الإله والصلاة
| prayer# مقدمة
كنا قد بدأنا في الحلقة السابقة في رحلة البحث عن الإله تأملًا من خلال النظر في الآيات التي تحدثت عن نبي ابراهيم النموذج الإيماني، الآيات في سورة الأنعام من الآية (74) وحتى الآية (79) ، وقد توقفنا عند الآية التي ختمت بالعبارة القرآنية المباركة : " لا أحب الآفلين " ، وقد وجدنا أن نبي الله ابراهيم (ع) قد انتقل من الأرض إلى السماء بحثًا عن الإله الذي يستحق التوجه والعبادة، وقد هجر ابراهيم الأرض ومن عليها ثم توجه بوجدانه باحثًا عن ذلك الإله الذي يغدق عليه بالعطاء والمنن الكبيرة، إلا إنه حين توجه للكوكب مال بوجهه عنه لأنه أفل وبهذا سقط ذلك الكوكب من مرتبة الربوبية، وهاهو ابراهيم يكمل رحلته في البحث، وهاهو يقلّب وجهه في السماء باحثًا عن الحقيقة.
نكمل هذه المسيرة بالتأمل في بقية الآيات التي تحدثت عن هذه الرحلة الإيمانية والوجدانية، ثم نختم بربط هذا البحث الإيماني بموضوع الصلاة.
يقول الله عز وجل:
﴿ وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنْ الْمُوقِنِينَ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾ الأنعام [74]-[79]
# مسيرة نبي الله إبراهيم في البحث
﴿فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ﴾الأنعام [77]
بعد أن أشاح نبي الله إبراهيم بوجهه عن ذلك الكوكب عاود النظر في ملكوت السماوات، وهاهو يصادف جرمًا آخر أكبر من سابقه، هذه المرة هو جرم أقرب، هو بازغ منتشر الضوء مسيطر في السماء بأكبر من بقية الأجرام، شعر بهيمنته، وقال في نفسه لربما هو الإله الذي أبحث عنه – الإله الحقيقي - ، عاود التوجه، توجه الوله المشتاق للحقيقة، قالها مرة أخرى: ﴿ هَذَا رَبِّي ﴾ هذا ما أبحث عنه، وكأنه يرى القمر لأول مرة، هذه المرة يراه بمرأى الباحث عن الإله، لا مرأى الناظر إلى الكون بصورة سطحية عابرة.
﴿ فَلَمَّا أَفَلَ ﴾ مرة أخرى يواجه نفس المشكلة، رغم أنه يعلم مسبقًا أن الأجرام السماوية تأفل، وكأنه يأمل أن يكون هناك حل لمشكلته، لكنه لا يعلم كيف! وهنا توجه لربه الذي لم يره للآن مناجيًا: ﴿ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنْ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ**﴾** ، هو يناجي ربه يطلب العون من الرب الحقيقي، ولهذه المناجاة اعتقاد مضمر أن ربه الحقيقي يسمعه ويراه ويرى حيرته، وأنه سيهديه.
﴿فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ﴾ الأنعام [78]
يتكرر الحال ويتوجه الفتى إبراهيم مرة ثالثة إلى الشمس، **﴿**فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ﴾ هاهو يتوجه للشمس هذه المرة بعد أن أشاح بوجهه عن القمر ، مدركًا أن لهذا الجرم صفة جديدة، هي صفة الأكبر، هو الأكبر بالنسبة لبقية الأجرام السماوية، فإذا كان القمر قد امتاز عن الكوكب ببزوغه وظهوره الجلي، فإن الشمس بازغة بأجلى من القمر، إضافة إلى ذلك تمتاز عن الجميع بأنها أكبر الأجرام المرأية، ومرة أخرى يتوجه لها بشعوره الذي يريد دوام الاتصال وعدم الانقطاع، فإذا به يرى بعين قلبه أفول الشمس وابتعادها وغيابها عن الأفق.
﴿ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ**﴾** في هذه اللحظة يأس من كل ما حوله، وأدرك أن كل محدود معدود، وكل كائن يخلو منه المكان إذا أفل و ابتعد فلا ربوبية له، إذ لا صلة ولا تواصل معه، وبهذا أدرك ابراهيم معنى الربوبية الحقيقي من خلال رغبته الدائمة في الصلة مع الرب،
في هذه اللحظة يتوجه لقومه ويقول: " ياقوم" معبرًا بهذا اللفظ عن معنى النصيحة، فالناصح يقترب من المنصوح منه بأقرب رابطة، ثم يطلق نبي الله إبراهيم (ع) كلمة البراءة: " إني بريئ مما تشركون".
