه بسبب اعتياده وغفلته، وبسبب انشغاله بتفاصيل الحياة، فهو مع الحياة كمن يعيش معركة، وأثناء المعركة لا يشعر بالنعم من حوله ولا بالكون من فوقه.

نبدأ في حلقة هذا اليوم في التعرف على أهمية التسبيح بالحمد، ثم نتعرف على الحمد ، ثم نختم بفهم التسبيح بالحمد. نبدأ بآية تربط التسبيح بالحمد بالصبر كما مر علينا سابقًا:

أهمية التسبيح بالحمد

يقول الله عز وجل

﴿ فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ ۝ وَمِنْ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ ﴾ ق (39) - (40)

سبق وأن تناولنا آية التسبيح بالحمد قبل طلوع الشمس وقبل غروبها والتي بدأت بقوله تعالى "فاصبر على مايقولون" وختمت بالقول " لعلك ترضى" وكانت الوسيلة في ذلك هي التسبيح بحمد الله، وكانت انموذجًا للتسبيح الدائم، وكذلك مثالًا طيبًا على أثر التسبيح على المؤمن، هذه آية أخرى تؤكد على نفس المعنى، توصي النبي الكريم بأن يصبر على ما يقول الكافرون، ثم تأمره بالتسبيح بالحمد مؤكدة على نفس الوقتين وهما قبل طلوع الشمس وقبل الغروب، ومن الليل، وتضيف أدبار السجود.

نريد أن نلتفت من خلال هذه الآية إلى أهمية التسبيح بالحمد، فالأمر به في هذه الآية واضح ، وكذلك أثره فهو يغذي النفس بقوة الصبر، ومن ذاك يبتان لنا أن للتسبيح أهمية وخصوصًا إذا كان تسبيحًا بالحمد، فمضمون الآية هو، بدلًا من أن تنجر وراء مهاترات الكافرين والمناوئين، وبدلًا من الانهيار أمام صعوبات الحياة، اصبر وانشغل بالتسبيح بالحمد، فلا ينفك قلبك ولا لسانك عن هذا الفعل حتى في أصعب اللحظات، لأنه مهم ، ولأنه وسيلتك للفكاك من هموم تلك الصعوبات. نؤكد على هذه الأهمية من خلال آية أخرى وهي آية الخلافة التي مرت علينا سابقًا.

يقول الله عز وجل:

﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لا تَعْلَمُونَ ﴾ البقرة (30)

يمكننا ومن خلال التأمل في هذه الآية ومن خلال وضع التسبيح بالحمد في مقابل الفساد في الأرض وسفك الدماء كطرفي نقيض أن نستنتج أهمية التسبيح بالحمد، فقد وضع الملائكة في محاججتهم هذه التسبيح بالحمد في كفة ومشروع الخلافة في كفة أخرى، فالمشروع الناجح – في نظر الملائكة – هو الذي يحافظ على التسبيح بالحمد، وإذا كانت الخلافة ناجحة فيجب أن لا يقل مستوى التسبيح بحمد الله عن تسبيح الملائكة الدائم.

ويمكننا أن نستنتج من خلال هذه المقابلة أيضًا أن فقدان أفضل عمل -وهو التسبيح بالحمد- قد يؤدي بالخلافة إلى أسوأ عمل، الأمر الذي يشي بأن التسبيح الحقيقي بالحمد والفساد لا يجتمعان، وهذا ما يدعونا للادعاء بأن لهذا التسبيح أثر في سلوك الإنسان وفي أداء مهمته على الأرض.

والآن بعد أن تعرفنا على جانب من أهمية التسبيح بالعموم والتسبيح بالحمد على وجه الخصوص، فما هو التسبيح بالحمد، وكيف تكون له كل هذه الأهمية ؟ أولًا نسأل: ماهو الحمد؟

الحمد لله

الحمد هو الثناء على نعمة طيبة أو فعل حسن، ولا يكون الحمد بعد إدراك ذلك والإحساس به، وهذا يقودنا لفهم الخطوة الأولى للحمد وهي مشاهدة النعم، ثم الشعور بالتقصير في أداء حقها، والحمد كلمة مرفقة بأل التعريف وهذه الرفقة تجعل منه مملوكًا لله، ولذلك فإننا بهذا الحمد نقر أن الحمد كله لله لا يشاركه فيه أحد، وهذا يعني أن الحامد يرى أن النعم كلها قد صدرت من جهته، ويرافقه شعور بأن الله قد أغدق بالنعم وأغرق المنعم عليه بالكرم، فأصبح الحامد لا يرى غير المحمود معطيًا.

