مدونة حلمي العلق

التسبيح باسم الله العظيم

 | prayer

مقدمة

تحدثنا في الحلقة السابقة عن التسبيح بالحمد وقلنا أنه تسبيح بواسطة الحمد، فعندما نقول الحمد لله فإننا نسبح الله، وعندما نثني عليه فإننا نسبحه كذلك، يقول الله عز وجل :

﴿ وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ﴾ الإسراء (111)

في هذه الحلقة لنا وقفة مع التسبيح باسم الله العظيم، وكما فهمنا من أمر التسبيح بالحمد، فإن الحمد لله باللفظ أو المعنى تعني التسبيح، فكذلك يكون مع التسبيح باسم الله العظيم، فإننا نسبح الله بذكر اسمه العظيم، فنقول: سبحان ربي العظيم. أمر القرآن الكريم بتسبيح الله باسمه العظيم في ثلاث مواضع، آياتان منهما في سورة الواقعة وآية أخرى في سورة الحاقة، نقف أمام مقاطع هذه الآيات لنفهم سياقها ثم نضع بعد ذلك أمر التسبيح باسم الله العظيم ضمن ذلك السياق، لنفهم المراد من ذلك الأمر بصورة أوضح، وذلك بفهم معاني العظمة التي ذكرت كأمثلة والتي سبقت ذلك الأمر.

المقطع الأول هو الذي درسناه في سورة الواقعة وظهرت فيه تساؤلات أربع، ثم ختمت بالقول ﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ الواقعة (74)

التسبيح باسم الله العظيم

يقول الله تعالى :

﴿ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ ۝ أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ ۝ نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمْ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ ۝ عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لا تَعْلَمُونَ ۝ وَلَقَدْ عَلِمْتُمْ النَّشْأَةَ الأُولَى فَلَوْلا تَذكَّرُونَ ۝ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ ۝ أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ ۝ لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ ۝ إِنَّا لَمُغْرَمُونَ ۝ بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ ۝ أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ ۝ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ ۝ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ ۝ أَفَرَأَيْتُمْ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ ۝ أَأَنْتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنشِئُونَ ۝ نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعاً لِلْمُقْوِينَ ۝ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ الواقعة (58)-(74)

لقد درسنا هذه الآيات سابقًا، ووجدنا أنها كانت تشير إلى عظمة الله عز وجل في الخلق وفي تقدير الحياة والموت، وفي الحرث والإنبات، وفي إنزال الماء وإحياء الأرض والناس، وفي إشعال النار وما فيها من فوائد وإنشاء الشجر الخاص بالاحتطاب ، ثم ختم المقطع بآية تأمر بالتسبيح باسم الله العظيم.

﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ الواقعة (74)

سبح بواسطة اسم الله العظيم، والمعنى أن نذكر هذا الاسم بغرض التسبيح، والتطبيق العملي لذلك هو أن نقول سبحان ربي العظيم بعد الشعور بتلك العظمة ورؤيتها في تفاصيل الحياة، فكما فهمنا من التسبيح بالحمد أننا نحمد بعد أن نرى النعمة ونشاهدها ونقر بها كذلك في التعظيم نحن نرى العظمة في الخلق وفي الكون وفي الآفاق وفي الأنفس ونستشعرها ثم نسبح بالعظمة. إذًا القرآن الكريم يريد منا أن نعالج هذه النفوس المشغلة بالماديات بواسطة التسبيح، يريد منا أن نلتفت لعظمة الخلق من حولنا حتى نرى العظمة فنرى من وراء ذلك العظيم الذي ليس كمثله شيء. هذا ما تم مدارسته سابقًا.

وهنا نضع بعض الملاحظات على هذا التسبيح، في البدء نلحظ أن الآية المباركة استخدمت لفظة الرب لما لها من أهمية في موضوع التسبيح، فالرب هو المختص بالعطاء وقد نقول رب المنزل أو رب الأسرة أورب العمل أي صاحب العمل الذي يدير شؤونه والمسؤول عنه وعن عطاء أفراده، والرب هو المتفضل صاحب النعمة وفضله على مربوبيه بشكل مباشر، وهذا التفضل وهذه النعمة تذكرنا بما أخذناه سابقًا من معنى الحمد، فالحمد يتضمن الاعتراف بالنعم، وكذلك كلمة الرب تتضمن الاعتراف بالنعم ومباشرة التعامل وإدارة شؤون الحياة.

