الصلاة والتسبيح
| prayer# مقدمة
نكمل الحديث حول تعريف الصلاة وفي محورها الثاني وهو الذكر، قلنا بأن الصلاة هي صلة بين العبد وربه، وكذلك هي ذكر، ثم بحثنا في مصاديق الذكر في القرآن الكريم فوجدناها متمثلة في الصلاة والقرآن والتسبيح، كنا قد بحثنا في الحلقة السابقة عن علاقة الصلاة بالكتاب السماوي، وانتهينا إلى أن للصلاة علاقة وطيدة بالكتاب وخصوصًا من الناحية التطبيقية، ولا أدل على ذلك من آية (أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات) يقول الله عز وجل :
﴿ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيّاً فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيّاً إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلا يُظْلَمُونَ شَيْئاً ﴾ مريم (58) – (60)
لقد بيّنت الآية وجود علاقة بين السجود والاستماع للآيات، وذلك نابع من تقدير كلمات الله، ثم ربطت بين إضاعة الصلاة واتباع الشهوات، فإضاعة الصلاة يتبعه اتباع الشهوات والوقوع في رذائل الأخلاق، وقد لا يكونوا أضاعوا الصلاة بشكلها وأفعالها ولكنهم أضاعوا مضمونها، فمحتوى الصلاة هو قيم الكتاب التي يجب أن تتجسد في أفعال الإنسان خارج الصلاة.
هذا ما يجعلنا نقول أن أحد أهداف الشيطان اللعين هو الفصل بين الصلاة وبين واقع الحياة، أي الفصل بين العبادة وبين ما يجسد قيم تلك العبادة خارج المسجد، وهذا الفصل يعني إضاعة الصلاة، فالصلاة بمعناها هي صلة بالله يجب أن تكون دائمة وبلا انقطاع، وإذا كان الوضع كذلك فيجب أن لا يقطع المؤمن صلته بالله وهو خارج المسجد وفي التعاملات العامة.
ما يلفت النظر في هذه الآية هو أنها ربطت بين القرآن والسجود، وهذا أمر نريد أن نتوسع فيه ولكن في حلقات لاحقة إن شاء الله رغبة في معرفة السر وراء هذه ا لعلاقة، لأن السجود هو فعل أساسي من أفعال الصلاة، وهذا الفعل هو ما سنلحظ تواجده أيضًا أثناء بحثنا عن علاقة التسبيح بالصلاة – وهو عنوان حلقتنا لهذا اليوم –
# الصلاة والتسبيح
بعد فهم العلاقة بين الصلاة والكتاب، ننتقل لدراسة الجزء الثاني من الذكر وهو التسبيح، ونطرح التساؤل: ماعلاقة الصلاة بالتسبيح، ندرس الإجابة في ثلاث آيات متفرقات في ثلاث مواضع في القرآن الكريم، سورة الأنبياء، سورة النور ، وأخيرًأ نهاية سورة الأعراف.
# أولًا : آية يسبّحون الليل والنهار
﴿وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لا يَفْتُرُونَ ﴾ الأنبياء (20)
تبدأ الآية الكريمة ببيان ملكية الله عز وجل لكامل هذا الكون " له من في السماوات والأرض" ثم تتحدث عن الملائكة وتصفهم بقولها "ومن عنده " ثم تبين حقيقة عبادتهم " لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون"، مشيرة ضمنًا إلى العبادة الضعيفة مقارنة بأولئك، فإذا كنتم أنتم تستكبرون عن عبادة الله، أو تستحسرون عنها، أي يعتريكم السأم والملل منها رغبة في الدنيا فتتراجعون في الإقبال على العبادة، فإن الملائكة لا يستكبرون عنها ولا يستحسرون ولا تضعف همتهم فيها، وقوله يستحسر يعني أنه يفتعل الانحسار، فيتراجع شيئًا فشيئًا.
ثم تبيّن الآية التالية طبيعة تلك العبادة، بقولها: "يسبّحون الليل والنهار لا يفترون"، إًذا ماعنته الآية السابقة من العبادة هو هذا التسبيح، وإذا كان التسبيح عبادة باللسان والقلب، فالصلاة عبادة باللسان والقلب والحركات، نفهم أن أحدهما مشمول بالآخر، فالتسبيح في حد ذاته عبادة، والتسبيح في الصلاة عبادة أشمل وأكمل، ففيها انقطاع لله وأفعال تعبر عن لقاء العبد بربه.