عندما يقال لأحد احمِد صاحب هذه النعمة، فإن الحامد يقوم بالثناء عليه وذكر محاسن فعله، فقد يقول له أنك محمود الفعال والخصال، وقد يثني على فعله بكلمات تؤدي إلى فهم واستيعاب معنى الفعل الجميل وكرم العطاء، فإذا قلنا احمد الله، فمكن الممكن أن نقول الحمد لله، أو أن نذكر الله بالثناء والأفعال الحسنة التي يسديها للناس بصورة عامة، وللحامد على وجه الخصوص. وعندما نقول أن الحمد لله، فطبيعة اللفظة تعني أن لا أحد له الحق أن يحمد، فالحمد كله لله.

نحاول الآن ومن خلال استعراض آية تحمد الله، أن ندرك حقيقة الحمد أنه ثناء على أفعال الله، وارتباط ذلك بالنعم التي أنعم بها على الناس في هذه الدنيا.

الحمد والنعم

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾ الأنعام (1)

﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ ﴾ الآية المباركة تحمد الله على خلق السماوات والأرض، وقد خلقهن الله عز وجل خلقًا عظيمًأ متقنًا، ولهذا الإتقان الكثير من النعم والمنافع التي يعلم الإنسان جزء منها ولكنه يغفل ويجهل الكثير، ﴿وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ﴾ وله الحمد أيضًا حين جعل الظلمات والنور، فكم إعجاز وعظمة وخير وفضل فيهما؟

نلحظ في هذه الآية كيف يثني الله عز وجل على نفسه من خلال ذكر النعمة، وكيف أنه يبدأ ذلك بالحمد، وهي نعم يلفت القرآن النظر إليها حتى لا تأخذ المؤمن الغفلة والانشغال عنها، فأحد أهم البدايات في بناء الصلة مع الله هي من خلال ملاحظة النعم، وكثيرًا ما نجد أن القرآن يتحدث عنها، ويذكر بها، وكما لحظنا في الحلقة السابقة أن التسبيح علاج لأمراض القلب والعقيدة، نلحظه في هذه الآية أيضًا، فالالتفات إلى النعم ومعرفة من وراءها يختصر الطريق لعلاج القلب المبتعد عن الله والمنصرف عنه إلى غيره، وهذا ما أشارت إليه خاتمة الآية حين قالت ﴿ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ﴾، أي كيف يكون للإنسان وبعد أن يرى هذه الحقائق البينة والآيات الواضحة أن ينصرف إلى غير الله؟ ويعدل به غيره، أي يساوي قدر غيره مع قدر الله؟

نلحظ هنا أولًا أن الحمد هو الثناء على الله، وأن الحمد مرتبط بالنعم ورؤيتها ومشاهدتها، فلا يكون الحمد عن فراغ وعدم رؤية، وإلا تحول الحمد إلى لفظ أجوف خاوي من المعنى والتعبير، نؤكد على هذا المعنى في موقف آخر وآية أخرى.

﴿ فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ ۝ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ ﴾ الروم (17)-(18)

أقسم القرآن الكريم بأوقات محددة، منها الشفق والغسق والضحى والليل، كل تلك ظواهر كونية غير اعتيادية، فإذا كنا نصلي صلاة الآيات حين نرى آية في الكون كخسوف القمر أو كسوف الشمس، فإن آية التحول يومية وهي المتمثلة في ولوج الليل في النهار وولوج النهار في الليل. هذه الظواهر الكونية تظل واحدة من الآيات المبصرة التي تذكر الإنسان بخالقه وبفعله في هذا الكون، وعليه فإن المؤمن يلحظ ذلك ببصيرته قبل بصره ويحمد الله حمدًا كثيرًا ويسبحه تسبيحًا دائمًا لكل ما يشاهده من تلك الآيات.

