مدونة حلمي العلق

الصلاة وقيم الكتاب

 | prayer

مقدمة

كان الحديث في الحلقة السابقة عن علاقة الصلاة بالكتاب، وكنا في استقراء لرؤية استبدال كلمات الصلاة بالقرآن أو الكتاب في مواضع مختلفة في القرآن الكريم، وختمنا الحديث حول هذا الأمر أن السبب في ذلك هو أن للصلاة إقامة وللكتاب إقامة أيضًا، إقامة الصلاة تتمثل في تجسيدها بالأفعال، أما إقامة الكتاب فتكون بتجسيد أفعال وأخلاق الكتاب. وهذا ما توثقنا منه في الحلقة السابقة في الآية التي تحدثت فيه عن آية ( إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر)

﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ الْكِتَابِ وَأَقِمْ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾

الآية تبين أن للصلاة نهي كما بينت آية صلاة شعيب أن للصلاة أمر كذلك، وقلنا أن حقيقة الأمر والنهي تكون كنص في الكتاب، ولكن إلصاق هذين الفعلين بالصلاة له دلالة بينة أن الصلاة هي المعين على تنفيذ تلك الأوامر، فتلك الأوامر تمر عبر الصلاة، فإن نفذت كانت الصلاة حقيقية، وإن لم تنفذ كانت مجرد أفعال لا معنى لها.

الآية تأمر بإقامة الصلاة، ثم تبين " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" فهي تقول أن هذا الكيان الذي هو مكون من قيام وركوع وسجود، إذا أقيم بحق الإقامة سيكون مردوده أن تطبق آيات الكتاب التي يأمر الله بتلاوتها، فالصلاة هي الحاضنة لتلك الآيات والمعينة على تطبيقها.

نريد في هذه الحلقة أن نؤكد على هذا الفهم من خلال آيات القرآن، هل تحدثت آيات أخرى في القرآن على أن للصلاة علاقة وطيدة بقيم الإنسان وفي حياته أم لا، أي هل لها علاقة بقيم الكتاب، وهل نجد نفس هذا المعنى في هذه الآية والذي ربط بين الصلاة والنهي عن الفحشاء والمنكر في سياقات أخرى في القرآن الكريم؟

في الحقيقة أن هذا السياق متكرر، ونجده في مواضع أخرى، وهو ما يكمل المعنى الذي فهمناه في هذه العلاقة، نستعرض ذلك في ثلاث مواضع في القرآن الكريم ، في سورة مريم، وسورة المعارج ، وسورة المؤمنون.

الكتاب وقيم الصلاة

أولًا : آية أضاعوا الصلاة

يقول الله عز وجل:

﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً ۝ فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً ۝ إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً ﴾ مريم (58) – (60)

بعد أن عرضت الآيات السابقة لهذه الآيات أسماء بعض الأنبياء جاءت هذه الآية لتعقب على ذلك بقولها ( أولئك الذين أنعم الله عليهم من النبيين من ذرية آدم ) إلى أن تقول واصفة إياهم درجة إيمانهم التي يمتدحها الله عز وجل:

( إذا تتلى عليهم آيات الرحمن خروا سجدًا وبكيا)

وهنا ربط خفي بالصلاة، وعلاقة منسجمة كذلك مع الآيات التي تداولناها سابقًا، الآية تعرض حال أولئك الصالحون على أنهم يخرون للسجود بتلقائية مباشرة وبلا تلكف حين يسمعون الآيات، وهذا الفعل يتم منهم كتقدير للمتحدث، فهم يشعرون أن المتحدث هو الله عز وجل، ولا يملكون في هذه الحالة إلا أن يخروا سجدًا للآيات، كما لو أنهم في لقاء مباشر مع الله، فمن يلتقي مع الله لا يملك إلا أن يخر لعظمته ساجدًا، وهذه الحالة لا تعبير لها إلا أنهم يرون الله في الآيات، فآيات الكتاب بالنسبة لهم تعني الله.

