مدونة حلمي العلق

الذكر

 | prayer

مقدمة

كانت بعض القبائل القديمة تكتب تعاليم الوصايا العشر في شريط وتربطه كوثاق يلتف في سواعدها وسواعد أبناءها ، ويكتبونها في مداخل بيوتهم وغرف معيشتهم أو في زوايا منازلهم تعبيرًا عن شدة التصاقهم بتعاليم الإله، وحتى لا ينسوا شيئًا من تلك التعاليم في أي لحظة من اللحظات، حلقة هذا اليوم هي استكمال للحلقة السابقة والمتعلقة بتعريف الصلاة.

تحدثنا في الحلقة السابقة عن معنى من معاني الصلاة وهو الصلة، وقلنا بأن التعبير الأدق لهذه الكلمة هو الصلوة والتي تعني الصلة الغيبية بين الإنسان وربه، وتحدثنا كذلك عن عطاءات الصلاة على الإنسان المؤمن من هدى وقوة وثبات في الفتن والمحن والشدائد. والصلاة بهذا المعنى هي رابطة بين العبد وربه، وهذه الرابطة لأنها ليست مادية فلا نسميها وصلة وإنما نسميها صلاة أو صلوة لكون الجذر اللغوي للصلاة هو صلو، فجذر كلمة الصلاة مختلف لما لها من خصوصية في كونها علاقة وجدانية –إن صح التعبير- بين العبد وربه. ومن خلال هذا التعريف يمكننا أن نقول أن الصلاة تحدث عندما تتكون تلك الصلوة بأي شكل من الأشكال، ويمكننا أن نلخّص هذه الصلوة بنقطتين رئيسيتين هما :

1- أنهما بين طرفين أحدهما في عالم الغيب.

2- هي من الأدنى الفقير إلى الأعلى الغني، من الأدنى الذي يَطلب الحاجة إلى الأعلى القادر على إعطاء تلك الحاجة.

اليوم نتحدث عن الضلع الثاني في أضلاع مثلث الصلاة وهو الذكر، سيكون فهمنا – إن شاء الله – للصلة (الصلوة) هو نافذة فهمنا للمعاني الأخرى للصلاة. لقد ختمنا الجلسة السابقة بطرح سؤال متعلق بالآية الكريمة (99) من سورة التوبة والتي استخدمت لفظة (الصلوات) مع الرسول، وقلنا بأنه إذا كانت الكلمة لا تستخدم إلا في الغيبيات وفي العلاقة مع الله عز وجل، فلم استخدمت في هذه الآية؟

الذكر

الصلوات

يقول الله عز وجل:

﴿وَمِنْ الأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمْ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ التوبة (99)

الآية الكريمة تمتدح فئة من الأعراب وتقول بأنهم يؤمنون بالله واليوم الآخر، ولا يشعرون بالضيق والخسارة حين ينفقون في سبيل الله، بل هم يعتبرون تلك الصدقة قربة لله، وكذلك هم يعتبرون صلوات الرسول، أي يعتبرون تواصلهم مع الرسول أو تواصل الرسول معهم أمر يقربهم إلى الله، فهم يبذلون الجهد من أجل الوصول إلى الرسول ومجالسته بحكم المسافة الفاصلة بينهم وبين الروسل، ويعتبرون هذا الجهد أمر مندوب عند الله وله أجره وله ثوابه، والآية تقول: ألا إنها قربة لهم، مؤكدة على مافي ضمائرهم من نية حسنة في هذا الاتجاه، وتقول بأن الله يتقبل منهم ذلك العمل وسيدخلهم في رحمته إنه غفور رحيم.

وبخصوص استخدام لفظة (الصلوات) نقول أن سعيهم في الأساس هو للرسالة النازلة من عند الله، والرسالة هي صلاة من عند الله إلى الناس، فعندما يتم الحديث مع جهة كالرسول لها علاقة بالله في شأن إيصال هذه الرسالة، ستكون الحركة التي تحدث الصلة وتحدث الارتباط هي صلاة، فالتواصل المادي بين المؤمن وبين الرسول يُعتبر (صلاة) بالمعنى اللغوي، وليس بالمعنى الاصطلاحي المعتاد، ذلك لأن الله متصل بهذا الرسول وينزل عليه آيات بيّنات ليخرج الذين آمنوا من الظلمات إلى النور بإذنه، فتواصلهم مع الرسول هو من أجل نيل تلك الرسالة، وتلك الرسالة هي حبل الله الممدود من السماء إلى الأرض إلى الناس من أجل استنقاذهم من الظلمات إلى النور. نذهب للضلع الثاني من معاني الصلاة وهو الذكر.