ثانيًا نسأل أين يكون أثر هذا التسبيح ؟ هل نسبحه من أجل الناس؟ هل المستفيد من التسبيح هذا هو الآخر؟ نجد أن أثر التسبيح - كما فهمنا سابقًا - هو المؤمن حيث الله في قلبه، وحتى نضع الآية في سياقها نقول: إذا كنت تريد أن ترى الله هو الفاعل في واقع الحياة في الخلق وفي إنزال الماء من السماء وفي تنقيته وفي إشعال النار وإنشاء الأشجار، سبح باسم ربك العظيم ، قل سبحان ربي العظيم حتى يزداد يقينك بالله وبعظمته وبأنه هو الفاعل الحقيقي في هذا الكون، وكما وجدنا سابقًا فإن هذه الفائدة تتجاوز ذلك الفهم إلى الإيمان بالكتاب السماوي.

والآن نكمل على هذا المقطع بمقطع آخر ينتهي أيضًا بالأمر بالتسبيح باسم الله العظيم لنرى السياق الذي يأتي فيه هذا الأمر.

في المقطع التالي لتلك الآيات يقول الله عز وجل :

﴿ فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ ۝ وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ ۝ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ ۝ فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ۝ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ۝ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ ۝ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ۝ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ۝ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ۝ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ۝ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ۝ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ۝ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ ۝ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ الواقعة (83)-(96)

يـأتي هذا المقطع المبارك بعد سابقه ليضعنا أمام مشهد نزع الروح من الجسد، ويبدأ بالقول ﴿ فَلَوْلا إِذَا بَلَغَتْ الْحُلْقُومَ ﴾ أي إذا بلغت الروح أثناء خروجها من الجسد إلى مبلغ الحلقوم وهو مجرى الطعام والتنفس من الحلق، ﴿وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُون﴾، وفي هذه اللحظات أنتم تنظرون لهذا الذي تنزع منه روحه عن جسده، في هذه اللحظة يتجلى لكم الغيب بأنصع صورة، فهذا الجسد المليء بالحياة سيتحول إلى جثة هامدة بعد دقائق، فإلى أين ستذهب تلك الحياة؟ وذلك الإنسان، فالله وملائكته الموكلين بالموت أقرب إليه منكم ولكن لا تستطيعون رؤية ذلك ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لا تُبْصِرُونَ ﴾ ثم يفرض التحدي الذي من خلاله يريد أن يثبت قضية البعث، فيقول: ﴿ فَلَوْلا إِنْ كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ ﴾ أي إن كان صحيح ما تدعون من عدم إمكانية البعث مرة أخرى والعودة للحياة من أجل المحاسبة، إن كان اعتقادكم في ذلك أو ادعاؤكم باللفظ عن هذه القضية صحيح ﴿ تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ ﴾ أي ارجعوا هذه الروح التي تزهق أمامكم، تأملوا في عجزكم، فهاأنتم حوله لا تملكون أن تفعلوا له شيئًا.

ونسأل هنا عن سر ارتباط هذين الامرين؟! أي لم يكون العجز عن رد الروح للجسد سببًا لامتناع التكذيب بيوم الحساب؟! ويمكننا أن نجيب من خلال دراستنا للتسبيح أن الرابط في ذلك هو العظمة، فإذا استشعر الإنسان قدرة الله في إبقاء الروح أو إخراجها، وشعر بأنه لا يملك شيئا من ذلك، كان لزامًا أن يشعر بعظمة الله، وإذا شعر بعظمة الله لم يعييه أن يشعر بأنه قادر على إعادة الخلق مرة أخرى ومحاسبتهم على مافعلوه في الحياة الدنيا. فالسر في التكذيب هو ضعف الإيمان الذي يمكننا أن نميزه هنا بضعف التسبيح وعدم تقدير الله حق قدره.