الآية تبيّن أن أولئك الملائكة يسبحون لله ليلًا ونهارًا، وهو تعبير عن ديمومة التسبيح طوال الوقت وبلا انقطاع، وتختم بقولها " لا يفترون" الفتور هو سكون بعد شدة، كما نقول فتر الماء بعد سخونة، أو سكن أو خمد بعد نشاط، فإذا كان الإنسان متحمس في فعل شيء ما ثم تراجع عنه بالتدريج يقال عنه أنه فتر في ذلك الشيء، لم ينقطع عنه تمامًا ولكنه لا يؤديه بنفس حماسته في البداية، وعندما تقول الآية: لا يفترون أي أنهم مستمرون بنفس القوة دون تراجع، وفي هذا الوصف ذكر لحال هو عكس ما يقع فيه الإنسان حين يسبّح لله، فقد يبدأ بقوة ولكن سرعان ما تتراجع هذه القوة مع الوقت ويفتر.
من هتين الآيتين الكريمتين نلحظ بداية الربط بين التسبيح والصلاة، لأن الصلاة هي أعلى تعبير للعبادة، وقد أطلقت هذه الآية عن التسبيح أنه عبادة لله أيضًا، نكمل نفس البحث وفي آية أخرى، يقول الله عز وجل في سورة النور :
# ثانيًا: آية رجال لا تلهيهم
قال تعالى:
﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالأَبْصَارُ ﴾ النور (36)- (37)
جاءت هذه الآية بعد آية النور (الله نور السماوات والأرض)، تقول الآية متحدثة عن المساجد: "في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه" لقد أذن الله أن تشيد هذه المباني لغاية ذكر اسم الله فيها، ثم تذكر فعل أساسي في هذه المساجد وهو التسبيح في وقتين رئيسيين هما الغدو والآصال: " يسبح له فيها بالغدو والآصال" يسبح لله في هذه المساجد رجال تأتي صفاتهم في الآية اللاحقة.
المساجد هي بيوت الله وهي دور العبادة، وأبرز عمل يقام فيها هو الصلاة، والآية تشير إلى عمل يقام في المسجد وهو التسبيح، ثم تشير إلى وقتين يؤدى فيهما وهما الغدو والآصال، وهما وقتان مشتملان على أوقات صلاة، الغدو وهو فترة إقبال الشمس بعد طلوعها من الشرق، أما الآصال فهي المرحلة الثانية والتي تنكسر فيها الشمس بعد بلوغها مرحلة الزوال إلى جهة المغرب.
الآية التالية تصف أولئك الرجال الذين يقومون بالتسبيح في تلك الأوقات بأنهم : "رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله"، أي لا يمكن لمصالح الدنيا مهما ارتفع شأنها أن تثنيهم عن إقامة هذه العبادة لله في المسجد، حتى وإن كانوا في أعلى درجات انشغالهم أو في فترة نشاط وحركة الناس في التجارة والبيع وتحقيق المصالح، إلا أنهم يسرقون أنفسهم من ذلك الواقع للذهاب للمسجد للتعبد لله بالتسبيح في ذلك الوقت، مع ملاحظة أن الآية سَمّت ذلك التسبيح بذكر الله.
بهذا يتأكد ارتباط التسبيح بالصلاة، وكما يبدو أن الآية عنت بهذا التسبيح الصلاة كونها تحوي ذلك التسبيح، فالتسبيح بحد ذاته هو ذكر باللسان، وذكر اللسان ليس مقيد بالمكان، ولكن الآية قيدته ببيوت الله (المساجد)، والمسجد مكان مخصص للصلاة ولأننا لا نستطيع أن نفصل المسجد عن الصلاة تتأكد علاقة التسبيح الوطيدة بالصلاة،أو يمكننا أن نقول أن التسبيح درجة من درجات الصلة مع الله وأفعال الصلاة هي صلة بلا انقطاع.