الذكر

قبل أن ننطلق في الحديث عن الذكر وعلاقته بالصلاة لابد لنا وأن نتعرف على أشكال الذكر في القرآن الكريم. وردت كلمة الذكر في القرآن الكريم معبرة عن ثلاث حالات هي :

1- الكتاب السماوي : كما في قوله تعالى ( إنا نحن نزلنا الذكر وأنا له لحافظون)

2- الذكر باللسان : كما تبينه الآية الكريمة ( فإذا قضيتم الصلاة فاذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم )

3- الصلاة : كما تبينه الآية الكريمة ( وإذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله)

ونطرح السؤال: ما علاقة الذكر بالصلاة؟ وما الرابط بين هذه العناوين الثلاثة؟ وكيف يمكن أن نعتبرها ذكرًا؟ وما علاقة ذلك بالصلاة؟

الذكر الدائم للشيء متلازم مع أهميته لأنه يشغل جزءًا من ذاكرته أو خاطره أو قلبه، والذكر باللسان متلازم مع ذاكرة الإنسان، إذ تسمى حافظة الإنسان ذاكرة لأنها تحفظ ما يذكره ويظهر بعض الأحيان على لسانه أو في خواطر نفسه، وإذا انشغل الإنسان بشيء كثر من ذكره.

القرآن الكريم يحوي تعاليم الإله للإنسان والتي على أساسها سيقف أمام ربه ويحاسب ، فهذا الكتاب يحوي أهم قضية يعيش من أجلها الإنسان في حياته، والحدث الأهم يجب أن يكون حيًا مذكورًا في اللسان وفي الجنان، عندما نقول بأن القرآن هو ذكر المؤمن، فهذا يعني أنه يكثر من تلاوته وذكرها تلفظًا أو في قلبه وعقله على الدوام وبلا انقطاع، فلا يشغله عنها شاغل، ولا يتردد في خواطره غيرها، فهي ذكره. وإذا قلنا أن الإنسان ذاكر لربه بالحمد والتسبيح فهذا لأن الأصل في انشغال قلب المؤمن هو بالله عز وجل، ونحاول من خلال هذه الحلقة ومن خلال فهمنا لكون الصلاة صلة العبد بربه أن نفهم سر ارتباط الذكر بالصلاة.

إزاء قضية الآخرة وتعاليم الكتاب المنزل، نحن أمام عنوانين رئيسيين: الأول هو النسيان، والثاني هو الذكر أو التذكر، وأمام مستويين المستوى الأول المستوى الفردي والثاني هو المستوى الجماعي أو مستوى الأمة، نستعرض هذين الأمرين من خلال الآيات الكريمة:

أ- النسيان على المستوى الفردي

يقول الله عز وجل:

﴿قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً ۝ قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى ﴾ طه (126)

في يوم القيامة يكون نسيان الآيات هو سبب الخسران الإنسان، وفي الآية تساؤل على مستوى الفرد: لم حشرتني أعمى؟ يخاطب الله عز وجل، في هذا اليوم العصيب، وفي موقف عرصات يوم القيامة لم أكون بهذا الوضع؟ والإجابة بمثل ما نسيت الآيات تحشر أعمى، نسيتها وتعاميت عنها ولم تلتفت إليها، فأصبحت في عداد النسيان، وكما نلاحظ فأن النسيان مرتبط بالكتاب المنزل وبالآيات.

ب- النسيان على المستوى الجماعي.

﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ۝ قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْماً بُوراً ﴾ الفرقان (17)-(18)

وهذا موقف آخر تعرضه هذه الآية ولكن الخطاب فيه على المستوى الجمعي، وليس على المستوى الفردي كما تحدثت الآية السابقة، وهو موقف من مواقف يوم القيامة، حيث يتم إيقاف الجماعات للمساءلة الجماعية، الآية (17) تسأل أشخاص محددين عن سبب ضلال أناس؟ وتسألهم: هل أنتم سبب ضلالهم؟ والآية تستبطن ادعاء الذين ضلوا وتعليق ما يفعلون في ضلالاتهم على أولئك الأشخاص.

لكن الإجابة أنهم يتبرأون منهم ومن ضلالاتهم، ويقولون بالفم الملآن ليس لنا علاقة بانحرافاتهم، ويكون الرد منهم في الآية (18): ( ماكان ينبغي لنا أن نتخذ من دونك من أولياء ولكن متعتهم وآباءهم حتى نسوا الذكر وكانوا قومًا بورًا) إذًا هم يرجعون سبب الوقوع في الضلال هو أنهم مع طول المدة والعيش في متاع الحياة، نسوا الذكر، ونتيجة لنسيانه أصبحوا جماعة بوار، والبوار هو الخراب والفساد، فالأرض البوار لا تثمر ولا تنتج، وهاهنا تقر هذه الآية أن النسيان يقود إلى الهلكة يوم القيامة وعلى المستوى الجمعي.

