تعريف الصلاة
| prayer# مقدمة
ما يقوم به الرسل هو أنهم يرممون الصلاة التي تهدمت ويعيدون تشييدها في الضمائر حية مرة أخرى، مؤدى رسالتهم هو إعادة العلاقة بين العبد وربه لتحيا من جديد، وإعادة الصلاة التي أضاعها الناس باتباع الشيطان والشهوات، الصلاة بمقوماتها الكاملة هي عماد الدين وأساسه، فلا يمكن أن تكون هناك تعاليم ربانية بدون صلاة ولا استجابة حقيقية لتلك التعاليم إلا إذا أقيمت ركائزها في قلوب المؤمنين.
ما يفعله الشيطان هو أنه يقطع هذه الصلة المباشرة برب السماوات والأرض بكل الوسائل، حتى تتحول الصلاة إلى جسد ميت أو بيت مهجور خاوٍ بلا حياة، هي إذًا دعوة الرسل، وهي عقبة الشيطان التي إن تجاوزها استطاع أن يهدم معاني الدين الكبرى.
هذه دراسة قرآنية بحتة في محاولة لفهم معاني الصلاة من آيات الله، علنا نحظى بشيء من نميرها الصافي وهداها الجلي، وهذه المحاولة تُطرح أمام الأخوة الأفاضل الأستاذة الأكارم لا لكي تعلمهم بل لكي تتعلم منهم، فلا ندعي أن ما يطرح هو نهاية الهدى ولكن ماهي إلا محاولة لطرق هذا الباب عل الله يفتحه علينا بكلمة من هنا أو ملاحظة من هناك.
تتوزع هذه الدراسة عبر عدة حلقات وبعدة عناوين تحت عنوان رئيسي وهو دراسة الصلاة من القرآن الكريم، وهي دراسة غير معنية بأحكام الصلاة وإنما مختصة في معانيها فقط، أما عنوان حلقتنا لهذا اليوم هو ( تعريف الصلاة ).
# تعريف الصلاة
لا نقصد من وراء هذا العنوان أن نعرف الصلاة تعريفًا أكاديميًا صرفًا، ولكن نقصد به كيف نعرف الصلاة إيمانيًا بقلوبنا من خلال المحاور التي تناولها القرآن الكريم، ومما اشتمل عليه معنى الصلاة في القرآن الكريم هي المحاور الثلاث التالية: الصلة ، والذكر ، والقيام، فهم هذه العناوين يساعد على فهم الصلاة من الجانب الروحي والوجداني والإيماني، فما معنى هذه العبارات الثلاث من خلال الآيات؟ وماعلاقتها بالصلاة ومضمونها ومعناها؟ نتحدث في البدء عن هذه المعاني بشكل موجز، والتفصيل يأتي من خلال الحلقات الآتية إن شاء الله:
أولاً : الصلة :
في المعنى غير الدقيق نقول هي التي تعني التواصل بين العبد وربه.
يقول الله عز وجل : " وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم "
هناك حركة تقصدها هذه الآية التي استخدمت لفظ الصلاة، ولهذا الاستخدام دلالة بالصلة، وهي ما سنتحدث عنه في هذه الحلقة إن شاء الله.
ثانياً : والذكر
وهي ما يجب على المؤمن أن يتذكره.
يقول الله عز وجل : " إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله "
تدعو الآية الكريمة المؤمنين إلى التوجه للصلاة يوم الجمعة، ووصفت الصلاة بأنها ذكر الله، وهذا ما سنتحدث عنه لاحقًا إن شاء الله.
ثالثاً : والقيام
وهو الوقوف الخاص أمام الله سبحانه وتعالى.
يقول الله عز وجل : "" وقوموا لله قانتين "
قوموا لله، وحالة قيامكم هي القنوت لله.