﴿إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ﴾ الأنعام [79]
وجهة الإنسان المادية هي انعكاس لوجهته القلبية، عندما يقول ابراهيم: **﴿**إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي ﴾ فهذا نابع من توجه قلبه نحو الله عز وجل، لقد امتلأ قلبه بحب الله الذي لا يأفل من بصيرة قلبه، ﴿ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْض ﴾ هو الذي أنشأ هذا الملكوت العظيم، وهو الذي يديره ويحرك الأفلاك في مساراتها، فهي ممتلكاته التي يحركها بقدرته.
أما قوله ﴿ حَنِيفاً ﴾ فهي كلمة تعبر عن حركة إبراهيم الفعلية والإيمانية للخروج من جاذبية الواقع المشرك التي تهوي بالإنسان في وادي الابتعاد عن الله، والابتعاد عن الحقيقة، فلم تعد مسألته مسألة عقلية فكرية وحسب، فالحنفية هي الميلان عن الواقع المنحرف، ولا يمكن للإنسان أن يميل بوجهه عن كل مظاهر الانحراف العقدي التي نشأ وترعرع عليها إلا إذا كانت لديه طاقة إيمانية تقويه على ذلك، لقد مال ابراهيم عن ذلك لوجه الله، وتبرأ من كل مظهر يُعلي غير الله ﴿ وَمَا أَنَا مِنْ الْمُشْرِكِينَ**﴾** لست من الذين أشركوا بالله مالم ينزل به سلطانا.
لقد نفى نبي الله ابراهيم بتأمله الربوبية عن كل الأجرام والمخلوقات مهما كبر وعلا شأنها، وأدرك أن الرب الحقيقي لا يأفل ، يجب أن يكون دائم البقاء حتى يمتاز بدوام الاتصال، ولكي يكون كذلك لا يصح أن تراه العين فتحده بحدود، ولا أن يشار إليه فيكون ضمن حيز محدد، وانطلق من بعد هذا إلى أن هناك حقيقة مطلقة في عالم الغيب، تلك الحقيقة هي من تملك كل هذا الملكوت وتدبره وتسيره وتتصرف فيه، هو رب الأرباب وفوق كل مربوب هو الخالق المدبر هو الله العزيز الحكيم، وهو من يستحق أن نتوجه له بالعبادة والاعتكاف والتسبيح لأنه رب العطايا والمنن.
قوم إبراهيم يعرفون الله ولكنهم يشركون به مالم ينزل به سلطانا، أدرك إبراهيم في هذه اللحظة معنى الشرك وخطر الوقوع فيه والانحراف عن الله في التوجه بالدعاء أو العبادة، ولقد أعلنها بنفس هذا الوضوح، فالوقوع في الشرك لا يعني عدم الاعتراف بوجود الله، ولكنه يعني الانحراف عنه في التوجه لغيره بسبب عدم اليقين.
هناك مرضان غيبيان متلازمان الغنى والعمى، الغنى عن الحاجة الدائمة والمتواصلة للرب، والعمى عن الملكوت. الغنى يوقع الإنسان في العمى وقصر النظر، فلا يرى إلا المادة القريبة، ولا يرى أبعد من ذلك، فيلجأ لعالمه المادي المحسوس رغم تصديقه بوجود الله، فيميل للمحسوسات حتى تكون هي واسطته لله، وإبراهيم الذي تجاوز تلك المشكلة باستشعار حقيقة فقره وضعفه، يُعلنها أن التوجه لتلك المحسوسات التي على الأرض أو في السماء هو سقوط في الشرك، ويدرك - في ذات اللحظة - أن الشرك يغضب الله لذا يُعلن البراءة من كل أشكاله.
# الصلاة
هذه المسيرة الإيمانية التي عاشها نبي الله إبراهيم هي مدخلنا للصلاة، لأن أصل موضوع الصلاة هو الصلة مع الرب، ووجب على هذا الأساس أن يكون المصلي عارف بربه، ولذا كان لابد من الدخول في هذه السياحة الإيمانية.
