مدونة حلمي العلق

دوام الاتصال

 | prayer

مقدمة

قادتنا الرحلة الإيمانية مع نبي الله إبراهيم عليه السلام إلى معرفة الطريق الذي سلكه هذا النبي الكريم نحو الله عز وجل عبر التأمل في ملكوت السماوات والأرض، ولقد ختمنا الحلقة السابقة بربط رحلة نبي الله إبراهيم في البحث عن الإله، بالصلاة، ووجدنا أن بحثه عن رب لا يأفل إنما هو بسبب أن حاجته دائمة غير منقطعة، ورأينا ومن خلال خارطة العبودية أن الإنسان كلما توغل في معرفة نفسه كلما ذهب به ذلك التأمل إلى معرفة خالقه، لأن النقص المطلق لا يجبره إلا الغنى المطلق، وقلنا بأن هذا يتوافق مع ما وجدناه في حالات الصلاة التي لا انقطاع لها، فالصلاة تتخذ أشكالًا ولكنها لا تنقطع.

لقد طرحنا سؤالًا مهمًا في الحلقة السابقة وهو : هل مطلب دوام الصلة، أمر من عند الله أم أنه مطلب من عند إبراهيم؟ وقلنا بأن المطلب كان من نبي الله إبراهيم، هو الذي كان يبحث عن ديمومة الاتصال، وهذه الديمومة تنطلق من نفس الإنسان ومعرفته العميقة بحاجته التي لا نهاية لها، فمن عرف نفسه فقد عرف ربه، وبهذا فإن المصلي الحقيقي هو الذي يبحث عن الإله الحقيقي، والصلاة الحقيقية هي مدار بحث المؤمن الذي عرف قدر نفسه.

حلقة اليوم هي إتمام لإجابة هذا السؤال، وإتمامًا نقول، بمقدار ما يرى الإنسان في نفسه من حاجة وضعف ونقص يكون تعلقه بالمصدر الذي يسد ذلك النقص ويلبي تلك الحاجة وتكون تلك الجهة بمثابة السيد والمولى، خصوصًا إذا لم ير الإنسان سيدًا آخر أقوى منه ولا أكرم منه ولا أكثر عطاءًا ولا رعاية منه، بمعنى آخر: كلما زادت المسافة بين مقامي العبودية والسيادة كلما ازداد التعلق وقوي الارتباط، حتى إذا وصل العبد إلى مقام النقص المطلق تعلق بسيده ومولاه الذي يرى فيه الكمال المطلق.

يمر الإنسان في حياته بصعوبات توقفه عند حقيقة نفسه، فمنهم من يعتبر ذلك الوضع حالة عابرة يعود بعدها لرؤية نفسه في وضعها الطبيعي، ومنهم من يقيم فيه فلا يتحرك عنه، رؤية ذلك النقص بصيرة يدركها الإنسان بقلبه. أما المتأمل في حاله وفي نفسه فلا ينتظر أن تأتيه مواقف الشدة لتكشف له نفسه ولكنه ومن خلال تأمله ينتقل من مقام الغنى إلى الفقر والحاجة والضعف فيقيم في تلك الحقيقة لتقوده إلى دوام الاتصال.

نقرأ في مناجاة الإمام علي (ع) ما يعبر عن ذلك المقام في قوله :

"مَوْلايَ يامَوْلايَ اَنْتَ السُّلْطانُ وَاَنَا الْمُمْتَحَنُ وَهَلْ يَرْحَمُ الْمُمْتَحَنَ اِلاَّ السُّلْطانُ، مَوْلايَ يا مَوْلايَ اَنْتَ الدَّليلُ وَاَنَا الْمُتَحَيِّرُ وَهَلْ يَرْحَمُ الْمُتَحَيِّرَ اِلاَّ الدَّليلُ، مَوْلايَ يا مَوْلايَ اَنْتَ الْغَفُورُ وَاَنَا الْمُذْنِبُ وَهَلْ يَرْحَمُ الْمُذْنِبَ اِلاَّ الْغَفُورُ، مَوْلايَ يا مَوْلايَ اَنْتَ الْغالِبُ وَاَنـَا الْمَغْلُوبُ وَهَلْ يَرْحَمُ الْمَغْلُوبَ اِلاَّ الْغالِبُ، مَوْلايَ يا مَوْلايَ اَنْتَ الرَّبُّ وَاَنَا الْمَرْبُوبُ وَهَلْ يَرْحَمُ الْمَرْبُوبَ اِلاَّ الرَّبُّ، مَوْلايَ يا مَوْلايَ اَنْتَ الْمُتَكَبِّرُ وَاَنَا الْخاشِعُ وَهَلْ يَرْحَمُ الْخاشِعَ اِلاَّ الْمُتَكَبِّرُ، مَوْلايَ يا مَوْلايَ اِرْحَمْني بِرَحْمَتِكَ، وَارْضَ عَنّي بِجُودِكَ وَكَرَمِكَ وَفَضْلِكَ يا ذَا الْجُودِ وَالاْحْسانِ وَالطَّوْلِ وَالاْمْتِنانِ، بِرَحْمَتِكَ يا اَرْحَمَ الرّاحِمينَ ."