هذه عناوين موجزة لما سيتم الحديث عنه في حلقات دراسة الصلاة، وفي الحقيقة لا يمكن أن نفهم الصلاة بحقيقتها دون أن نتعرض لهذه المعاني الثلاث، ونخصص الحديث في حلقة اليوم الحلقة الأولى بالتعرض لمعنى الصلة بشواهد قرآنية في محاور رئيسية ثلاث وهي :
1- الفارق بين "وصل إلى" وَ "صلى على"
2- الفارق بين الصلة و الصلاة.
3- اتجاه الصلاة
4- عطاءات الصلاة
5- التعريف القرآني للصلاة.
# أولًا : الفارق بين " وصل إلى " وَ "صلى على"
# 1- وصل إلى
لفهم هذه العبارة نأخذ مثالاً في قوله تعالى :
" إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو جاؤوكم حصرت صدروهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم "
ومن الآية يتبيّن لنا أن الوصول هو انتقال من نقطة إلى نقطة أخرى بشكل مادي.
# 2- الصلاة على
ولفهم العبارة ندرس قوله تعالى :
" ولا تصل على أحد منهم مات أبداً ولا تقم على قبره "
صلاة العبد على أحد تتطلب ثلاث أطراف رئيسية، مُصلي ومُصلَى عليه بالإضافة إلى وجود جهة ثالثة غيبية وهو الرب الذي نؤمن بوجوده في الغيب. وهذه الجهة الغيبية أو هذا الرب هو الذي يُصلي إليه المصلي طالباً منه بالتحديد أن يُنزّل عطاءه وبركاته على المصلى عليه. ومثال ذلك الصلاة على الميت والتي تعني التواصل مع الله سبحانه وتعالى والاستعانة به من أجل إنزال الرحمة والمغفرة على الميت أثناء الوقوف على قبره أو أمام جنازته.
العبد يصلي ، والإله يصلي أيضًا، صلاة العبد تكون لله وهي عبادة أو دعاء له، أما صلاة الإله على العبد فهي رحمة بأشكال مختلفة، وكلاهما صلاة. ولفهم هذه المعاني أكثر نعود للتعرف على جذري كلمتي الصلاة والصلة ومقارنتهما.
# ثانيًا: الفارق بين الصلة والصلاة.
جذر كلمة الصلاة يختلف عن جذر كلمة الصلة، رغم أن كلتا الكلمتين تعودان لأصل واحد وهو (صل) ولكن بتحريك موقع حرف الواو.
1- جذر كلمة الصلة هو الجذر الثلاثي "وصل" : و الوصل يكون بين شيئين ماديين.
2- أما جذر كلمة الصلاة هو الجذر الثلاثي "صلو" : الصلو يكون بين جهة أدنى وجهة عليا، ولا يكون إلا لجهة غيبيّة لذلك لا تستخدم الكلمة إلا في الدين لعلاقة الكلمة بالغيبات، فالعبد لا يصل إلى ربه في الصلاة إذ لا يوجد مسافة مادية بينهما، فالإله موجود وقريب، ولكن العبد يتصل بربه روحيًا وغيبيًا فتحدث الصلاة، لذا فالكلمتان (وصل وَ صلو ) تحملان نفس المعنى لكنهما تختلفان في الاستخدام، فالأولى (الصلة) أفقية محدودة المكان، أي تحدث بين شيئين ماديين لهما نفس المقام الوجودي، أما الثانية (الصلاة) فهي رأسية بين عبد لا مقام له ولا قدر أمام إله هو الوجود بأصله، لذا فالصلاة بالمقارنة هي تعمل رأسيًا وغير محدودة -ليس في المسافة المادية وحسب- في المقام الوجودي والمعنوي.
يمكن أن نقرب كلمة الصلاة بالاصطلاء من صلى فاصطلى كما في الآية (تصلى ناراً حامية)، فاصطلاء البشرة بشيء هو التأثر به وإن لم يلامسها ،كما في آية (لعلي آتيكم منها بخبر أو جذوة من النار لعلكم تصطلون)، والصلاة من الصلو من الفعل الثلاثي "صلو" كما نقول أن اللهاة من اللهو من الفعل الثلاثي "لهو"، وفي الصلاة معنى التواصل ولكن بصورة غيبية، ولو فهمناها بالاصطلاء فهو تأثر غيبي بالموصول ولكن دون لمس أو مساس ولكن بإحساس وشعور.