وكما فهمنا سابقًا أن للتسبيح أثر، نلاحظ هنا أيضًا أن القرآن الكريم عالج مشكلة ضعف العقيدة في الآخرة وعدم الاكتراث لها ومافيها من حساب بواسطة التسبيح، وفي هذه المرة بالتسبيح باسم الله العظيم، ويعرض أحد أهم المشاهد تأثيرًا في حياة الإنسان وهو لحظة قبض الروح، ويطرح التساؤل؟ هذا الإنسان الذي بين أيديكم وأنتم قريبون منه وتشاهدون كيف أنه ينازع الروح وقد وصلت به إلى الحلقوم : من منكم يستطيع أن يرجع هذه الروح أو يمسكها عن الخروج؟ أنتم لا تستطيعون ذلك! فإذا قضى المولى عز وجل أن يقبضها فهو الفعال لما يريد، وهذا نفي وإثبات، نفي بأن يكون للإنسان دخل في هذه العملية وإثبات له عز وجل.

تكمل الآيات المباركة في تصنيف الناس يوم البعث إلى ثلاثة أصناف كما بدأت سورة الواقعة في عرضهم :

﴿ فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُقَرَّبِينَ ۝ فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ ﴾ إن كان هذا الذي قبضت روحه من الذين اقتربوا لله بالذكر و الصلاة والأعمال الصالحة، فسيلقى الراحة في كل مرحلة من مراحل انتقاله من هذه الحياة إلى الحياة الأبدية والريحان أي الرائحة الطيبة، ويخلد في جنان الخلد حيث السعادة والهناء الأبدي.

﴿ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ۝ فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ ﴾ وأما إن كان من أصحاب اليمين، وهم أقل درجة من المقربين، فسيلقى تحية السلام من أصحاب اليمين، والسلام هو كلمة شاملة للسلامة من كل شيء فيه ضنك وشقاء وتعاسة. أما إن كان من المكذبين ﴿ وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ ۝ فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ ۝ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ ۝ إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ﴾ أما إن كان من الذين كذبوا بهذا اللقاء وهذه الرجعة سواء كان التكذيب في ضمائرهم أو تلفظوا به وضلوا عن الطريق القويم وعن التوجه لله والاقتراب منه، فما ينتظرهم هو العذاب ونزل من حميم، ذاك هو منزلهم، وتصلية جحيم، تلك هي حقيقة يقينية في قلوب المؤمنين، لا شك ولا ارتياب في قلوبهم فيها.

في ظل هذا السياق يأتي الأمر بالتسبيح باسم الله العظيم : ﴿ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ المشهد السابق مؤثر ومعجز لقدرة الإنسان في أمر قد يحاول فيه إبقاء من أمامه على قيد الحياة، ولكن الله عز وجل يقول الأمر ليس بأيديكم، فهو الذي قهر عباده بالموت والفناء، فمن يستطيع أن يقبض تلك الروح غيره؟ ومن يستطيع أن يبقيها غيره، ومن يستطيع أن يبعث الناس إلا هو، ثم يحاسبهم على حسب اقترابهم أو ابتعادهم عنه.

وفي هذه المرة يكون التسبيح باسم الله العظيم، لما لهذا الأمر من عظمة، هذا الموقف المتكرر يؤكد على عظمة الخالق، وعظمته في التحكم في كل شيء، والآية حين تختم وتقول فسبح باسم ربك العظيم، تأمر بأن نعظم الخالق في أنفسنا وفي قلوبنا فهو يستحق هذا التعظيم لما نعلمه ونراه ونستشعره من عظمة، ولأن هذا التعظيم هو السبيل لثبات الحقائق الغيبية في القلب.

نأتي الآن للموضع الثالث من المواضع التي ذكر فيها الأمر بالتسبيح باسم الله العظيم.

يقول الله عز وجل في سورة الحاقة:

﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ۝ وَمَا لا تُبْصِرُونَ ۝ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ۝ وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ ۝ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ۝ تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ۝ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ۝ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ۝ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ۝ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ۝ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ۝ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ۝ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ۝ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ۝ فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ ﴾ الحاقة (38) - (52)

يناقش هذا المقطع المبارك عدم تصديق الرسالة القرآنية ايضًا، ويعالج التشكيك فيها بالتسبيح أيضًا، ثم يختم بالأمر بالتسبيح باسمه العظيم. ويبدأ بالقسم ﴿ فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ۝ وَمَا لا تُبْصِرُونَ ﴾ ليكون جواب القسم ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ﴾ ثم يؤكد ﴿ َمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ ۝ وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ ۝ تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ لا يمكن لهذا الحديث أن يكون قول شاعر ولا بقول كاهن، وإن هذا القول إنما يعبر عن ضعف إيمان، ولأن هذا القرآن جاء ليذكركم فأنتم لا تحبون التذكرة، وقليلًا منكم من يتذكر، وإنما حقيقته أنه تنزيل من رب العالمين.