وهذا ما نجده منسجمًا مع سورة العلق حين أمرت بالقرآءة، ثم اتضح لنا أن قراءة القرآن أدت إلى الصلاة، ثم أمرت في نهاية السورة بالسجود بدلًا من الالتفات لذلك الذي ينهى عبدًا إذا صلى، فتحققت الصلاة بالقرآءة، وهنا في هذه الآية اتضح أن الصلاة تحدث بتلقائية لدى أولئك الذين هداهم الله، والآية تتحدث على أن هذا الفعل هو ديدنهم وهو صفة ملازمة لهم وليست طارئة أو متبدلة مع الوقت.

ثم تتحدث الآية التالية لهذه الآية عن الخلف الذي خلفهم، والذين ابتعدوا بعيدًا عن تلك الحالة الإيمانية، فقالت: " فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيًا" ، ومرة أخرى نلحظ أن الحديث كان في الآية السابقة عن حالة التفاعل الطبيعية مع آيات الكتاب المنزل من عند الله من قبل الأنبياء والصالحين، ثم تعقب هذه الآية على حالة معاكسه لتلك الحالة الإيمانية بقولها: " أضاعوا الصلاة"، يمكننا على هذا التعقيب أن نقول: أنهم أضاعوا الصلاة فأضاعوا تلك الحالة الإيمانية التي يتم فيها التفاعل مع الآيات بشكل تلقائي، أو نستطيع أن نأخذها بزاوية أخرى ونقول أن الذين كانوا يحافظون على صلاتهم وصلوا لدرجة من الإيمان تجعل قلوبهم شفافة أثناء استماع آيات الكتاب ولكأن الله يحدثهم مباشرة، أو نستطيع القول أيضًا: أن تفاعلهم التلقائي مع الآيات هو نوع من أنواع الصلاة التي فقده الجيل اللاحق.

ما يمكننا أن نستنتجه بعد ذلك أنهم حين أضاعوا الصلاة، أضاعوا معاني الكتاب وقيمه، فأصبحوا لا يتفاعلون معه حق التفاعل، وبعد هذا الضياع للاثنين، اتبعوا الشهوات، وقعوا في الانحلال الخلقي، إذًا في هذا النص المتشابك والمحبك بين الصلاة والكتاب، نجد أن العنصر البارز في ذلك كله، أن الذين وصولوا للدرجة العالية من الشفافية في التعامل مع الله، محافظون على قيم الكتاب، ويعيشون أخلاق كتابية عالية بعيدة عن الشهوات والإنحلال الخلقي، وهذا ما يؤكد أن ارتباطهم بالصلاة الشكلية والمعنوية كان قويًا، في حين أن الجيل اللاحق الذي انفلت من قيم الصلاة انحلت أخلاقه ووقع في الرذيلة.

ولنا في هذه الآية أن نقف أمام كلمة "أضاعوا الصلاة" ولنتساءل : هل هم أضاعوا أفعال الصلاة أم معاني الصلاة؟ الآيات تبين أن الصالحون كانوا يقدرون الله حق قدره وبدرجة عالية جدًا، لذا كانت صلاتهم لله بالآيات بمعناها وحقيقتها، وما ينفع المصلي إذا أدى أفعالًا ولم يرفقها بمعرفة حقيقية بالكتاب، وبمعرفة حقيقية بمنزل الكتاب، أو أنه لم يقدر الله حق قدره؟ حينها ستكون أفعاله مجرد أفعال، وقد يقع في اتباع الشهوات حتى مع أداء تلك الأفعال.

أما النتيجة التي بينتها الآية فهي في قوله تعالى: "فسوف يلقون غيًا"، أي أن إضاعة الصلاة أضعفت إرادتهم وعزيمتهم في اتباع القيم المنزلة من عند الله، ثم رمت بهم في مهاوي الضلال، فلقوا بذلك الغواية والضلال، ولو عكسنا الأمر لوجدنا حقيقة أخرى وهي أن عدم إضاعة الصلاة بمبناها ومعناها يؤدي إلى الهداية بدلًا من الغواية، فالصلاة الحق هي باب الله الواسع نحو الحقيقة التي يريد المؤمن الوصول لها.