إذًا هناك نسيان على المستوى الفردي ونسيان على المستوى الجمعي وكلاهما للآيات، وكلاهما يقود في النهاية إلى الخسران المبين يوم القيامة، وعليه تتضح أهمية الذكر الذي يقود إلى التذكر وبالتالي إلى النجاة يوم القيامة، ولنؤكد على ذلك نأخذ عاقبة النسيان في الآية التالية:

عقوبة النسيان

﴿ فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ۝ وَمِنْ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظّاً مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمْ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ ﴾ المائدة 13 – 14

في الآية الأولى آية (13) من سورة المائدة، تتحدث عن فئة من بني إسرائيل نقضوا عهدهم، أي خالفوا كتابهم ونتيجة لذلك لعنهم الله، أبعدهم عنه وطردهم من رحماته، وجعل قلوبهم قاسية، وكيف يتضح ذلك؟ يتضح في سلوكهم المنحرف حيث أصبحوا يحرفون الكلم في التوراة عن مواضعه، يبدلون مواضيع الآيات، ويبدلون معاني كتابهم، ويؤولون الآيات من أجل أن تتساير مع الأهواء، ثم تقول الآية : (ونسوا حظًا مما ذكروا به) ، أي نسوا جزءًا من ما أمرهم الله عز وجل به في التوراة، وقد استخدم كلمة النسيان في مقابل الذكر، للدلالة على أن هذا الذي نُسي كان من المفترض أن لا ينسى، وكان يجب أن يتصدر الدرجة العليا في ذاكرة الإنسان، وأن يتعاهده ليل نهار حتى لا يخفت في نفسه، وكذلك على المستوى الإجتماعي كان على المجتمع أن لا ينسى عهوده مع الله حتى لا تتبدل كلمات الله بكلمات غيره.

ثم تنتقل الآية الثانية وهي آية (14) للحديث عن فئة من النصارى وقعت في ذات المشكلة، نسوا حظًا مما ذكروا به أيضًا، تقول الآية : ( ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظًا مما ذكروا به) أخذ الله ميثاقهم من خلال الكتاب الذي أنزل عليهم لأن الكتاب السماوي هو عهد الله إلى بني البشر عامة، والأقوام أو القبائل التي أنزله الله عليها بشكل أخص، ولكنهم لم يراعوا هذا العهد، ولم يتعاهدوه، وشيئًا فشيئًا نسوا حظًا منه، فكانت العاقبة أن الله عاقبهم جراء ذلك النسيان بأن فرقهم ومزقهم لأنهم ابتعدوا عن كتابهم، ( فأغرينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة ) فأصبحوا ممزقين يبغضون بعضهم البعض وتفرقوا بعد أن كانوا أمة واحدة.

إذًا محور الحديث في موضوع الذكر والنسيان حول الكتاب السماوي، هو الذكر الذي يجب أن لا يُنسى، هو الذي يجب أن يكون حاضرًا في وجدان الأمة على المستوى الجمعي والفردي، ذكر الله لا يعني التلفظ بأسماء الله فقط، أن نذكره تعني أن نبقي تعاليمه وأومره حاضرة عالية في ضمائرنا، ومتى ماكانت عالية، لن تتمكن أي تعاليم أخرى من مزاحمتها أو الإحلال في موقعها.

النسيان يتم على مستويين، مستوى جماعي ومستوى فردي، المستوى الجماعي يعني أن المجتمع نفسه ينسى تعاليم السماء ويقع نتيجة لذلك في أمية للكتاب، ونتيجة لذلك يكون عرضة للانتهاز الشيطاني فيقبل أن يأخذ تعاليمه من أي جهة أخرى، أما على المستوى الفردي فهو أن يضعف الإنسان في أداء حقوقه وواجباته أمام الله. وفي كلا الحالتين المؤمن بحاجة لتقوية الصلة مع الله من خلال كثرة ذكره ومن خلال تعاهد كتابه حتى لا يُنسى الله ولا ينسى الكتاب.