ندرس في هذه الحلقة ومن خلال 4 آيات كريمة معنى دوام الاتصال الذي يجب أن يكون عليه المؤمن، وذلك من خلال دراسة آيتين تتحدثان عن حالة الانسان حين يمسه الضر، وكيف يتصل بالله في تلك الحالة، فيلجأ له لجوء العابد المخلص، إلا أنه ما يلبث أن يعود إلى حاله الذي كان عليه حين تزول حالة الخطر، ويمكن أن نسمي تلك الحالات وضع المسرفين. ثم نستعرض آية تصف حال المؤمنين في جميع حالاتهم بدوام الاتصال بالله عز وجل ويمكن أن نسميها حالة الذاكرين، أما الآية الأخيرة فتعطي مقارنة واضحة بين الفريقين، الأول هو الداعي إلى الله في حالة الضر فقط، والثاني هو المتصل بالله على الدوام.

دوام الاتصال

أولًا: حالات المسرفين

يقول الله عز وجل :

﴿وَإِذَا مَسَّكُمْ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً ﴾ الإسراء (67)

تتحدث هذه الآية عن الضر الذي يصيب الإنسان في البحر حين ينكسر به مركبه أثناء عاصفة أو ماشابه، والآية الكريمة تعبر عن إخلاص الإنسان في تلك اللحظة حيث تختفي بقية الجهات الأخرى وتبقى جهة الله وحده، في تلك اللحظات لايرى الإنسان غير الله، ويرى نفسه وقد أحاطته الأمواج من كل ناحية أنه من الهالكين، وأنه عاجز لا يملك لنفسه النجاة إلا أن ينجيه الله، أما حين ينجو إلى البر ينقلب به الحال، ويشعر مرة أخرى أنه يملك لنفسه نفعًا أو ضرا، ويعود إلى سابق عهده فيُعرض عن التوجه لله، فلا يدعوه بنفس ذلك الإخلاص، ولا يتوجه له بنفس تلك الحالة، ﴿ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً ﴾.

ما الذي يريده هذا المقطع من الإنسان حتى لا يكون في حالة الكفر؟ يريد منه أن يبقى في مقامه ذلك حتى يكون في ذات مستوى الحاجة لله على الدوام.

آية أخرى تتحدث عن نفس الحالة ولكن بعيدًا عن هول البحر وضره فتتحدث عن عموم الضر الذي يصيب الإنسان ..

﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ يونس (12)

الآية تصف حالة من التذبذب في التعلق بالله بالدعاء، ففي حالة الشدة يكون تعلقه بالله قويًا، أما في حالة الرخاء فإنه يتراجع، ثم تعبّر الآية عن هذا المؤمن أنه يعيش الإسراف في حياته، والمطلوب أن يبقى متعلقًا بالله على الدوام، لا يرى أنه قد بلغ إلى الإمان والاكتفاء وعدم الحاجة حين انكشف عنه الضر، ولا يرى أنه في أمان حين أنجاه الله عز وجل من البر إلى البحر، بل يرى نفسه محتاجًا على الدوام ناقصًا مفتقرًا لا يمكن له أن يدفع عن نفسه الضر أو يجلب لها المنفعة إلا بالله عز وجل.

في الآية وصف للاتصال بالله لكنه اتصال مؤقت يزول بزوال السبب، ويضمحل بعد أن يرى ملامح القوة المادية الزائفة، ومن خلال نفس الآية يمكن أن نستنتج ما ينبغي أن يكون عليه المؤمن الحق، في أن يكون في لجوء مستمر في جميع حالاته، الآية تنتقد ذلك المؤمن وتصفه بالإسراف في عقيدته في نفسه، حين أعطى نفسه أكبر من حقها.