ثم تشير الآيات إلى جوانب غيبيبة في حفظ الله عز وجل لهذا الكتاب وفي توصيله، ﴿ وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ ۝ لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ ﴾ ولو أن الرسول زاد في هذا النص شيئًا أو أنقص منه لتم الاقتصاص منه بشكل مباشر وبكل قوة، ﴿ ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴾ والوتين هو الوريد الأساسي الموصل للدم من القلب فلا يبقى بعدها لحظة في الحياة، ﴿ فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ ﴾ فلا يستطيع أحد أن يمنعنا من فعل ذلك.

ثم تؤكد الآيات على أن هذا الكتاب إنما هو حقيقة نازلة من عند الله ولا يمكن العبث به أو تغيير أي شيء منه ﴿ وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ ۝ وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ ۝ وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ ۝ وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ ﴾. ثم تعقب بعد ذلك بالأمر بالتسبيح باسم الله العظيم.

مرة أخرى نعود نجد أن علاج تكذيب الكتاب يكون بالتسبيح، وبالخصوص هنا باسم الله العظيم، ونلحظ أن هذا التسبيح جاء بعد إشعار القارئ بالعظمة، فكيف لهذا العظيم أن يترك كلمته النازلة من السماء عرضة للعبث أو التغيير؟ فإذا كان هناك تساؤل عن صدق القرآن أو صدق آياته، كان لزامًا أن نتذكر عظمة الله قبل أن نذهب بعيدًا للتحليلات التاريخية.

لقد بدأت الآيات بالقسم بما يبصر البشر وما لا يبصرون، وكان جواب القسم حول صدق هذا الكتاب المنزل، وكأن القسم يشير إلى وجود جنود وحالات غيبية لا يدركها الإنسان ببصرة هي تحت هيمنة الله وسلطته وسيطرته، وكذلك تشير كلمة العظمة إلى أن الله عز وجل متحكم في مجريات الأحداث وخصوصًا ما يجري على الدعوة وعلى كتاب الله.

خاتمة

في المشاهد الثلاث كانت الآيات تتحدث عن عظمة الله التي لا يمكن أن يصل إلى كنهها أحد، فلا أحد يستطيع أن يصف قدرة الله في الخلق، ولا في الإحياء ولا في قبض الروح ولا في الكائنات الغيبية، فالشيء العظيم يصعب إدراكه أو احتواءه، فهو أكبر من كل احتواء، لقد اختصرنا معنى التسبيح بالنفي والإثبات، وقد مر علينا المقصود من ذلك، وهذين المعنيين سنختصرهما في كلمة واحدة ونقول أنه التنزيه، تنزيه الله واعلاء شأنه وأسماؤه وأفعاله، وإعلاء قدره إلى أعلى مما يتصوره الإنسان.

عندما يدهشنا موقف ونقول سبحان الله، فنحن تلقائيًا نقدر الله وننزهه على أنه القادر على فعل ما نتصور أنه بعيد المنال أوبعيد عن قدرة أي أحد غيره، فهو القادر على صنع الجميل وفعل ما نتصور أنه مستحيل، ونحن ننزهه بذلك بتقائية المشهد ونقول سبحان الله. ولكن قدرة الله أبعد بكثير من أن يصل إليه فكر الإنسان، وإذا نفينا عن أحد القدر ، وقدرنا الله، فإن قدره أعظم من أن نحتويه أو ندركه أو نصل إلى كنهه، لذا يظل ذكر الله سابح في مجال لا نهاية له ولا حد يحدوه، فكلما وصلت قلوبنا إلى ادراك درجة ، فالتسبيح يقول لنا أن الله أعلى وأبعد من ذلك.