ثم تستثني الآية من ذلك كله التائبون : " إلا من تاب وآمن وعمل صالحًا فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون شيئًا " ، والتوبة هنا هي بالعودة إلى الكتاب والمحافظة على قيم الصلاة ومعانيها، فهي السبيل لتقويم خلق الإنسان بالدرجة الإيمانية التي يريدها الله عز جل من المؤمن، يقول الله عز وجل في سورة المعارج واصفًا المصلين:

ثانيًا: آيات المصلين

﴿ إِنَّ الإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً ۝ إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً ۝ وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً ۝ إِلاَّ الْمُصَلِّينَ ۝ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ ۝ وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ ۝ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ ۝ وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ ۝ إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ۝ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ۝ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ ۝ أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ ﴾ المعارج (19)-(35)

هذه الآيات تصف حال الإنسان الاعتيادي، الذي لم يسلك بنفسه طريق الإيمان ولا يعرف حقيقة الآخرة ولا الكتاب ولا الإيمان، أنه هلوع، وفي مواقف الشدة يجزع، وهي حالة من الضعف أمام مواقف الشدة تجعله يشعر باليأس أو الإحباط أو الحزن الشديد، أو التصرف بلا روية ولا تعقل، وفي الحالات المعاكسة لهذه الحالة: " إذا مسه الخير يمنع ذلك الخير عن غيره، "إذا مسه الخير منوعا".

ثم تستثني الآية من كل البشر فئة منهم تسميهم بـ "المصلين"، تلك الفئة لا تقع في هذه الحالات المتطرفة، أي أنها لا تهلع، فلا تقع في الجزع في الشر، ولا تقع في المنع في الخير، وهذا يعني أنهم متزنون في تلك الحالات، لايقعون في الحزن الشديد أو الفرح الشديد، ولا يتوهمون بل هم يعيشون حقيقة هذه الحياة الدنيا، لأنهم مصلون، متصلون بالله، متصلون بكلماته، متصلون بالمعاني والحقائق التي أرشدهم إليها في كتابه، لا ينفصلون عن تلك الحقائق مهما تعرضوا في مواقف الحياة إلى المآسي والمحن والشدائد أو الفرح والخير العميم.

ثم تأتي الآيات التالية لتصف أولئك المصلين، وتذكر قائمة من الصفات التي تعبر كلها عن قيم قد أرشد الكتاب بها :

1- الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ دَائِمُونَ (23)

2- وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25)

3- وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)

4- وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ (31)

5- وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32)

6- وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33)

7- وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُوْلَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35) ﴾

بدأت هذه الصفات بالمداومة على الصلاة، وانتهت بالمحافظة على الصلاة، وبينهما تحدثت عن الإنفاق، والتصديق بيوم الدين، والإشفاق من عذاب الله، والابتعاد عن الفواحش، ثم الحفاظ على الأمانات، والقيام بالشهادة، كل تلك صفات عالية وتتحقق في الظروف الصعبة، تتبين حقيقة الإنسان في الظروف التي فيها احتكاك مع الحقيقة، وليس في الظروف الاعتيادية.

كل تلك القيم العالية، هي صفات المصلين، وهي صفات أرشدنا لها الكتاب حتى نتمثل بها، وحتى نحقيقها، ولو انتفت صفة من تلك الصفات من المؤمن لم يكن من المصلين، فإذًا أداء فعل الصلاة بحد ذاته ليس هدفًا، ولكنه وسيلة لغاية أكبر وهي أن يصل المؤمن لأن يكون من المصلين، ويصل إلى تلك المرتبة حين يحقق هذه الصفات العالية والقيم الأخلاقية النبيلة بثبات وقوة، لا بضعف مهزوز.

ثالثًا: آيات "قد أفلح المؤمنون"

أخيرًا نستشهد بآية " قد أفلح المؤمنون " في سورة المؤمنون.

﴿ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ۝ الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خَاشِعُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ ۝ إِلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ ۝ فَمَنْ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْعَادُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ ۝ وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ﴾ المؤمنون (1) – (9)

هذه الآيات ربطت أيضًا بين الخشوع في الصلاة وبين قيم الكتاب.