﴿وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ الضُّرُّ ﴾ كلمة المس لها علاقة بمشاعر الإنسان ، فقد يكون الضر خارجي التأثير فقط، ولكن إذا وصل تأثير الضر إلى مشاعر الإنسان وأحس بالضيق، حينها نقول أن الضر قد مسه، هذا المس يكشف ما أخفته المظاهر المادية التي ظن فيها الإنسان أنه قادر قوي متمكن من أن يدفع عن نفسه الضرر أو أن يجلب لنفسه المنفعة، ذلك المعتقد يسقط أمام اختبار (مس الضر) فإذا سقط ذلك الاعتقاد انكشف المضمور في فطرة الإنسان وهو أن القادر الحقيقي هو الله عز وجل، لذا يلجأ – في ذلك الظرف – للدعاء لله عز وجل في كل أوضاعه َ﴿ دعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَائِماً ﴾

﴿ فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ ﴾ حين انكشفت عنه المشكلة التي بيّنت حقيقته أمام نفسه، عاد القلب إلى الانشغال بالماديات والافتتان بها، وعاد لحالته الأول ﴿ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّه ﴾، لفظة (مر) تختزن الكثير من معاني نكران الجميل ونسيان الفضل والمعروف، والكلمة لها علاقة بذكر الله، أي مر على ذكر الله مرورًا مقتضبًا سريعًا منقطعًا وكأن الضر لم يمسه من قبل، ولم يدع الله دعاء المضطر قبل هذا ! فلقد كان يتوسل إلى الله توسل الذي لا يرى غير الله منقذا، أما الآن فقد تراجع مستوى تلك الرؤية وعاد الدعاء سطحيا عابرا مؤقتا لا يعبر عن أدنى درجات الإخلاص التي توجه بها إلى الله سابقًا.

﴿كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ في إشارة إلى الإسراف في اعتقاد المرء بذاته، فاعتقاده الخاطئ بنفسه يقود إلى قبول مثل هذه الأعمال المتناقضة، إذ من المفترض أن يبقى الإنسان على المقام الذي اكتشف فيه نفسه حين مسه الضر فلا يتغير بالغرور، ذلك هو مقام نبي الله إبراهيم حين اكتشف نفسه، وحين بحث عن إله لا يأفل.

الآيتان السابقتان تتحدثان عن حالات التذبذب في العلاقة مع الله عز وجل، فهي علاقة ليست ثابتة ولم تكن في مستوى واحد من التوجه، بل كانت محكومة بالظرف الذي يعيشه الإنسان، فحين يشعر بالنقص يذهب مسرعًا للجوء لربه لطلب العون والفرج، أما حين يكون في حالة السراء فلا يجد نفسه بحاجة لذلك اللجوء فتتراجع نتيجة لذلك علاقته مع الله، فعدم ثبات تلك العلاقة راجع إلى أن الإنسان لم يستفد من حدث الضراء فلم يتحول منه إلى معرفة نفسه، بل اجتهد فقط للخلاص منه وحسب.

ونلحظ أن الفارق بين القضيتين، بين من تثبت علاقته مع الله وبين من هو في حالة من التذبذب هو معرفة الإنسان بنفسه، ولذا يمكن أن نفهم أن الإسراف المذكور في الآية يشير إلى هذا الأمر، فالمؤمن المتذبذب في علاقته مع ربه هو مسرف في اعتقاده بقدرته وقوته وغناه، فهو ضعيف لكنه لايرى نفسه مطلق الضعف، و يفتقر لكنه لا يقيم في مقام الفقر، وما يمر عليه من ضر يعد حالات عابرة ينسى بزوالها حقيقة نفسه.

والآيات الكريمة تدعو المؤمن أن يقيم في الحقيقة التي رأى نفسه فيها، فإن فعل كان دائم الاتصال مع ربه، ويؤكد ذلك المطلب آيات أخر تعطي نفس الدلالة وهي تصف المؤمنين :

ثانيًا : حالات الذاكرين

﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لآيَاتٍ لأُولِي الأَلْبَابِ ۝ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾آل عمران(190) - (191)

في هتين الآيتين المباركتين وصف للمؤمنين الذين يعيشون دوام الاتصال مع ربهم، فلجوؤهم لله غير مشروط بوجود الضر، بل هو مرتبط بعلاقتهم الخاصة به سبحانه من خلال التأمل في خلق السماوات والأرض، على أن أثر هذه الآيات الكونية يقع على من أسمتهم الآية أولو الألباب، هم أولئك الذين ينظرون لحقائق الأمور بعمقها لا بصورتها القشرية الظاهرة.

ثم تصفهم بدوام الاتصال ﴿ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ ﴾ في جميع حالاتهم وبلا انقطاع ، ﴿ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ ﴾، هم يعيشون الذكر المتواصل ويعشون التفكر الدائم في خلق السماوات والأرض الذي يقودهم إلى حقيقة عظمة الخلق وحقيقة أن الله سيحاسب الجميع بالقسط ﴿ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلاً سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ .

إذًا ما فهمناه في آيات الضر السابقة، من وجوب بقاء المؤمن في اتصال دائم مع الله عز وجل، تؤكده هذه الآية على أن ذلك صفة أصيلة في المؤمنين، لذا يمكننا أن نختم بالآية الكريمة التالية التي قارنت بين الفريقين، المسرفين والذاكري:

﴿ **وَإِذَا مَسَّ الإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَاداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ ۝ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾ الزمر (9)-(8)

تبيّن الآية الأولى حالة المسرفين في استقبال الضر – وهو يتوافق مع ما تم تناوله في الآيات السابقة - فهم كثيري الدعاء وشديدي التضرع لله في حالة الضراء فقط، ولكنهم بعيدين كل البعد عن تلك الحالة في حال انكشف ذلك الضر، وتعبر الآية بقولها :﴿ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ ﴾. أي نسي أنه كان في الضر، ونسي أنه لم يجد أمامه غير الله عز وجل يتوجه له، ونسي أن الله هو الذي أخرجه من تلك الحالة.

بالمقارنة فالآية التالية تكشف صفة أولئك الذين يرتضي الله عز وجل حالهم، وتقول : ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِداً وَقَائِماً ﴾ للإشارة إلى دوام الاتصال الذي يعيشه هذا الفريق، فالمؤمن قانت لله في صلاته على الدوام سواءً مر بضغوطات دنيوية أم لا! ذلك لأنه يعيش مقام الفقر أمام الله ويرى حقيقة الآخرة أمام عينيه على الدوام. هذه الآية تبدأ بقولها ﴿ أَمَّنْ ﴾، والتي تختزل معنى: أذلك الفريق هو على الحق ويسير في الطريق الصحيح، أم هذا الفريق الذي له هذه الصفات، وتختم بنفس المعنى ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ ﴾.

هتين الآيتين تؤكدان خطأ المنهج الأول، وصوابية المنهج الثاني، ذلك هو ما يريده الله عز وجل من المؤمن.

خاتمة :

كنا قد وجدنا في حركة نبي الله إبراهيم السعي الذاتي للصلاة الدائمة، و لقد وجدنا في آيتين تتعلقان بمس الضر أن القرآن ينتقد المؤمن المتذبذب في علاقته مع ربه، أما آية (الذين يتفكرون في خلق السماوات والأرض) فهي تؤكد صفة دوام الاتصال بالله، وحين وصلنا آية (القانت) في سورة الزمر، وجدنا أن اللجوء والدعاء والصلاة أساس في حياة المؤمن وليست استثناءًا، لأن الإنسان لا ينسى مقامه ولا ينسى موقف الآخرة. نجد في دعاء كميل بن زياد المنسوب للإمام علي (ع) قوله : ( وَهَبْ لِيَ الجِدَّ فِي خَشْيَتِكَ، وَالدَّوامَ فِي الاِتِّصالِ بِخِدْمَتِكَ )، فالدعاء يطلب من الله عز وجل التوفيق في أن يكون في حالة من الجدية مع الله في الخشية، وأن يكون دائم الاتصال بحيث لا تنقطع صلته بربه أبدًا.

من هنا نقول أن العبادة يفهمها العبيد، تمامًا كما هو الحال بالنسبة لنبي الله إبراهيم (ع) الذي سعى بنفسه للمعرفة، ثم وجد نفسه عبدًا لا يسد حاجته إلا الله عز وجل، وعليه يمكن أن نقول أن العلاقة بين الإنسان وخالقه هي علاقة تحكمها العبودية أولًا ثم الشرع ثانيًا، فنحن من حكّمنا الله فينا ثم اتبعنا منهاج كتابه وشرعه طوعًا بعد أن دخلنا في عبوديته، والدخول في العبودية يسبق تطبيق الشرع، ونحن نلتزم أحكام الشرع من عند الله لسبب، وهو أننا عبيدٌ له عبادة مختارة، فلا يصح أن نقفز على مرحلة العبودية فنأخذ أحكام الشرع والعبادة والصلاة قبل أن نفهم موقعنا كعبيد لله.

والعبودية المختارة هي أن يختار الإنسان أن يكون عبدًا عند مولى ولدى سيد، وذلك لسببين: الأول أنه يرى في سيده القوة، ثانيهما أنه يرى في نفسه الضعف، والضعيف بحاجة لذلك القوي فيلجأ ويتوسل إليه أن يجعله في ولايته ليغدق عليه بنعمه وعطاءه وهداه ويسد حاجته ويرى خلته على أن يقوم هذا العبد بطاعة سيده طاعة لا عصيان فيها.

اللهم ألهمنا ذكرك ولا تجعلنا من المسرفين وهب لنا دوام الاتصال بخدمتك حتى نسرح إليك في ميادين السابقين برحمتك يا أرحم الراحمين والحمد لله رب العالمين.