والتساؤل الذي يُطرح في هذا السياق: هل هذا التسبيح نافلة أم من الواجبات؟ ما هو المستوى الذي تتحدث عنه الآية؟ فإذا كانت نافلة، فلم استخدمت الآية لفظة " لا تلهيهم "، فهل يصح أن يطلق على التجارة أو البيع الذي تتحقق فيه مصالح الناس والذي هو وسيلة لمعاشهم، هل يصح أن نقول أنها تلهي عن عمل إلا أن يكون ذلك العمل واجب؟ هذا السؤال ذاته الذي نطرحه على الآية التالية:
# ثالثًا : آية واذكر ربك في نفسك
قال تعالى:
﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنْ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلا تَكُنْ مِنْ الْغَافِلِينَ إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ﴾ الأعراف (204) - (206)
هذه الآيات هي نهاية سورة الأعراف، تبدأ بالحديث عن وجوب الاستماع للقرآن بأعلى درجات الإنصات : " وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا"، ثم تبيّن هدف ذلك الاستماع " لعلكم ترحمون"، ترحمون من خلال فهمكم لحقائق الكتاب، ولاستجابتكم لمواعظ الآيات، ثم تأتي الآية ما قبل الأخيرة آمرة النبي وكل من يؤمن بالقرآن: "واذكر ربك في نفسك تضرعًا وخيفةً ودون الجهر من القول" ، تأمر بذكر الله في النفس، وفي حالة من التضرع لله، وفي حالة الخوف من الله، وعلى أن يكون ذلك الذكر باللسان ودون أن يصل مداه إلى مسامع الآخرين، فلا تجهر به، ثم تحدد الآية وقتين هامين لهذا الذكر بقولها : "بالغدو والآصال" وهما وقتان سبق وأن أشارت إليهما آية سورة النور السابقة، وتختم بوصية : " ولا تكن من الغافلين" فمن لا يقوم بهذا الذكر يصاب بالغفلة.
تعقب الآية الأخيرة من سورة الأعراف بنفس ما تحدثت به سورة الأنبياء بقولها: " إن الذين عند ربك " مشيرة إلى الملائكة العابدين لله على الدوام، " لا يستكبرون عن عبادته " على أن ذلك الذكر المشار إليه في الآية السابقة هو عبادة لله، وعدم القيام بذلك هو نوع من الاستكبار، وتأتي الخاتمة لتبيّن نوع ذلك الذكر بقولها : "ويسبحونه" ثم تختم بفعل مهم وهو السجود "وله يسجدون" أثناء ذلك التسبيح وأثناء ذلك الذكر.
مرة أخرى يتضح لنا أن التسبيح عبادة لله، وأن عدم أداء تلك العبادة هو استكبار لا تقع فيه الملائكة، ثم يرتبط موضوع التسبيح بالسجود، فإذا كانت الآية السابقة جعلتنا نقول أن هذا التسبيح صلاة لأنه يقام في بيوت الله ( المساجد) فإن هذه الآية دعتنا للتفكير بنفس المنوال حين ذكرت السجود، فهذا التسبيح ليس مقتصر على اللسان فقط، بل إن أفضل أوضاعه حين يكون المؤمن ساجدًا لله، والسجود هو حالة من انقطاع لله تجعل المؤمن في صلة مع ربه.
آية التسبيح في سورة النور بيّنت أنه في المساجد، وآية التسبيح في سورة الأعراف بينت أن أحد أفعاله السجود، أما الآيات الثلاث التي وردت في حلقة اليوم فقد أكدت على أن التسبيح هو ذكر وهو عبادة لله، فإذا كان محور سؤال هذه الحلقة عن علاقة الصلاة بالتسبيح، فإن الإجابة من هذه الآيات أن التسبيح هو أحد أهم أفعال الصلاة، ولا يكتمل إلا بها كما فهمنا أن تلاوة الآيات هي أحد أفعال الصلاة أيضًا.
نعود إلى السؤال الذي حملناه من الآية السابقة (آية التسبيح في سورة النور)، هل التسبيح الوارد في تلك الآية نافلة، أم أحد الواجبات؟ لقد رأينا أن آية سورة النور بيّنت أن الرجال المؤمنون لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، واستخدام كلمة "اللهو" يناسبها أن الفعل واجب ولا يجوز الانشغال عنه، وهذا ما يتأكد في هذه الآية: فألفاظها توجب الفعل: فالفعل "واذكر ربك " فعل أمر على نحو الوجوب لا على نحو التحضيض لأن الآية الأخيرة تقول: " إن الذين عند ربك لا يتسكبرون عن عبادته" فترك ذلك الأمر يوقع الإنسان في الاستكبار على الله.
# خاتمة
يقول الله عز وجل في سورة المزمل :
﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ قُمْ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَهُ أَوْ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلْ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً ﴾ المزمل (1)-(4)
لقد اتضح لنا من خلال استعراض ثلاث آيات، أن التسبيح ليس مهمًا وحسب، بل إنه فعل من أفعال الصلاة الرئيسية، فلا يقتصر فعله على اللسان بل هي أحد حالاته فقط، وفي أفضل الحالات يكون بالقيام لله وأثناء السجود وفي المساجد بالغدو والآصال، وهذا يجعله فعل أساسي من أفعال الصلاة، وفي الصلاة يسبح المؤمن لله تضرعًا وخيفة.