الآية تقول أن الحمد لله في السماوات والأرض، فلا أحد يستحق الثناء على صنع الله في السماوات والأرض وعلى هذا الخلق المبدع والمتقن والمصنوع بكل دقة، ثم يشير إلى وقتين يثني الله عز وجل على نفسه لوجودهما، هما العشي والظهيرة، والعشي هو الوقت الذي تعشو فيه العين، ويكون ذلك بعد غياب قرص الشمس حيث تبدأ السماء بالظلام بشكل متدرج لا يشعر به الإنسان، لينتقل من النور إلى الظلمات ببطء وسلاسة، وفي ذلك نعمة على الإنسان وآية كبرى تتجسد أمام ناظر الإنسان كل يوم. أما الظهيرة فهو الوقت الذي تظهر الشمس فيه لتصل إلى كبد السماء، والله عز وجل يشير إلى أنه صاحب المنة والحمد في ذلك، وليست الطبيعة ولا الصدفة هما اللذان وفرا للإنسان نعمة تبدل الأوقات.

ونلحظ كذلك أن الآية السابقة بدأت بالتسبيح، حين أشارت إلى حالتي الإمساء والإصباح اللتان يعيشهما الإنسان، وحين تقول سبحان، فهي تنفي أن يكون لأحد القدرة في أن يغير عليه الحال وأن يمسيه أو يصبحه، ومن هنا نفهم أيضًا أن الحمد هو الثناء الحسن على أفعال الله ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، فلو شاء الله لجعل الليل سرمدًا إلى يوم القيامة، أو لجعل النهار سرمدًا، ولكنه تقدست أسماؤه هو من يبدل الأوقات، وكل وقت من هذه الأوقات له ميزاته ونتائجه وتتفاعل معه الكائنات بطبيعتها, وتتفاعل النفس مع كل فترة من فترات اليوم بشكل مختلف.

لقد جعل الله الليل لباسًا وسكنًا وجعل النهار معاشًا وضياء، وأوقات النهار لها تفاصيلها فأوله غير آخره، وكذلك الليل فأوله غير آخره، كل تلك الاختلافات تعين الإنسان على القيام بمهامه وعباداته بصورة متكاملة، وهذا التبديل من أفعاله الجميلة ومن عطاياه البارزة لكل الناس والتي تشهدها الأبصار، ولكن العادة جعلتها في مصاف الظواهر الكونية الطبيعية والتي لا حضور لله فيها، ولكن القرآن يريد منا أن نتجاوز غفلتنا واعتيادنا لها للدخول في آيتها واستشعار أهميتها في الحياة، فله الحمد على هذه النعمة الكبيرة، فالحمد لله على إقبال الليل وإدبار النهار، والحمد لله على إدبار النهار وإقبال الليل.

لقد تعرفنا من خلال هتين الآيتين على معنى الحمد على أنه الثناء على فعل الله ونعمه، وعليه فإن التسبيح بالحمد يضيف للتسبيح الاعتقاد بجمال الفعل، فإذا كنا قد آمنا بأن الفاعل الحقيقي في هذا الكون هو الله، يبقى أن ندرك أن فعله حسن جميل حقه الثناء عليه، فأفعاله جميلة في الكون وكذا في تفاصيل الحياة التي نعيشها. والأمر بالتسبيح بالحمد يعني أن نحمد الله، فحمدنا له تسبيح، فكما أن هناك تسبيح باللفظ وتسبيح بالمعنى، لدينا أيضًا تسبيح بالحمد والثناء على الله، ويمكن أن نطبق ذلك التسبيح بأن نقول "الحمد لله" ومن الممكن أن نطبقه بالثناء على أفعاله الحسنة.

قد فهمنا أن الحمد يعني أن ننسب النعم لله وحده ليكون الثناء له وحده لا شريك له، وهذا هو مضمون التسبيح كما تعلمنا سابقًا، ففي الحمد نفي عن غير الله أن يستحق الحمد والثناء فلا منعم غير الله، ونسبة الحمد كله لله، وفي هذه النسبة اعتراف بأن المنعم هو الله وحده ولا يشاركه في هذا الإنعام أحد.

﴿ قُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى أَاللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ النمل (59)