نعود إلى الصلة والصلو، إذا وجدت وصلة بين طرفين ماديين كان بالإمكان أن تتكون الصلة، ولهذه الوصلة بداية ولها نهاية في الطول والمسافة، أما إذا وجدت الصلوة بين العبد وربه كان بالإمكان أن تتكون الصلاة، يمكننا أن نقارن الصلوة بالخلوة، ففيهما معنى الوحدانية، فالخلوة تكون بين طرفين إذا خلا المكان إلا منهما، وكذلك الصلوة لاتكون إلا إذا خلا قلب المؤمن في صلاته إلا من هذا الإله.
وجود الصلة بين طرفين يمكنه أن يعود بالنفع لهما وهذا ما يمكن أن نفهمه في قولنا صلة الأرحام، فالرحمة من محبة ومودة وكل ما يمكن أن يندرج تحت عنوان الرحمة يصل للطرفين أو من طرف لآخر من خلال تواصلهما بالتزاور أو ما يشبهه. أما حين تحدث الصلاة فإن المردود يكون للمصلي وهو الأدنى وهو العبد في عالم الشهادة، هو الذي يُنشئ الصلوة بينه وبين ربه، فتحدث الصلاة، لينال منه الرحمة المتمثلة في الهدى والقوة والثبات.
# ثالثًا : اتجاه الصلاة
عندما تحدثنا في بداية هذه الجلسة عن محاور الصلاة قلنا أحدها هو الصلة، ولكن عندما درسنا وجدنا فارق بينهما، إذًا حين نقول أن الصلاة "صلة" بين العبد وربه إنما نقول ذلك تجاوزاً من أجل إيضاح المعنى فقط، ولكن الحقيقة أن ما يحدث بين العبد وربه هي صلوة فهذه اللفظة التي تستخدم في التعبير عن الرابط الغيبي بين طرفين أحدهما في عالم الغيب والآخر في عالم الشهادة. و تحدث الصلاة بالمعنى العام حين ينشئ العبد مجموعة من الصلوات بينه وبين ربه، فيكون مردود المؤمن صلوات من عند الله تشمله بالرحمة والهدى والسكينة والثبات في الشدائد والمحن، والاستمرارية على نهج الله دون أن ينزاح عنه.
إذًا للصلاة اتجاهين اتجاه صاعد، أي من العبد إلى ربه والذي يجسد العبادة والتعلق والتوكل والتوحيد، وفيه يسبح المؤمن ويدعو ربه ، واتجاه آخر وهو من هذا الإله العظيم إلى هذا العبد والذي يحمل الرحمة بشتى صورها والتي تشمل الهدى والثبات والعلم والنور.
ولتوضيح هذا المعنى أكثر نستشهد ببعض الآيات التي تبين فوائد الصلاة أو عطاءاتها.
# رابعًا: عطاءات الصلاة
هنا نستعرض بعض عطاء الصلاة استشهاداً ببعض آيات القرآن الكريم:
# 1- الهدى
كما في قوله تعالى:
﴿ هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً ﴾ الأحزاب (43)
الآية الكريمة تتحدث عن أن الإله هو الذي يصلي على المؤمنين، وكذلك الملائكة والغرض من هذه الصلاة هو الهداية وإخراج المؤمنين من الظلمات إلى النور، نلاحظ هنا أن الصلاة بمعناها العام عادت بالرحمة على المؤمنين حيث أن النور الواصل لهم من الهدى جاء عبر هذه الصلاة، باتجاه من الإله إلى العبد.