لقد استعرضت الآيات حالة من البحث المتواصل الذي انطلقت إلى السماء بالنظر والتأمل، فبرؤية الملكوت العظيم تتجلى عظمة الخالق الذي هو في عالم الغيب. هي رحلة إيمانية امتزج فيها العقل بالوجدان، حتى وصلنا معها إلى حالة التوحيد الخالص الذي لا يرى فيه المؤمن غير الله عز وجل، بنفي أي تأثير لأي شيء غيره، ومنشأ ذلك البحث ومنطلقه هو الحاجة المستمرة، وهذا يعني أن الباحث مالم يستشعر الفقر والحاجة الدائمة فلن يبحث عن الغني المطلق.
رحلة البحث عن الإله هي في حقيقتها رحلة في البحث عن الذات، فمن عرف نفسه فقد عرف ربه، فإذا كانت حاجة الإنسان دائمة مستمرة متواصلة، لجأ إلى رب أعلى ولا يأفل، أما الذين يسقطون في الصنمية والأشباه و الأشكال المادية والتماثيل فحاجتهم محدودة ومعرفتهم لفقرهم قاصرة، لذا لا يبحثون أكثر لتلبية تلك الحاجة الحقيقية، فيسقطون في الصنمية، فالعلاقة عكسية، أما إذا كانت حاجة الإنسان مؤقتة سيسقط في الصنمية، أما ما يقوده إلى الله فهو إذا كانت حاجته دائمة لا تنقطع، حينها سيصل إلى مراده عند الغني المطلق الذي لا يأفل ولا ينقطع، وهو الله عز وجل الذي لا يُرى ولا تحده حدود.
من هذا يمكن أن نعبر عن حقيقة ذلك البحث أنه رغبة حقيقية في الصلاة، ولأن إبراهيم قد عرف نفسه حق المعرفة، لم تتوافق صلاته مع كل ما شاهده من موجودات سواء كانت على الأرض أو في السماء, ولم يشعر بإقامة لصلاة حقيقية بينه وبين كل تلك المجودات، لذا واصل البحث، حتى وصل إلى حقيقة أن لا وجود لأي جهة أخرى غير الله تستحق هذا التوجه، وهذا تماما مانجده متوافقًا مع تعريف الصلاة.
# خاتمة
لقد وجدنا سابقًا أن معنى الصلاة يبدأ من حقيقة التواصل بين العبد وربه، ووجدنا كذلك أن هذه الصلة غير منقطعة بل هي مستمرة بلا انقطاع، وكل مايحصل هو فقط تحول حالة المصلي من وضع إلى لآخر، وإنما تتجلى الصلاة الشكلية في حالة الانقطاع التام عن الحياة بالقنوت بالذكر.
وهذا تمامًا ما وجدناه في قصة البحث عن الإله، فالباحث الحقيقي عن الإله لا يريد إله يغيب ويأفل، فتكون الصلة به منقطعة وليست دائمة، ورفض إبراهيم عليه السلام للأفول إنما هو تعبير عن رفضه لانقطاع الصلاة مع الإله، فالصلاة دائمة لا تنقطع، وهذا بدوره يقود إلى حقيقة أن الإله الحقيقي حاضر لا يغيب.
لقد عبرت لنا قصة إبراهيم أن المحتاج لذلك التواصل هو الإنسان نفسه، وهذا مايبيّن حاجته للصلاة، وهذا ما تؤكده آيات كثيرة حين تشير إلى أن المصائب التي تمر بالإنسان تجعله يلجأ إلى الله، ولكن سرعان ما يبتعد حين يشعر بالأمان المادي الظاهر، والآيات تنتقد ذلك اللجوء المؤقت وتقول كان من المفترض أن يكون حاله في الرخاء نفس حاله في الشدة، لأنه المحتاج لذلك وليس الإله، فالصلاة هي حاجة حقيقية لدى الإنسان الذي استشعر حقيقة نفسه.
يمكن أن نقول بعد هذا الربط بين الصلاة والبحث الحقيقي عن الإله أن دافع بحث نبي الله إبراهيم عن الإله يمكن أن نراه من زاوية أخرى أنه سعي لإقامة الصلاة، ولأن الصلاة لا تنقطع فهذا يقود قلب المؤمن إلى حقيقة أن ديمومة حضور الإله والذي يعني أنه في عالم الغيب، هو القريب الذي لا يرى بالعين، ولو رأته العين لأصبح محدودًا ولخلا منه مكان آخر ولا نتفت عنه الربوبية.