لا غرابة إذًا أن نجد كلمات كهذه: الكتاب والصلاة والذكر والشريعة أو التعاليم كلها تنصهر في بوتقة واحدة لتكون نسيجًا ومفهومًا واحدًا حول الصلاة، فالصلاة هي الحاضنة الأم لكل تلك العناوين، وعلى أساس ارتباط الصلاة بالذكر نريد أن نصيغ فهمنا لها من جديد. إذا كانت الصلاة مرتبطة بالذكر الذي يحوي هذه المعاني فهذا يعني أن للصلاة مضمون شكلي ومعنوي، لأن الذكر والنسيان ومن خلال الآيات السابقة أوسع من نضيقه في فعل محدد فهو مفهوم واسع في القرآن الكريم، وباتساع مفهوم النسيان والذكر، يتسع معنى الصلاة فهي أكبر من هذا الكيان المتمثل في الحركات الخاصة التي يؤديها المصلي، تعالوا إذًا نفهم حقيقة الذكر لنفهم من خلال ذلك معنى آخر للصلاة.

حقيقة التذكر

نستعرض آيتين لفهم حقيقة هذا النسيان وعلاقته بالذكر:

1- الآية الأولى:

يقول الله عز وجل:

﴿وَيَقُولُ الإِنسَانُ أَئِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً ۝ أَوَلا يَذْكُرُ الإِنسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْئاً﴾ مريم (66)-(67)

تقول الآية ( أولا يذكر الإنسان أنا خلقناه من قبل ولم يك شيئًا )، فهل تقصد الآية أنه نسيَ هذا الموقف كحقيقة علمية؟ أم نساه نسيانًا وجدانيًا فلم يعد يتصرف على أساسه؟ فنسي أنه مخلوق، وقد كان قبل هذه اللحظة لاشيء ؟! الآية تقصد النسيان الوجداني المعنوي الذي يفضي بالإنسان إلى أن يسلك السلوك الخطأ، فليس المقصود هو نسيان الذاكرة، أو فقدان المعلومة، ولكن هو انشغال القلب بحالة أخرى تؤدي بالنتيجة إلى نسيان حقيقة أصيلة في وجدان الإنسان.

2- الآية الثانية

يقول الله عز وجل:

﴿أَوَلا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَلا هُمْ يَذَّكَّرُونَ﴾

فهل تقصد الآية التذكر المادي أي تذكر معلومة؟ أم تقصد التذكر الوجداني الذي يؤدي بصاحبه للتراجع عن بعض مواقفه وبعض أفعاله؟ فقد يتذكر هذا الذي تتحدث عنه الآية بصورة مادية جميع الآيات وجميع المواعظ التي تنهاه عن موقفه لكنه لا يتذكر بمعنى أنه لا يرتدع، أي لا تحدث له كل تلك المواعظ وكل تلك المواقف الذكرى التي تهز وجدانه فتجعله يتخذ موقفًا آخر ليتراجع عن غيه وعن سلوكه الخاطئ.

علاقة الذكر بالصلاة

عندما نتحدث بصورة مادية عن مسميات مثل القرآن والتسبيح والصلاة نجد أنها عناوين مختلفة متباعدة، ولكن حين نبحث عن معناها نجد أنها عناوين متقاربة وتنطلق من بوتقة واحدة، فالقرآن ذكر لأنه يُحدث الذكرى والتأثير لمن يريد أن يتغير أو لمن يتعظ ويقاوم شهوة الدنيا وشهوة العلو فيها، فهو المذكر بحقائق الغيب، والتسبيح باللسان والقلب هو المذكر بعلو الله، وأن كلمته يجب أن تكون هي العليا. من خلال رؤيتنا للصلاة على أنها لقاء مع الله عز وجل، هي موضع ذلك الذكر، ففيها تلاوة للقرآن، وفيها يكون التسبيح لله.

إذًا الصلاة هي موطن تذكر كل تلك الحقائق التي يراد لها أن تغييب من قبل شياطين الإنس والجن، وإن نسى المؤمن فقد وقع في بئر المعصية والخطأ مع الله، وابتعد عن هدفه من هذه الحياة. نقول إن الإنسان جاء لهذه الحياة الدنيا لهدف وعليه أن لا ينسى هدفه هذا فيظل ذلك الهدف نصب عينيه على الدوام.

الذكر والنسيان والصلاة

إذا كانت الصلاة ذكرًا، فهذا يعني أنها تحوي التسبيح وقراءة القرآن تلفظًا وتجسيدًا، شكلًا ومضمونًا، في الشكل هو الحالة الشاخصة التي تعبر عن حركات وأفعال الصلاة المؤداة، أما مضمونًا هو ما يجب أن تحدثه الصلاة من بقاء القيمة العليا لآيات الله حاضرة في نفوس المصلين، وإلا كانت صلاة بلا روح.