# 2- العون
كما في قوله تعالى :
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ البقرة (153)
جاءت هذه الآيات بعد أن تحدثت سورة البقرة عن فتنة القبلة التي سقط فيها الكثير، وهي آيات تتحدث عن أن الصلاة هي مصدر الاستعانة بالله سبحانه وتعالى، وخصوصاً في الشدائد والمحن والفتن بصورة عامة وكذلك في المصائب التي يتزعزع فيها قلب الإنسان كنقص الأموال والأنفس والثمرات، ومختصر الآيات هو أن الذين يستعينون بالصبر والصلاة يصلي الله عليهم، وهنا يأتي معنى الصلاة أنها صلة متبادلة بين الطرفين، من العبد إلى الإله ، ومن الإله إلى العبد.وهذا المعنى لا يستقيم إلا بالإيمان بالغيب، والإيمان بالغيب لا يكون إلا بالإيمان بالله حق الإيمان.
# 3- السكينة والثبات
كما في قوله تعالى :
﴿ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُهْتَدُونَ ﴾ البقرة (156) - (157)
وهنا موقف من مواقف الشدائد التي يحتاجها الإنسان وهي السكينة أثناء حلول المصيبة، وهذه السكينة تأتي عبر صلوات من الله على المؤمنين الذين أرجعوا أمر الحياة إلى الله عز وجل .
عرفنا الصلاة من ناحية لغوية، والفارق بين لفظتي الصلة والصلاة، ثم عرفنا أن الكلمة تعمل باتجاهين الاتجاه الصاعد وهو من العبد إلى الرب والاتجاه النازل وهو من الرب إلى العبد، ثم انتقلنا إلى معرفة مردود الصلاة لنصل الآن للتعريف القرآني للصلاة:
# خامسًا: التعريف القرآني للصلاة
الصلاة هي صلة بين العبد وربه، وتقام على أساس اعتقاد قلبي بأنها لقاء مع الله سبحانه وتعالى ، يقول الله عز وجل:
﴿ وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ والصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾ البقرة
الآية تتحدث عن الصلاة على أنها صلة ولقاء مع الله عز وجل، والوقوف في الصلاة شيء ثقيل على الناس إلا على الذين وصلوا إلى درجة الخشوع، ثم تحدد الآية من هم الذين يصلون إلى تلك الدرجة بقولها: هم الذين حين يقفون في الصلاة يقفون بإيمان أنهم في لقاء مع الله سبحانه وتعالى، وأنهم سيرجعون له يوم القيامة ليحاسبهم على أعمالهم. ولذلك ومن خلال هذه الصلة ومن خلال هذا اللقاء يستمد المؤمن عونه من عند الله.
وهذا التعريف القرآني يتوافق مع ما فهمناه من خلال تحليل كلمة الصلاة أنه عائد إلى كلمة (صلوة) والذي يعني احداث صلة غيبية، فكما أن الوصلة يمكنها أن تحدث صلة بين طرفين في عالم الشهادة، فكذلك الصلوة تحدث الصلاة التي هي لقاء وتواصل مع الإله ولكن هذا الاتصال يكون في عالم الغيب وليس في عالم الشهادة. نذهب لتلخيص ما تحدثنا به في هذه الجلسة:
# تلخيص
كانت هذه هي الحلقة الأولى في سلسلة من الحلقات تحت عنوان دراسة في الصلاة من القرآن الكريم، بدأنا فيه بتعريف الصلاة وقلنا بأن هذه الدراسة قد خصصت ثلاث عناوين للتعرف على معنى الصلاة: الصلة والذكر والقيام، بدأنا في هذه الحلقة بالحديث عن تعريف الصلاة، وبدأنا في الحديث عن معنى الصلاة من خلال معرفتنا بكلمة الصلة وأوجدنا الفارق بينهما والفارق بين الصلة والصلوة، ثم تحدثنا عن أن الصلاة تعمل في اتجاهين ثم استعرضنا بعض عطاءات الصلاة وختمنا بالحديث عن تعريف الصلاة قرآنيًا والذي يمكن أن نختصره في أنه لقاء بين العبد وربه، وقبل أن ننهي هذه الحلقة نبدأ في توجيه سؤال للسادة الحضور حول نفس هذا الموضوع، ثم نستقبل بعد ذلك مشاركاتهم وتعليقاتهم النافعة بإذن الله.