من الناحية الشكلية ، علمنا من خلال التعريف في الحلقة السابقة أن كل ما يمكن له أن يصل العبد بربه يمكن أن نعتبره (صلوة)، أو بتعبير آخر ينشئ الصلاة، من هذا التعريف يمكننا أن نعي أن الذكر ينشئ مرتبة من مراتب الصلاة. فهل يسبق الذكر شيء يعد مرتبة من مراتب الصلاة أيضاً؟ نعم، الذكر يكون بفعل يفعله المؤمن كقراءة الكتاب السماوي أو الذكر باللسان، وقد يكون المؤمن غير نشط في الذكر ولكنه غير ناس، وعلى ذلك يمكننا أن نعتبر أن أول مراتب الصلاة هو عدم النسيان، وحين يقع الإنسان في النسيان فقد انقطعت صلته بربه، وبهذا يمكننا أن نعبر عن الصلاة بالرابطة الروحية بين العبد وربه والتي تتدرج حسب التسلسل التالي

1- عدم النسيان

تبدأ أول ما تبدأ بعدم نسيان الله،النسيان حالة سلبية يقع فيها الإنسان بسبب تغافله عن شيء مهم في حياته، وفي الدين يبني المؤمن علاقته مع كتابه السماوي على أساس معاهدة الله على البقاء على تعاليم هذا العهد، فالقرآن هو عهد الله، كما كانت الإنجيل وكما هي التوراة من قبله، وهو عهد غليظ بين العبد وربه، وما فيه من تعاليم هي مضامين هذا العهد، والمؤمن الذي أسس إيمانه على أساس الاعتقاد بأن هذا الكتاب هو من عند الله، وأنه محاسب يوم القيامة على أداء مافيه، لا يريد أن ينسى تلك التعاليم، ولا يريد أن ينسى كتابه.

أما دواعي النسيان فكثيرة، ويمكن تلخيصها في فتن الحياة الدنيا، وفي استدراج الشيطان وبخطواته لإبعاد المؤمنين عن حقائق الكتاب وأحكامه وعقائده، من هنا تتجلى أهمية عدم السقوط في بئر النسيان الذي أسقط فيه الشيطان كثير من الأمم السابقة.

2- الذكر

أما المؤمن الذاكر فهو الفاعل للذكر وهي مرتبة أعلى من عدم النسيان، هذا الذكر يديم هذه الارتباط بالمبدأ الأساس، هو جهد يبذله الإنسان حتى يرتقي إلى أن يبقى ذكر الله عاليًا في نفسه، بالآيات وتسبيح الله، إذًا الإنسان يتعاهد عهده بالمداومة حتى لا ينسى، أو حتى يكون ذاكرًا له، وهذا له علاقة بتعاليم الكتاب، فتعاليم الكتاب يجب أن لا تنسى لسببين: الأول لكي لا يحل مكانها تعاليم أخرى، والسبب الثاني حتى لا يفتتن الإنسان بالدنيا فتسقط من ذاكرته في وقت الفتن، فينطلق في التصرف من تلقاء نفسه لا من خلال التعاليم التي عاهد نفسه على الثبات والإستمرار عليها، وفي كلتا الحالتين هو بحاجة إلى العون من الله من أجل الثبات ولا شيء يزيده في الثبات أكثر من الاستعانة بالصبر والصلاة.

نتيجة

الكتاب السماوي، والذكر باللسان هما من الذكر،وحسب التعريف فإنهما مرتبة من مراتب الصلاة، وهما مرتبة أعلى من عدم النسيان، وتنقطع صلة العبد بربه حين ينسى، وتبدأ صلته به حين لا ينسى، وترتفع علاقته به حين يكون ذاكرًا له على الدوام

إذا كانت الصلاة تعني الصلة، فهذا يعني أنها تعني العلاقة الممتدة من السماء إلى الأرض بكل ماتحوي هذه الكلمة من معنى، فهذه العلاقة لا تبنى على أساس شكلي لفظي فقط، ولكن لها مضمون، ويجب الحفاظ عليه والاستمرار عليه، وقد وجدنا أن هذه العلاقة تبنى على أساس عدم النسيان، ثم تنتقل لتصبح ذكرًا دائمًا مستمرًا لا ينقطع.

لقد رأينا أن الصلاة بمعنى الصلة (الصلوة) هي نافذة فهمنا لمعنى الذكر، فالذكر مبني على أساس هذه الصلة، وذكر الله لا يعني ذكره اللفظي الشلكي ولكن يعني فيما يعني ذكر تعاليمه والبقاء عليها دون تغيير، والصلاة بهذا المعنى هي حافظة العهد بين العبد وربه حتى يبقى دائًمًا ثابتًا في القلب.